25 ديسمبر، 2024 4:03 ص

“آخذك وأحملك بعيداً” .. سر الكتابة خارج المدارات !

“آخذك وأحملك بعيداً” .. سر الكتابة خارج المدارات !

خاص : عرض – سماح عادل :

رواية (آخذك وأحملك بعيداً)؛ للكاتب الإيطالي، “نيكولو أمانيتي”، ترجمة “معاوية عبدالمجيد”.. رواية درامية بالدرجة الأولى تتداخل فيها حيوات الشخصيات لتشكل مزيجاً متكاملاً، فهي رواية رومانسية عالية التشويق تتناول معاني مختلفة لفهم الحياة، وترصد حياة شخصيات مختلفة فيما بينها أشد الإختلاف يجمعها فقط بلدة صغيرة تدعى “ايسكيانو”.

الشخصيات..

“بييترو موروني”: طفل في عمر الثانية عشرة.. يعيش مع والد سكير ومتعجرف وعنيف يعمل في تربية الماعز، ومع أم كانت تعمل خادمة لدى الأغنياء ثم مرضت وهي مشوشة وضعيفة الشخصية، وأخ شاب في العشرين.

“غراتزيانو بيليا”: مغني رحال.. ترك بلدته وذهب إلى عدة مدن يعمل في البارات مغني، ويتناول المخدرات بإفراط ويتعامل على أنه زير نساء، يبلغ من العمر 44 عاماً، ويقع في غرام راقصة شابه في العشرينات من عمرها لكنها تستغله.

“اريكا ترتيل”: راقصة شابة رآها “غراتزيانو” ووقع في غرامها وعاش معها ستة أشهر تحت رحمتها، يقدم لها الهدايا وينفق عليها ويستجيب لرغباتها في أن تصبح ممثلة، لكنها تهجره لأجل رجل آخر ثم تعود إليه وتتزوجه.

“ايتالو ميلي”: حارس المدرسة في البلدة.. رجل عجوز، أصيبت امرأته بخلل نفسي نتيجة تهجم اللصوص على منزلها، وهو لا يعبأ بها، يمارس الجنس مع فتيات الليل الإفريقيات، ويقوم بعمله ثم يتقاعد في آخر الرواية.

“انطونيو باتشي”: ضابط في البلدة.. يعيش حياة عادية، متزوج ولديه أطفال، لكنه يحسد “غراتزيانو” على ترحاله وحياته المليئة بالمغامرات والنساء، ابنه الطفل “اندريا” مشاغب ويقوم بأعمال سيئة.

“برونو ميلي”: ضابط شرطة هو أيضاً.. وهو ابن “ايتالو ميلي”، يعيش حياة بائسة مع زوجة غضوبة، ويمارس عمله بعنف وعجرفة.

“فلورا بالمييري”: معلمة في الثلاثينات من عمرها.. كانت تعيش في مدينة “نابولي”، ولدت لأبوين عجوزين وبعد أن توفي والدها عانت الفقر، ثم مرضت أمها بمرض نادر، واضطرت أن تكمل تعليمها في بيت خالها، غير المهتم والذي تحرش بها جنسياً في إحدى المرات، واستطاعت أن تتخرج من الجامعة وتصبح معلمة وتنتقل هي ووالدتها إلى البلدة، وهي رغم سنها لم تدخل في علاقة حب لأنها تعتني بوالدتها التي أصبحت مثل جسد هامد.

“فيديريكو بييريني”: تلميذ مشاغب.. ينتمي لأسرة فقيرة، ماتت والدته بمرض السرطان، وأصبح يتزعم عصابة مكونة من تلميذين آخرين لمضايقة باقي الأطفال في المدرسة، وسيجبر “بييترو موروني” على القيام بمغامرة ستقلب حياته رأساً على عقب.

“غلوريا شيلاني”: طفلة من أسرة غنية.. تلميذة في المدرسة ورفيقة “بييترو موروني”، حيث كانت والدته تعمل خادمة لدى أسرتها، ونشأت بينها وبين “بييترو” صداقة طويلة ستتحول فيما بعد إلى قصة حب.

“ميمو موروني”: أخو “بييترو موروني”.. شاب في العشرين من عمره، أجبره والده على ترك التعليم والعمل معه في رعاية الماعز، لكنه يكره والده ويتمنى الخروج من المنزل لأن والده يسيء معاملته، ويتمنى أن يعمل في “ألاسكا” في إصطياد الأسماك، لكنه حلم لا يتحقق ويصبح بعد سنوات مدمن كحول مثل أبيه.

“باتريزيا شارنو”: فتاة في العشرينات.. حبيبة “ميمو موروني”، تعاني من آثار “حَب الشباب” على وجهها مما جعلها فاقدة الثقة في نفسها، تعيش مع “ميمو” علاقة حب، لكنها غير راضية تماماً عنها، لكنها تستمر لأنها تخاف من الهجر ومن ألا تجد رجل آخر يحبها.

الراوي..

الراوي عليم يتنقل في الحكي عن الشخصيات.. يعرف عنهم كل شيء ماضيهم وحاضرهم والأحداث التي يمرون بها وكيف يشعرون وما هي أفكارهم.

السرد..

السرد إيقاعه متواتر، مرة يصبح سريعاً ومرة يتباطيء، يتنقل الراوي في الزمن صعوداً وهبوطاً، كما يتنقل بين الشخصيات بخفة رائعة، يقسم الرواية إلى أقسام معنونة بأرقام، والرواية تقع في حوالي 450 صفحة من القطع المتوسط، وتتميز بالتشويق العالي، حيث تخطف الأحداث أنفاس القارئ ثم تعود وتهدئه لترجع تضعه في درجة عالية من التوتر.

الضعفاء يخسرون..

تتميز الرواية بالعمق والزخم.. فهي تحكي عن الشخصيات وتقدمها بعمق، كما أنها تتميز بكثرة عدد الشخصيات، بالنسبة للبطل الذي يقول الراوي أنه البطل الرئيس في الرواية؛ وهو “بييترو”، هو طفل مستكين، يتعرض لمضايقات من عصابة “فيديريكو”، ولا يدافع عن نفسه وإنما يستسلم تماماً يتكور على نفسه حين يهمون بضربه ويتلقى الضربات الموجعة ويرحل، وحين أجبروه على مصاحبتهم في إحدى الأعمال الشريرة رضخ دون مقاومة، فقد أجبروه على وضع قفل على باب المدرسة حتى يهربوا من تسليم واجباتهم المدرسية، وحين كشفهم الحارس وقاومهم تعرض “بييترو” لرصاصة طائشة ثم وشى به الحارس، واضطر هو أن يعترف على العصابة ووعدته المعلمة “فلورا” أنه لن يرسب هذا العام، لكنها لم تساعده لأنها بدورها تعرضت لأزمة في حياتها نتيجة لإستكانتها وضعفها.

فالكاتب يريد أن يقول، على لسان أبطاله، أن الضعيف يخسر دوماً، حيث أن الناس يستهينون به ويؤذونه، وقد قالت له المعلمة “فلورا” ذلك حين تسلل “بييترو” إلى منزلها، لكي يعاقبها على نكثها لوعدها له، لكنه وجدها في حالة مزرية وقد أصابتها نوبة جنون وحين صارحته بضعفه وأن الناس يستهينون به لأنه لا يقوى على رد الشر عنه دفعها بيديه فتأذت رأسها من حوض الإستحمام وماتت.

تحول “بييترو”، في لحظة نحس، من طفل مستكين لا يقوى على المواجهة إلى قاتل، وظل يفكر في تسليم نفسه للشرطة، لكن رفيقته “غلوريا” أقنعته بالتكتم على الأمر ووافقها على رأيها، لكن حين حدثت مواجهة أخرى بينه وبين تلك العصابة الشريرة التي تضطهده واجه هذه المرة بشجاعة، وضرب أحد أفرادها بقوة ثم أعلن لهم أنه قتل الآنسة “فلورا”، وتسبب ذلك في دخوله إصلاحية للقُصر، واستطاع أن يكمل تعليمه، وبعد ستة سنوات من العقوبة أوشك أن يخرج وأن يلتحق بالجامعة، وفي رسالة إلى “غلوريا” صرح لها أنه ربما اعترف بجريمة القتل ليتخلص من عائلته ومن حياته الرديئة؛ وها هو قد تحول مصيره إلى الأفضل.

الحب وتعقيداته..

تتناول الرواية أيضاً علاقة حب معقدة بين “غراتزيانو”، الرجل الذي تخطى الأربعين وبين الشابة “اريكا”، الذي قرر منذ أول وهلة رآها فيها أن يتزوجها ويذهب بها إلى بلدته ويغير حياته ويفتتح محلاً للملابس، لكنها عاندته ولم تبادله نفس الحب بل إستغلته وجرته معها إلى إحدى المدن ليساعدها في أن تتعلم التمثيل وتصبح ممثلة تليفزيونية، وتفشل ويقرر هو العودة إلى بلدة دونها، لكنها تشعر بالضياع من دونه وتوافق على الزواج منه، لكن في آخر لحظة تهجره، وتعيش مع منتج لأحد البرامج التليفزيونية، وبالفعل يوفر لها هذا المنتج فرصة الظهور على التليفزيون، لكنها بعد وقت تفشل تماماً وتتسبب في إنهاء هذا البرنامج التليفزيوني فتعود إلى “غراتزيانو” وتسافر إلى بلدته لتقنعه بالزواج منها والسفر إلى مدينة أخرى، وفي تلك الفترة التي هجرته “اريكا” فيها يسعى “غراتزيانو” إلى إغواء “فلورا” الذي رآها بالصدفة في إحدى البارات صباحاً تتناول فطورها، ورغم أنها سيدة محافظة تعيش في سلام وهدوء ودون إختلاط بأحد، إلا انه يجرها لعلاقة حب عاصفة ويمارس معها جنساً رغم أنها ظلت عذراء طوال أكثر من ثلاثين عاماً، ويعدها بالزواج، لكن بمجرد ظهور “اريكا” في حياته يعود مدلهاً في حبها ويسافر معها ليتزوجها ويهجر “فلورا” دون وداع أو توضيح.

وتكتشف “فلورا” أنها حاملاً وأنها تحب “غراتزيانو” ولا تستطيع التخلي عنه، ويصيبها بعض الجنون المختلط بالحزن لكنها تتعرض للقتل على يد “بييترو”.

وحين تسعى “اريكا” مرة أخرى وراء حلم التمثيل يقرر “غراتزيانو” أن يهجرها ويعود لـ”فلورا”، بعد أن يتأكد انه أحبها هي ويريد استمرار حياته معه فيعود إلى البلدة يجدها ميتة.

وأثناء ذلك يبرع الراوي في وصف مشاعر “غراتزيانو”، وكيف يشعر تجاه الفتاتين وتجاه نفسه، وينقل مشاعره وأفكاره ببراعة، كما يبرع في تصوير “فلورا” ودواخلها، وكيف تشعر أنثى تعرضت لحياة صعبة حين تحب وحين يتم هجرها.

الرواية ثرية بالشخصيات التي يختلفون فيما بينهم في ميولهم وأحلامهم وطباعهم الشخصية، كما تصور الفروقات بين الأغنياء الفقراء في حيواتهم ومصائرهم.

يقول المترجم عن الرواية أن هذه الرواية، ورواية أخرى للكاتب بعنوان (أنا لا أخاف)، تعد علامتان على تميز “أمانيتي” وعبقريته، حيث يقدم “أمانيتي” رؤية جيل ظل خارج مدار الأدب وخارج مجال اهتمامه، وهنا سر الكتابة خارج المدارات، الكتابة باعتبارها فعل حرية وفوضى وإستبصار، والكاتب فيها متحكم بجميع أدواته وخصوصاً بمعمارية الرواية.

“آكلو لحوم البشر” اسم جيل روائي جديد تزعمه “نيكولو أمانيتي”، اسمٌ مُدوّ، محير ومربك، متوحش وفضّاح، العالم مخز، هذه هي الحقيقة، ولحم البشر مأكول ورخيص، وهو أقل الأشياء اعتباراً في عالم تهاوت جميع قيمه، اسم يقلق الراحة، يزيل القشرة ويكشف الوسخ المتلبس باللحم والعظم، ولأنه كذلك فإن “أمانيتي” يستنبط أسلوباً خاصاً، لم نألفه من قبل لا في الرواية الأوروبية ولا الإيطالية، علامته الفارقة: “آخذك وأحملك بعيداً”.

رواية طويلة تقرأ مرة واحدة.. لن تقدر على تركها قبل إكمالها، ستجد نفسك غارقاً في التفكير في حياتك قائلاً: “متى سأستفيق من هذه الخرافة ؟”، حينما ستبدأ الإجابة يكون الكتاب قد تحول من كلام على الورق إلى طريق، ما حقيقتك ؟.. هل لديك القدرة على تغيير مسارات حياتك ؟.. هل يجب أن تكون على هامش الحياة، أم أحد أبطالها ؟.. أسئلة لم تطرح أبداً في أثر روائي بكل هذه القسوة والدويّ.

الكاتب..

“نيكولو أمانيتي”.. روائي إيطالي، ولد في “روما”، في 25 أيلول/سبتمبر عام 1966. لفت الأنظار إليه عام 2001، عندما نشر روايته (أنا لا أخاف)، والتي نالت جائزة “Viareggio-Repaci” الإيطالية الرفيعة، كما تُرجمت إلى 35 لغة، فضلاً عن تحولها لاحقًا، مثل بعض أعماله الأخرى، إلى فيلم.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة