يـكتشف المراقب دون كبير عناء أن هناك اختلافاً عراقيا في فهم المسألة الوطنية من حيث الأولويات والمعالجة . ويلاحظ أن تفاعل هذا الاختلاف على الساحة السياسية العراقية قد اخذ يفرز مواقف واتجاهات وردود فعل تؤشر جميعها على أن الأزمة قد وصلت حداً قد يؤثر على الاستقرار السياسي والاجتماعي وان حالة الإجماع النسبية التي تعايش معها الوطن عبر مراحل وصعبة بحاجة إلى مزيد من الاهتمام . ومن الطبيعي أن يكون هذا الاهتمام وفق رؤية وإستراتيجية جديدة وبوسائل أكثر تطوراً مما كان عليه الحال في السابق . فالتغيير شمل كثيراً من الأشياء والأفكار وأحيانا بشكل انقلابي ، مما جعل الحاجة إلى التجديد الجذري ضرورة ملحة وأكثر فعالية . فليس من الممكن أن تتعامل الحكومة مع المرحلة ومستجداتها وفقاً للتقاليد القديمة تفسيراً وتحليلاً وأدوات عمل .
نـعم ، لقد كان هناك دوماً تبايناً في وجهات النظر حول المسألة الوطنية وكانت تعبر عنه مدارس سياسية أو بالأحرى اتجاهات سياسية أو أساليب عمل وعاملين لهم خصائص وأفكار تشكل اجتهادات ومحاولات أكثر مما تعكس إيديولوجيات ونظريات . ألا أن الواقع الراهن يختلف ، ففي حين تطرح المسألة الوطنية بتفاصيلها كافة وبتواتر سريع ، وهذا يحتم وجود التصورات والبرامج وأساليب العمل والقرارات الحاسمة والمستقبلية ، يلاحظ أن ارتباكاً في التعاطي مع هذه المسألة وما تمليه من إجراءات يبدو عاماً ويخشى أن يستفحل يوماً بعد يوم .
قـد يكون ذلك ناتجاً عن القناعة بما تحقق أو ناتجاً عن الصعوبة في توليد الاستجابة المتزامنة والمتساوقة مع المتغيرات وقد يكون القدر في ذلك أن الإحداث داهمت الحكومة وأجهزتها وقواها السياسية الفاعلة بصورة عنيفة ومتسارعة ، ألا إن الملاحظ أيضا أن التحضير لها لم يكن كافياً وكذلك الحشد الجماهيري والتعبئة العامة .. مما جعل الوضوح في السلوك والفعل مشوباً بالارتجال وجعل بالمقابل العمل غير المعلن مشوباً بالشك والحيرة ومبرراً للتحلل من المسؤولية .
إن المسـألة الوطنية من حيث كونها تتصل بالدولة والشعب والنظام السياسي والخيارات الأساسية والأوضاع العامة والأداء والانجاز والحضور والدور كدولة تحتاج إلى المراجعة والاهتمام المستمر . وليس القول بأن ذلك مرهوناً بالواقع الدولي والإقليمي والظروف .. يمكن أن يقلل من مستوى الالتزام بهذه الأولويات والإحساس بها لأي جهة تضع نفسها في أطار المسؤولية العامة ، هيئـة أو أفرادا .
إن مـا خبره العراق وشعبه من أحداث وتطورات ومنذ ولادة الدولة لغاية السنوات الأخيرة كان يضع أي مسؤول أمام الشروط الموضوعية كتبرير ، وكان العراق كأية دولة في حالة انتظار أو حتى أشعار آخر .
والآن وبعـد أن فرضت المرحلة نفسها بفعل كل المتغيرات المعروفة للجميع دولياً وعربياً وإقليمياً ووطنياً ليس هناك فرصة لا للتبرير ولا للانتظار ولا للتخمين أيضا . فلو أمعنا النظر لوجدنا أن أركان الدولة ومقوماتها وشروط بقائها قد أصبحت الآن في حالة من التطور تسمح باتخاذ القرارات التاريخية الحاسمة ، وما هو أهم من ذلك أن مؤهلات الدولة تمكن من النظر إلى المستقبل بصورة أكثر يقينية ولو جزئياً ، وان هذه الفرصة النسبية ليست مضمونة دائماً وأبدا ، فليس مؤكداً أن مشكلات العراق الوجودية والكيانية قد وجدت طريقها إلى الحل والحسم ، فرمال الجوار الإقليمي متحركة جداً ومن الممكن أن يحدث الكثير دون أن يستطيع احد ضبطه في مرحلة قلت فيها فرص الدول في ضبط تفاعلاتها . لذلك فالمنطق والمسؤولية تفرض على كل واحد من الذين يرتبطون بهذا الوطن أن يساعد على تجديد الوعي بالمسالة الوطنية وبالحوار المسؤول والرأي الصريح والملتـزم .
نـعم ، هناك حوار بشأن واقع الدولة ومستقبلها وهناك شكوك واحتمالات وأحيانا تحليلات تقود إلى نتائج ليست مستحبة . فالمفروض أن يشمل الحوار الوطني هذه التفاصيل ، كأن يجاب على استفسارات أولئك الذين يعتقدون بأن مؤامرة الوطن البديل لم تنته بعد ؟ ومن المناسب أن يجاب على ذلك بدقة وبإجراءات عملية . والمفروض في هذا المجال أن يتركز في وعي المجتمع الفرق بين التوطين الناجم عن التهجير الاختياري أو ألقسري أن كان هنالك مثل هذا التهجيـر .
ومـن تفاصيل المسألة الوطنية أيضا الديمقراطية ـ منهجاً ومؤسسات وأداء … فالأسئلة حولها كثيرة ومحاولات تقويمها أكثر ، وهناك من يعتقد أنها غاية وآخرون يعتقدون بأنها وسيلة وفي الفئتين هنالك من يجير الفرع الديمقراطي لمصلحته وأهدافه ، أن لكل ذلك أثر على مصداقية الالتزام بالمنهج الديمقراطي وأصبحت الديمقراطية اقل بريقاً مما كانت عليه . ولهذا فأن الديمقراطية كجزء من المسألة الوطنية تحتاج أيضا إلى تأكيد في الوعي الاجتماعي باعتبارها منهجاً يحقق المصالح بالعدل ويفتح باب الإبداع ويؤهل لمستقبل أفضل للمجتمع والوطـن . وهذا يستدعي ليس فقط العمل على إزالة ما يعلق بها من شوائب وإنما صياغتها وفق اهداف واضحة للدولة وملتزم بهـا .
وفـي هذا تبدو زيادة فعالية المؤسسات الديمقراطية الرسمية بنى وتشريعات وزيادة دور المؤسسات السياسية الشعبية وإعادة تقويمها لدورها من الشروط الأساسية لإقناع المجتمع بأن الديمقراطية هي نهج وخيارة النهائي .
[email protected]