قلما نجد قاصاً شاباً أسس لنفسه ، وبجدارة لغة جديدة لفن القصة القصيرة جداً وأجاد فيها …. ذلكم القاص هو ( نهار حسب الله ) الذي انماز عن مجايليه ، بأنه ذو نصوص تشي بضبابية المجهول ، وجذوة المحتمل ، فمنجزه القصصي ( ثورة عقارب الساعة )(1) يقربنا كثيراً من آلامنا ومعاناتنا حتى نكاد أن نلعقها !! . يطل عينا القاص من خلال مجساته التي يستشعر بها هسهسات المحن المكبوتة ، إذ يؤكد كما هو واضح على الفكرة ، مما يجعلنا نزعم أنه يفهم الأدب بدوره الراديكالي التغييري ، فضلاً عن دوره الإمتاعي ، وبتضافر هذين الفهمين تتوافر بنية داعمة لتأويل نصوصه . تقترح هذه الورقة قراءة وصفية للمتعاليات النصية ( العنوانات ) التي وظفها القاص ضمن متصوراته الذهنية للموجود العيني للكلمة , فالعنوان ثريا النص ومنارته ، وهو أول لقاء إشاري إشهاري مختزل تلتقي به عينا المتلقي ، ومن الضرورة بمكان الإشارة هنا إلى أن العنوان ـ لازمة نصية ـ لا يأتي اعتباطاً بل ينتجه المبدع ضمن كدٍ ذهني مضنٍ ؛ لما يمثله من حقل دلالي عام للنص المنتج ، فهو محطة الاستيعاب الأولى للمتلقي جاء العنوان الغلافي للمجموعة موسوما بـ ( ثورة عقارب الساعة ) معلناً منذ البداية بيان ولادة التغيير على مستوى الزمن مؤسساً لوعي راديكالي ؛ بتوظيف نسق الجملة الإسمية الدالة على الاستقرار بهذا التغيير ، ولاسيما أن القاص قد جمع بهذا العنوان خيوط جميع القصص ؛ لما لهذا العنوان ودلالته بما ورد في بقية القصص التي أظهرت ( الهموم المتراكمة في مجتمع ينوء بثقل الظلم ) كما يشير القاص في تقديمه للمجموعة . من الملاحظ أن معظم عنوانات قصص المجموعة جاءت من النوع الملفوظ ( أي من جملة أو لفظة واردة في النسيج القصصي ) وجاءت بحسب الصيغ الإحصائية الآتية ( 23 قصة ذات عنوان مفرد نكرة وهي : براءة / وفاء / مراقبة / مفاتيح / انتخابات / ظلام / اغتصاب / إصلاح / دموع / ضفائر / تذكار / مشانق / أسئلة / إضراب / سهرة / شذوذ / أزمات / تضحية / قرارات / مدينة / غائبون / صور ) وقصتان ذواتا عنوان مفرد معرفة وهما ( الساعات / القلم ) مثلت هذه العنوانات المفردة مسكوكات النص القصصي فلا يمكن الإفلات من منحنياتها الدلالية ، ولاسيما أننا نسلم بمقولة رولان بارت الذي يقر بأن العنوانات أنظمة دلالية سيميلوجية ، تحمل قيماً أخلاقيةً واجتماعيةً وأيدلوجية ، وبمعنًى آخر أننا لو قرأنا هذه العنوانات قيمياً نجدها لا تفارق معطيات الواقعية النقدية التي نعانيها ، وقد أعطى تنكيرها دلالة الإطلاق دون التقييد ، عدا التعريف بالساعات والقلم ؛ لتقييدهما بالعلمية والاختصاص ، أما بقية العنوانات فقد جاءت ذات عنوانات مركبةً إسنادياً أو مركبةً إضافياً وأن هذه العنوانات الجملية ، أضفت على النصوص قوة وسيطرة على هيكلية القص ، فقد أقفل الخبر المبتدأ ، وأقفلت الصفة الموصوف ، وكذا الحال بالنسبة إلى المضاف إليه ، الذي أقفل دلالة المضاف ؛ مما أعطى خصوصية التعريف والإيضاح الإشاري ، فلو أخذنا نموذجاً لصيغ العنوانات الجملية التركيبية نجدها كالآتي ( أحلام جائعة ) : أحلام معطى معنوي في جزئه الأول ، أما في جزئه الثاني ، فقد شكل منه جانباً مادياً ، مما أدى إلى خلق استعارةٍ مكنيةٍ مدهشةٍ ، نستطيع من خلالها أن نعطي إحدى تأويلاتها بأننا طعام لهذه الأحلام !! ونسوق مثالاً آخر وهو ( كرامة حذاء ) معطى معنوي في جزئه الأول ؛ لدلالة سامية اجتماعياً أضيفت إلى معطًى مادي ؛ لدلالة وضيعة اجتماعياً مما شكل عنواناً إدهاشياً جديداً جمع بين المتناقضين !! إن مجمل عنوانات المجموعة جاءت مرشدة إلى التأويل بالتلميح أو التصريح بصورة محايدة أو محيرة إذ أحالها المبدع ، إلى فضاءات مفتوحة ، قيدت في انفتاحها متن النص القصصي من اجل إيصال رسالته بالتزامه النهج الواقعي بتعامله مع النص الحجاجي ، الذي يهتم بالهم الجماعي ؛ بغية إقناع المتلقي أو التأثير فيه أو تعديل سلوكه ، ضمن الفضاء الفكري والاجتماعي ، بل أن هذه العنوانات ذات محمولات ثقيلة تقريراً ، وإيحاءاً ، وختاما فإن هذه العنوانات تحاول استدراج المتلقي إلى الإفصاح عنه بالنيابة ، عما يعانيه ضمن مكنوناته الداخلية المخيفة والمؤلمة .
(1) ثورة عقارب الساعة ، قصص قصيرة جداً ، نهار حسب الله ، دار السندباد للنشر والتوزيع ط 1 / 2011م ، مصر .