23 ديسمبر، 2024 11:06 م

أفتتح مهرجان جرش السنوي في العاصمة الاردنية عمّان صيف عام 1996، ضيوف المهرجان أحتضنهم فندق ( ريجنسي ) الواقع بالقرب من المركز الثقافي الملكي في منطقة الشميساني . ودائماً ما توجه دعوات لشعراء ونقاد عراقيين سواء كانوا داخل العراق أو خارجه . وأذكر جيداً كان من بين المدعوين الناقد الدكتور حاتم الصكر القادم من صنعاء اليمن . في ذلك اليوم ذهبت الى فندق ريجنسي للقاء بعض الاصدقاء من العراقيين والعرب ، أول دخولي صالة الفندق الكبيرة التقيت العديد من الاصدقاء الاردنيين ، كان الشاعرالاردني جريس سماوي مديراً للمهرجان في تلك الدورة . وفي بار الفندق المطل على الصالة كانت الاصوات عالية في داخله  بسبب الضحك والقراءات الشعرية التي كان يفتعلها محمد الحربي وصديقه عبد الله الصيخان ، وهما شاعران من السعودية . كانت المطربة اللبنانية نجوى كرم تقوم مع فرقتها باجراء بروفات غنائية تحضيراً ليوم مشاركتها في المهرجان ، بينما أصوات الغناء تصل الى قاعة الفندق الكبيرة ، نجوى وفرقتها في قاعة يطل بابها على القاعة الرئيسية . أحد الاصدقاء من الشعراء دخل قاعة البروفات الخاصة بنجوى كرم واصبح يشاركهم الرقص الامر الذي جعل من المطربة اللبنانية كرم ان تغص بالضحك ! وباشارة منها الى مرافقيها اخرجوا صديقنا الشاعر . بعدها أوقفت نجوى كرم بروفاتها التي شارفت على الانتهاء ، في تلك اللحظات شاهدت من بعيد الناقد حاتم الصكر يجلس مع الشاعر الاردني أمجد ناصر القادم من لندن ، جلست معهم حتى خرجت المطربة نجوى كرم من قاعة البروفات مع مدير اعمالها ويرافقها البعض من المصورين الذين كانوا يلتقطون لها الصور وهي تسير داخل قاعة الفندق الكبيرة ، الجميع توجهت انظارهم اليها ، اصبح طريقها من جنب مائدتنا وهي تتحدث مع مدير اعمالها باللهجة اللبنانية حينها اصبحت تلتفت يمياً وشمالاً وفي تلك الاثناء سقط أحد المصورين في حضن أحد الجالسين معنا كان يجلس بالقرب من الناقد الصكر ، ضحكت نجوى كرم وهي ترشقنا بنظراتها الجميلة ، بينما الناقد حاتم الصكر قال للمصور الذي سقط  بحضن أحدنا ، ماذا سنفعل بك يا أخي ، كنا نتمنى ان تسقط نجوى كرم في حضننا لا أنت !  ، ضحكنا كثيراً لهذا الموقف الذي أضاف أجواء جميلة للجلسة . في تلك الايام التي سبقت أنعقاد مهرجان جرش في ذلك العام كان جواز سفر الشاعر الكبير سعدي يوسف قد أنتهت صلاحيته ولا بد من تجديده ، كان ابو حيدر المسكون بالرعب والخوف من أخبار العراق والاغتيالات لمعارضي النظام في الخارج  التي تتناوب عليها سفاراته ، لم يذهب لتجديد جواز سفره في سفارة النظام داخل العاصمة عمّان ، الامر الذي يحتم عليه تجديد جوازه فهو كثير السفر الى دول عربية وأوروبية تلبية لدعوات ثقافية توجه له . كما وأنه عاش أكثر من نصف حياته منفياً ولهذا جعله يخاف الذهاب الى السفارة ! وقد نشرت بعض الصحف الاردنية هذا الخبر الذي تسرب بطريقة أو بأخرى بعد أن كتب قصيدة جميلة وهو يصف فيها سفارة النظام العراقي في عمّان ويصف أبوابها المرعبة التي جاء تصورها في مخيلة الشاعر ، ( سوف أمضي إليهم ) ، هكذا ابتدأ سعدي قصيدته الصغيرة التي حصلت عليها بعد دخوله الى قاعة فندق الريجنسي وهو يمسك بجريدة فلسطينية كانت قد نشرت هذه القصيدة . وما أن علمت السفارة العراقية بما كتبه سعدي يوسف وخوفه منهم ، ذهب أحد اصدقاء الشاعر وهو فنان عراقي كبير ليقوم بتجديد الجواز لتنتهي معضلة تجديد جواز سفر الشاعر الكبير سعدي يوسف . وفي تلك الايام صدرت ترجمة سعدي يوسف لرواية ( حياة متخيلة ) عن دار المدى في دمشق  للروائي الاسترالي ديفيد معلوف الذي وصل عمّان ليلتقي بشاعرنا الكبير سعدي يوسف مترجم روايته . ومعلوف هو قامة كبيرة في الادب الاسترالي ، وقد حاز على العديد من الجوائز المحلية والعالمية وأثارت أعماله جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية الاسترالية والعالمية ايضاً ، ديفيد معلوف المولد عام 1935 في أستراليا لاب لبناني وأم بريطانية لا يفخر ولا يتحمس لاي من هذين الانتمائين ، وهو لا يتحمس كذلك للأنتماء الى استراليا كما جاء ذلك التنكر صريحاً في إحدى مقابلاته التي أجرتها معه إحدى الصحف العربية التي قدمته معتزة بجذوره اللبنانية ، وكان رده ( أنا لا أنتمي لاي بلد أو عرق أو جغرافيا ، ان انتمائي الوحيد هو للغة ) .  وتهتم رواية معلوف ( حياة متخيلة ) بالسنوات العشر الاخيرة من عمر أوفيد المنفي بين أنصاف البرابرة في تومبيس على الشاطيء الغربي للبحر الاسود ، ويتخذ الروائي من قصة اوفيد المدرجة في التريستيا وذكريات هادريا لمارغريت يوسينار جذراً لروايته ، لكن موضوعها بكل ما فيه من تفاصيل وأحداث هو من صنع الروائي معلوف ، واوفيد شخصية خرافية عفوية اجبر بقوة النواميس ان يحول نفسه الى مخلوق من الألم الآني ، يتدرج في سلم الترقية الى أن يتخلى في النهاية عن أناه الذاتية من خلال مصاحبته لولد متوحش يقال أنه كان يعيش بين الذئاب ، يرافقه اوفيد ويبدأ بالتعلم منه ويفاجئه ان يعلم ( انه لم يكن كما تخيلت ، لم يكن هناك اية ذئاب ) في السهول الواسعة المهجورة في الفلاة الواسعة غير المحدودة ، اللازمنية المحكومة بالفراغ ، يجد أوفيد أن آثار اقدام حياته تقود الى هذا المكان ليس إلا . يموت مشوان شاعراً بالرضي إذ يرى الولد يخطو ( الى بعده الخاص ) مؤكداً لنفسه ، انا عمري ثلاث سنوات ، انا في الستين ، انا في السادسة انا هناك .. هذه فكرة رواية حياة متخيلة التي نقلها لنا شاعرنا الكبير سعدي يوسف عام 1996 الى العربية ، ويعتبر يوسف أول من عّرف القاريء العربي على الروائي ديفيد معلوف بهذه الترجمة ، ثم ترجم بعد عامين رواية أخرى اسمها ( ملعبة الطفل ) وايضاً صدرت عن دار المدى عام 1998 . وصل ديفيد معلوف الى عمّان لتقام له احتفالية في دارة الفنون يحضرها مترجم روايته الشاعر سعدي يوسف ونخبة من الادباء العراقيين والاردنيين ، لقد قدم شاعرنا الكبير يوسف الروائي معلوف أجمل تقديم ، ودخل معه في مناقشات اكثر من رائعة عن روايته التي ترجمها ، كما شارك الجمهور في هذه المداخلات التي طالت على مدى ساعات . ثم تمت دعوته في بيت الشاعر سعدي يوسف ليدخلوا في حوار عميق وطويل عن الادب بشكل عام وعن روايته ( حياة متخيلة ) بشكل خاص ..