22 نوفمبر، 2024 10:40 م
Search
Close this search box.

حين يفتي العلماني في قضايا الدين

حين يفتي العلماني في قضايا الدين

الموضوع الأبرز الذي مابرح العلمانيون يفتون فيه هو موضوع العلاقة بين الدين والشأن العام، أو مايعبرون عنه بفصل الدين عن السياسة والدولة. وهذه الفتوى لها مجموعة من الدلالات؛ أهمها:
إن العلمانيين يتطفلون على اختصاص علمي دقيق، ويقتحمونه دون أن تكون لديهم دراية بعلومه ومعارفه ومناهجه؛ بدءاً بعلوم العقيدة والكلام والقرآن والحديث والرجال والفقه، وانتهاءً بمناهج الشريعة والاجتهاد فيها، وليس لديهم القدرة العلمية على الإفتاء وإصدار الاحكام الشرعية. وكما أن من حق الطبيب أن يجتهد في اختصاصه، وكذا المهندس وخبير القانون؛ فإن إصدار الفتوى والحكم الشرعي هو اختصاص الفقهاء حصراً، وأن طرح رأي اختصاصي في القرآن الكريم أو الحديث الشريف هو مسؤولية المختصين بعلوم القرآن ودراية الحديث وعلم الرجال. فكيف إذا كانت هذه الفتاوى ترتبط بنسف جانب حياتي أساس؛ هو الشأن العام أو السياسة وقيادة المجتمع والإقتصاد. فيأتي أي علماني؛ سياسي أو صحفي أو رجل أعمال أو طالب جامعي أو ممثل سينمائي أو مذيع تلفزيوني، ويفتي بكل سهولة وسذاجة: الدين لاعلاقة له بالسياسة والاقتصاد!! ويجب فصل الدين عن الدولة!! والنبي محمد لم يؤسس دولة!! والاسلام دين روحي وعبادي!! وغيرها من الفتاوى الكبيرة.
إن العلمانيين يمارسون أبشع عمليات الإقصاء السياسي والفكري لمن يخالفهم فكرياً، وهذا هو ديدن العلمانيين؛ فهم حين يفتون بفصل الدين عن الدولة والسياسة والشأن العام؛ فإنهم بذلك يعمدون الى إقصاء خصومهم الإسلاميين عن ممارسة العمل السياسي والحكومي؛ بوسائل وأساليب غير سوية، ويحاولون العودة الى الاستفراد بالحكم؛ كما كانوا في العراق منذ العام 1917 وحتى العام 2003؛ حين تفردوا بالسلطة ومارسوا استبداداً ودكتاتورية وفاشية مطلقة ضد من يعارضهم، ولاسيما ضد الإسلاميين. ولاتزال رائحة دماء الإسلاميين الذين ذبحهم العلمانيون تشم في المقابر الجماعية والسجون والمعتقلات والشوارع والأزقة والأهوار والصحاري. وبالتالي فإن دعوات العلمانيين لاقصاء الدين عن الدولة والحياة العامة تقف وراءها محاولات التفرد مرة أخرى بالحكم، والعودة الى سياسة القمع والإقصاء والتشريد والقتل ضد الإسلاميين.
إن العلمانيين يعملون على تزييف الحقائق الموضوعية؛ لأنهم حين يطبقون معايير العلمانية التي نشأت في أوربا في إطار مخاضات اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية لصيقة بالبيئة الأوربية وبصراعات التنويريين مع الكنيسة والكهنوت المسيحي؛ على بيئة إسلامية عربية لها خصوصياتها الدينية والعقلية والإجتماعية؛ فإنهم بذلك يقيسون الشريعة الإسلامية بالشريعة المسيحية، ويشبهون المرجعية الدينية الإسلامية ومنظومتها بالكنيسة المسيحية في عصور اوربا المظلمة ومابعدها. وبهذا التزييف يعمل العلمانيون على مصادرة عقول الناس والضحك عليهم واستلاب وعيهم؛ وهي جريمة عامة لاتقل خطورة عن جرائم القتل والقمع والتشريد التي مارسها العلمانيون طيلة عقود من تاريخ العراق المعاصر، أو جريمة الإفتاء في الموضوعات الدينية.
وأحاول هنا تفكيك الدلالات السابقة، و مقاربة مايترشح عنها من إشكاليات؛ ولاسيما إشكالية العلاقة بين الإسلام والدولة، أو الشريعة والشأن العام.
مبادئ الإسلام وتعاليمة وأصوله وفروعه وأحكامه؛ تفرض بداهةً عدم الفصل بين الإسلام والشأن العام والدولة والسياسة والاقتصاد؛ فالإسلام هو خاتم الشرائع، ولايمكن أن تكون الشريعة الخاتمة ناقصة. وتتضمن الشريعة الإسلامية كل مايحتاجه الإنسان لتنظيم حياته؛ سواء في البعد العبادي أو الإجتماعي أو الإقتصادي أو السياسي. وبمراجعة سريعة لأبواب الفقه يمكن الوقوف بسهولة على هذه الحقيقة. أي أن السياسة والعمل السياسي وأهداف العمل السياسي والممارسة السياسة؛ كلها جزء من الإسلام ومن شريعته، وليست السياسة فعلاً أو فكراً أو هدفاً مستقلاً عن الدين وشريعته؛ بل هي جزء لايتجزء عن الإسلام، ولايوجد فصل مطلقاً بين أجزاء الشريعة الاسلامية؛ فهي تكمل بعضها. وعليه؛ لاتوجد في الإسلام ثنائية اسمها السياسة والدين. وأرى من الضروري جداً أن يراجع العلمانيون أحكام الشريعة الاسلامية في مصدريها الأصليين (القران والصحيح من السنة الشريفة) والمصادر الكاشفة (الإجماع والعقل)؛ ليتعرفوا على مستوى موضوعية فتاواهم القاضية بفصل الإسلام عن السياسة والدولة وعموم الشأن العام، وهل إن ذلك ممكناً من منظار الإسلام!!
أما قياس الاسلام وشريعته الشاملة الكاملة على الديانة المسيحية فهو قياس باطل منهجياً، وكذلك قياس الصراع بين الكنيسة وجماعات التنوير في عصر النهضة الأوربية على علاقة المنظومة الدينية الاسلامية بالواقع الاجتماعي لبلاد المسلمين هو قياس باطل؛ لأن هناك اختلاف حاسم في الظروف السياسية والبيئة الاجتماعية؛ فضلا عن الخلاف الأساس بين الشريعة الاسلامية والعقيدة المسيحية، وبين سلطة الكنيسة ودورها وسلطة الشريعة الإسلامية ودور المرجعية الدينية الإسلامية. وبالتالي فالعلمانية التي هي نتاج الصراع بين التنويريين وسلطة الكنيسة في أوربا؛ هي نتاج محلي أوربي مفصل على مقاس مخاضاتها وضروفها وصراعاتها الإجتماعية، ولايمكن فرض هذا النتاج الايديولوجي على بيئات أخرى مختلفة؛ كالبيئة الإسلامية. والنتيجة فإن العمل السياسي في الاسلام يقننه الفقه السياسي الاسلامي ويهدف الى تطبيق الشريعة الاسلامية من خلال المرجعية الدينية الاسلامية ومن خلال الدولة الاسلامية.
ربما يمكن للمسيحي أن يقول بأن المسيحية هي ديانة تربط الفرد بخالقه فقط، ولاعلاقة لها بالسياسة والدولة، ولعله يستدل على ذلك بأن سيدنا عيسى (ع) لم يؤسس دولة ولم يأمر أتباعه بتطبيق أحكام الشريعة المسيحية؛ لعدم وجود فقه اقتصادي وفقه مالي وفقه سياسي وفقه جهادي وفقه معاملات وعقود.
ولكن ماهي حجة المسلم الذي ينتمي للفكر العلماني حين يزعم أن الدين لاعلاقة له بالسياسة وبالدولة، وليس فيه نظرية إقامة دولة ؟! فماذا كان يفعل نبي المسلمين ـ إذن ـ؟! ألم يكن على رأس الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية والسلطة الإسلامية؟! ثم ماذا كان يعمل إمام المسلمين علي بن أبي طالب (ع)؟ ألم يكن حاكماً ورئيساً للدولة؟!.
أما المسلم الشيعي فسيقع في مفارقة أكبر؛ فمن بديهيات المذهب الشيعي هو إيمان المنتمي إليه بوجود الإمام المهدي المنتظر؛ فماذا ستكون مهمة الإمام المهدي حين يظهر؟! هل سيجلس في المسجد ويصلي بالناس فقط ويعلمهم العبادات؛ أو سيؤسس دولة وحكومة وسلطة ؟! فإذا لم يكن في الإسلام دولة وسياسة وسلطة؛ فبأي شريعة سيحكم ؟! هل سيطبق العلمانية بأحد ايديولوجياتها؟ هل سيحكم بعقيدة ماركس أو ميشيل عفلق أو جمال عبد الناصر أو روسو او مونتسكيو أو لنكولن؟! أم انه سيحكم بشريعة جده محمد بن عبد الله ؟! فإذا لم يؤسس محمد دولة ولم يكن علي حاكماً؛ فبأي سنة وسيرة سيحكم الإمام المهدي ؟! والأهم من ذلك؛ كيف سيؤسس الإمام المهدي الدولة الإسلامية وكيف سيديرها؟ هل سيقوم بذلك من خلال العبادات فقط والصلاة والصوم والمكوث في المسجد، وبالأخلاق الفاضلة والوعظ والإرشاد ؟ أو بالعمل السياسي والعسكري والإقتصادي والثقافي والإعلامي؟ وإذا لم يكن في القرآن الكريم والسنة الشريفة كل هذه الأمور؛ فهل سيخترعها ويبتدعها الإمام المهدي، أو يعتمد على النظريات السياسية والإقتصادية الوضعية ؟! فيطبق مثلاُ الديمقراطية الليبرالية، ويتبى الإقتصاد الرأسمالي وإقتصاد السوق، وربما يطبق الإقتصاد الإشتراكي ويحصر وسائل الإنتاج بيد الدولة !!
أما إذا كان هذا المسلم الشيعي العلماني لايؤمن بوجود الإمام المهدي وظهوره، ويعتبر ذلك خرافة، ومن اختراعات الإسلاميين؛ فهذا أمر آخر؛ إذ لانستطيع حينها الإحتجاج بإيمانه بالبديهيات الشيعية. وهو بذلك حر، ولكن نرجو منه أن يريحنا بالإعلان عن ذلك صراحة؛ لكي نحاججه بمنهجيات أخرى يؤمن بها هو.
أعتقد أن من المهم تفكيك الإشكاليات وحصر الإختصاصات، ومن أولويات ذلك ابتعاد العلمانيين عن إصدار الفتاوى في قضايا الدين والشريعة؛ لأنه ليس اختصاصهم؛ بل اختصاص الفقهاء حصراً، وفي الوقت نفسه يجب أن يبتعد الفقهاء والإسلاميون عن إختصاص العلمانيين؛ أي اختصاص ممارسات الدولة العراقية العلمانية المتملة بأبشع ألوان الطائفية والعنصرية والفساد الإداري والمالي وسرقة ثروات البلد والعمالة للإستعمار والقتل والمقابر الجماعية والإغتصاب والتعذيب والتشريد وقمع الحريات والإضطهاد والتخلف والفشل.
وأكرر هنا ماذكرته في مقالات سابقة؛ أن كلامي هذا لصيق بالبعد الفكري النظري ولاعلاقة له بممارسات الإسلاميين الحالية أو بتجربة التطبيق القائمة في العراق؛ لأنها تجربة مشوهة ومتخمة بالإشكاليات، وقد مارس فيها كثير من الإسلاميين اختصاصات العلمانيين.

أحدث المقالات