هناك عدة تراكمات تاريخية، ساهمت في بلورة وتكوين الوعي الجمعي للمجتمع العراقي، وتحديد اتجاه بوصلته، في ما يخص تعاطيه مع الانتخابات .. أي الممارسة الديمقراطية التي تمكنه من اختيار ممثليه في مجلس النواب، الذي ينبثق من خلاله شكل وطبيعة الحكومة التي ستأخذ على عاتقها إدارة شؤون البلاد، وفق نظام سياسي برلماني، حدد معالمه وأطره الدستور العراقي الذي كتب بعد عام 2003 .. والذي يعد جزء فعال من المشكلة العراقية المزمنة، وذلك لضبابيته، وغياب القوانين والآليات التي تحدد عمل الكثير من فقراته.. ويمكن حصر هذه التراكمات كنتاج لعدة عوامل تاريخية، ضمن مجموعة من المسارات الثابتة، التي يشكل بعضها جزء لا يتجزأ من طبيعة الشخصية العراقية وتكوينها الفطري والسيكولوجي والسلوكي.. تتحد هذه العوامل مع بعضها بطريقة عفوية ذات نزعة ميكافيلية، لحظة مواجهة الناخب العراقي لصندوق الانتخابات، فتتحول إفرازات هذه العوامل في اللاوعي إلى تبريرات منطقية، جعلت منه أداة لوصول الكثير من الفاسدين والطارئين على العمل السياسي، لسدة الحكم في عراق ما بعد التغيير.
شكل العراق منذ الفتح الإسلامي له سنة 15هجرية، بؤرة توتر كبيرة، ومسرحا لأغلب الصراعات الطائفية والسياسية التي شهدها التاريخ الإسلامي، بدءا بواقعة الجمل وصفين وحرب الخوارج وثورة الإمام الحسين (ع)، التي كانت نقطة الشروع والتأصيل لمبدأ الثورة على السلطة الجائرة، فتلت هذه الثورة عدة حركات سياسية ذات طابع عسكري، أخذت بعدا طائفيا، كان احقاق العدل، والأخذ بثار الحسين (ع) ابرز شعاراتها المعلنة، كحركة زيد بن علي، والثورة العباسية على الحكم الأموي، ومن ثم حركة محمد النفس الزكية على ابو جعفر المنصور، وهكذا توالت الانتفاضات والحركات العسكرية ضد السلطة الحاكمة، مما جعل العراق بيئة خصبة لعمليات شد وجذب طائفية وسياسية، ومصدرا ثرا لنشوء ونمو الكثير من الفرق والطوائف والحركات الفكرية الاسلامية المتقاطعة فيما بينها، وقد افرز هذا الحراك الديني والسياسي والاجتماعي إلى ان يصبح مركزا استقطاب للتشيع بأغلب أشكاله وتفرعاته، كحركة يسارية إسلامية، مما جعل السلطة على امتداد التاريخ الإسلامي تنظر إلى اغلب سكان العراق بعين الريبة والتوجس، خلقت هذه النظرة نمطية سياسية مورست ضد هذه الأغلبية فيه، أخذت إشكالا عدة، كان إطارها العام هو التهميش والإقصاء والتضييق، تحولت هذه السياسة المتوارثة إلى صيغة ممنهجة ومدروسة في عهد الاحتلال العثماني سنة 1532 ميلادي ، حين مارس ما يعرف (بالطائفية السياسية) ضد هذه الأغلبية وعمل على تأسيس لمنظومة اجتماعية وسياسية تصدرت المشهد السياسي العراقي، ناتجة عن تمييز طائفي وطبقي بين أبناء الشعب العراقي .. وقد أورد السياسي كامل الجادرجي في كتابة من أوراق كامل الجادرجي ما نصه (ان الطائفة الشيعية تعد في زمن الدولة العثمانية اقلية ينظر إليها بعين العداء فلم تكن يقبل لهم تلميذ في مدارسها الحربية، ولا إي وظيفة حكومية وحتى المدارس الإعدادية كانت يمنع أبناء هذه الطائفة من دخولها)..ويذكر عبد الكريم الازري في كتابه مشكلة الحكم في العراق..( أن فتاح باشا قد تحول من المذهب الشيعي الى المذهب السني، لأنه أراد إدخال ابنه المدرسة الرشدية ومن ثم ادخاله للمدرسة الحربية العثمانية، والتي كانت محرمة على الشيعة).. وقد رُسخ هذا المفهوم بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 حين تبنى المحتل البرجوازيات العراقية التي صنعتها الدولة العثمانية، لتتصدر المشهد السياسي في أول حكومة عراقية وطنية عام 1921.. بعد ان اصبح فيصل الاول ملكا على العراق، وبذلك أسست بريطانيا لنظام سياسي مشوه المعالم وغير مستقر .. كان الشيعة العرب أول المبعدين عنه، ثمنا دفعوه لقيامهم بثورة العشرين، حتى نعتهم احد اهم مٌنظري القومية العربية ساطع الحصري (بالغجر) .. ويذكر الدكتور علي الوردي في لمحاته ، أن البيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني، حين غادر العراق عائدا إلى بريطانيا بسبب فشله في إخماد ثورة العشرين، كان على رأس مودعيه السياسي العراقي مزاحم الباججي، وقد طلب منه نقل سلامه الى الملك جورج الخامس، وان يخبره بان من قاتلوهم في الوسط والجنوب، ليسوا عراقيين ولا عرب بل عجم .. وقد انعكس هذا التوجه على سلوك والمزاج العام للحكومة الناشئة آنذاك في تعاطيها مع هذه الأغلبية .. فيذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه (تاريخ الوزارات) مذكرة للملك فيصل الأول، موجهة إلى الحكومة والنخب السياسية، تبين ازمة الهوية والانتماء التي كان يعانيها الشيعة العرب آنذاك ، وتشير الى عمق الفجوة الطائفية المتوارية بين ابناء العراق، يقول فيها ..( أن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسَسَة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً.. وأكثرية شيعية، وإن الاضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين .. ويخاطب الملك النخبة السياسية قائلاً .. أخشى أن أتهم بالمبالغة، لكنه من واجبي أن لا أدع شيئاً يخامرني، خاصة لعلمي بأنه سوف لا يقرأ هذا إلا نفر قليل، ممن يعلمون واجباتهم ومسؤولياتهم، ولا أرغب أن أبرر موقف الأكثرية الجاهلة من الشيعة، وأنقل ما سمعته ألوف المرات، وسمعه غيري من الذين يلقون في أذهان أولئك المساكين البسطاء من الأقوال التي تهيجهم، وتثير ضغائنهم، إن الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني، ماالذي للشيعي؟
حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها، ويضربون الأمثلة على ذلك، مما لا لزوم لذكره) انتهى كلام الملك فيصل الاول.
وقد سُحب هذا الإجراء على جميع الحكومات العراقية، التي قادت العراق حتى دخول أميركا محتلة له عام 2003 .. وقد شارك الشيعة العرب هذه المحنة شركائهم في الوطن وهم الأكراد، وبالأخص في الأربعين سنة التي تسلم فيها البعث زمام السلطة في العراق .. حيث تحول الجزء الأكبر منهم إلى حطب لمغامرات النظام السابق العسكرية وحروبه العبثية، واتسمت هذه الفترة بالرعب والإعدامات والتغييب في السجون والمقابر الجماعية وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، والظلم والاضطهاد والتغييب القسري لهاذين المكونيين عن مراكز السلطة في العراق إلا ما ندر.. كل هذه التراكمات التاريخية، قد وجدت لها مكان في الوعي الجمعي العراقي، وأطلت برأسها بعد 9-4-2003 ونتج عنها صراع حقيقي بين طوائف الشعب العراقي وقومياته على السلطة، وفق رؤية ضبابية لازمت الإنسان العراقي، اتجاه مفهومي الوطن والوطنية، فغاب وغيب الوعي الوطني بمفهومه العام، وبرزت أزمة هوية كبيرة، واضطر الفرد العراقي للجوء إلى الهويات الفرعية (الهوية الطائفية والهوية القومية والهوية القبلية) كحالة تعويضية، وتحويلهن إلى خندق يتمترس به اتجاه الآخر شريكه في الوطن.. وقد انعكس هذا التوجه بصورة واضحة في جميع الدورات الانتخابية، حين حل الوعي الطائفي والاثني والعرقي والقبلي، محل الوعي الوطني المسئول اتجاه العراق ومستقبله، فاغلب الشيعة العرب انطلقوا في اختيار مرشحيهم من عقدة تاريخية مثقلة بالظلم والإقصاء والتهميش، وحماسة دينية ذات بعد طائفي، حين تصوروا إن ما مطروح على الساحة السياسية الشيعية، من أحزاب وحركات، هو الوسيلة الناجعة لتشبث الشيعة بالسلطة، بعد قرون من الإقصاء والتهميش، وفرصة تاريخية قد لا تتكرر، لممارسة طقوسهم الدينية بحرية، بعد منعوا من أدائها لعقود طويلة، وهذا ما فعله الأكراد أيضا، حين صوتوا لدعاة الاستقلال، والوطن المنشود، فكان السلوك الانتخابي للشيعة والأكراد نابع عن خوف كبير من عقدة تاريخية هي، العودة إلى الماضي، وأما سنة العراق الذين انتهجوا نفس السلوك الانتخابي الطائفي، لخوفهم من المستقبل، وان ينتج هذا التبادل القسري في الأدوار، فيما يخص حكم العراق، مسلسل تهميش وإقصاء آخر سيكونون هم ضحيته هذه المرة، وكذلك لوجود قناعة راسخة لطيف واسع منهم، بأحقيتهم في حكم العراق كإرث تاريخي، وكامتداد لنمطية سياسية واثنية تسود معظم المحيط العربي والإقليمي.. لذا وبعد كل ما تقدم فأن عقدة التاريخ، ستبقى هي المشكلة الأكبر في تحديد بوصلة الناخب العراقي، وسلوكه وتعاطيه مع الآخر، وعامل مهم في تبلور وعيه الانتخابي، المؤثر الفاعل على مستقبل العراق.