دخل عامل فقير الى صيدلية، وقال له: هل لديك مرهم للأسمنت، فضحك الصيدلي منه ساخراً، فأجابه نعم لدينا، وكذلك لدينا مرهم للحديد، والخشب، فهل تريد نوعية مستوردة ممتازة، أم نوعية عادية مصنوعة في البلاد، فقال الرجل: أعطني النوعية الممتازة المستوردة، فردّ عليه الصيدلي ساخراً أكثر من قبل، أنها غالية أقول لك ذلك مقدماً ثم انهمر ضاحكاً، رفع العامل يديه أمام الصيدلي، وقال له: إني عامل اشتغل بالأسمنت، وقد علق في يديَّ ومزقها، ولا استطيع أن ألمس وجه صغيرتي لكي أداعبها، فإذا كانت النوعية ممتازة التي لديك تزيل هذا الأسمنت، فأعطني وسأتدبر ثمنها.
تجمدَتْ الضحكات الساخرة للصيدلي على شفتيه، ورأى نفسه حقيراً صغيراً كما لم يراها سابقاً، فهو لم يحضن أطفاله منذ فترة طويلة، ولم يحنُ عليهم أبداً، والحكمة من ذلك أن الفقر ليس في الجيوب، بل هو في القلوب.
منذ عام (2003) ورغم أن الجماهير العراقية فرحت بالتجربة الديمقراطية، التي وفدت إليها ولا ننكر إيجابياتها، لكن أنهار الفوضى والدم، قد غطت بعض مساحات عراقنا الجريح، وعاثت فيه فساداً، فترك لنا الإرهاب، والتكفير، والتطرف، والهجرة، ملايين الأيتام، والثكالى، والأرامل، والمعوزين، فيا ترى ما مقدار الجهد الذي قدمته مؤسسات الدولة، لهذه الفئات لتعوضهم عن جزء يسير مما فقدوه؟
إذا كان العامل الفقير يئن ألماً ووجعاً، على إبنته التي لم يداعبها منذ فترة قصيرة، بسبب الأسمنت؛ فما حال مَنْ فقد أمه أو أبوه، أو كلاهما وسط المحن والصعاب، إننا نواجهها مع أبنائنا، لأكثر من عقد دموي عنيف، لكن بعض الساسة، يسخرون من أوضاع هؤلاء الفقراء والمحرومين، لأن كروشهم ملأها السحت الأخضر الحرام، فيأكلون أموال الشعب بالباطل، فمتى ستنتبه الدولة لهؤلاء الأبرياء، الذين لا ذنب لهم، إلا لأن معيلهم قد وهب نفسه، دفاعاً عن الأرض والعرض؟!
دعوة موجهة الى الحكومة، بضرورة تفعيل كل القوانين، التي من شأنها رفع المستوى الإقتصادي لهذه الفئة، خاصة مع تزايد أعدادهم جراء معارك التحرير والشرف، حيث من المفترض أن تكون دافعاً، لحماية عوائل هؤلاء الشهداء، بدلاً من أن يلتقطهم الشارع وأولاد السوء والضلالة، فما لكم كيف تحكمون.
ختاماً: مَنْ أين آيتك بعلي يا عراق؟ فهناك أعداد كبيرة بحاجة الى المسح على رؤوسها، وتوفير أبسط مستلزمات العيش الكريم، رغم أنها مهمة الحكومة خدمة الإنسان، أينما كان على أرض العراق بلا تمييز، ولنجعل من مرهم الأسمنت الذي أراده العامل، ليقبل ابنته الصغيرة، شرارة الانطلاق للنهوض بواقع الطبقة الكادحة والفقيرة، ليعيش الجميع تحت خيمة واحدة، وراية واحدة.