ساءت حالته الصحية ” أبو رامي ” بعد 17 عاما من الخدمة المدنية و12 عاما من الخدمة العسكرية الإلزامية و13 عاما من المجاعة الإجبارية و15 عاما من التجربة البول ..بريمرية ، الدم ..قراطية ، والتي تساوي بمجموعها 38 عاما من الدمار والحروب العبثية والمعارك الدموية ﻷجل الحقول واﻵبار النفطية والغازية والمواقع اﻵثارية والستراتيجية و اﻷحقاد التأريخية والإقليمية والثارات اﻷثنية والطائفية – جدك التاسع عشر ، شتم جدي الثامن عشر وﻻبد من الإنتقام منك ومن عشيرتك ومن جميع البشر – ، كان لابد لي من نقل جاري العزيز بسيارة الإسعاف الى أقرب مستشفى حكومي، ﻷن منافسه اﻷهلي يعني بيع الجمل بما حمل ، وعلى وجه السرعة في ليلة كئيبة باردة ، لم يكن معه فيها سوى رفيقة دربه وكاتمة أسراره ، زوجته المصون المصابة بتضخم القلب وتصلب الشرايين وضمور الكلى ، فيما أولادهما وبناتهما قد غادروا العراق تباعا الى بلاد الغربة رغبا ورهبا ، منهم من يتصل للإطمئنان عليهما في الشهر مرة ، ومنهم من يفعل ذلك – بالتفاطين – في كل سنة مرة ،وعادة ما يكون ذلكم الإتصال – الطياري – عقب وليمة دسمة تثار خلالها المشاعر الوطنية الجياشة فجأة بعد سبات طويل في بيت مغترب عراقي آخر ﻻ يستذكر بلاده إلا من خلال – الحامض شلغم والباجه والطرشي – لتلوح له صورة أمه وأبيه ﻷول مرة منذ 365 يوما في – جدر دولمة ، طبق مقلوبة ، كاسة محلبي، على أنغام ( يا أمي يا أم الوفا ،ياطيب من الجنة ) لسعدون جابر ، ثم ليتنفصم عرى العلاقة مجددا بمجرد إنتهاء المكالمة الخاطفة حفاظا على الرصيد، بإنتظار – عزيمة – ﻻحقة يرى في أطباقها وجه اﻷبوين ويستذكر حنانهما وتضحياتهما شأنه شأن الكثير من المغتربين العراقيين مع آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم هاهنا في أرض الشرار والنار مع شديد اﻷسى واﻷسف ، بل ومنهم من لايفكر بالإتصال إلا بعد وفاة أحدهما أو كليهما ليسأل عن الميراث والبيت الكبير ، كيف سيتم تقسيمه وبيعه بالتراضي و من غير إزالة شيوع وﻻ مزادات علنية !!
تدثرت بلحاف من شدة البرد واللحاف كما في معجم المعاني ،كل مايلتحف به وأنا جالس الى جواره كمومياء فرعونية وهو مدد على سدية الإسعاف يتمتم بما يحفظه من أذكار المساء ، لتبدأ بعدها العروض البهلوانية حيث السائق ومساعده وبعد إشعال السجائر في المقدمة – تو تي تو ، أخوية إفتح طريق ،بارك الله بيك ..ابو البيجو أخذ الجانب اﻷيسر ..أبو السايبا أخذ سايدك ..أبو الكيا ، مو دا احجي ويااااك، أطرش ماتسمع ؟ ..ابو الغاز اترك لوف ستوري وروح ليغاد ، ابوووو النفط جر حصانك ..أبو العربانة ..ابو الستوتة ..ابو التك تك ..أبو الداطلي دير بالك ..ابو المخضر، اكو واحد يبسط بنص الشارع ؟! ” ، هنا تحديدا قفزت الى ذهني مقاطع من الفيلم الكوميدي “55 إسعاف” ﻷحمد حلمي ، ومثلها لفيلم ” إحنا بتوع الاسعاف “لسمير غانم ” وأنا في حيرة من أمري، إذ ﻻ أدري واقعا مالذي يتوجب علي فعله إزاء المريض طريح السدية أمامي بغياب مسعف يجلس الى جوارنا – كبقية البشر – لمتابعة الحالة الطارئة عن كثب ، وعيني ترقب بقايا أجهزة طبية مستهلكة ﻻ أظنها تعمل إضافة الى إطار – سبير – محشور قرب السدية وضعت قدمي عليه وأنا متجهم الوجه أقلب الطرف بجهاز الموبايل وأتأمل رابطا أرسله لي أحدهم يظهر سيارة إسعاف “السعادة” الاماراتية التي تعمل بالطاقة الشمسية، بوجود جهاز إنعاش قلب آلي متطور ، وآخر للصدمات الكهربائية ، ونقالة إسعاف ذكية تعمل باللمس من دون الحاجة إلى مسعفين !!
رحم الله الإمام الشافعي القائل في طب القلوب واﻷبدان ” إنما العلم علمان ، علم الدين وعلم الدنيا ، فالعلم الذي للدين هو الفقه والعلم الذي للدنيا هو الطب ، وﻻتسكنن بلدا لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك” .
سألني جاري العزيز بصوت متعب ” هل تعتقد أنهم سيقدمون لي الرعاية الكافية في المستشفى الحكومي بإعتباري مواطن عراقي أعيش فوق أرض من الذهب ؟؟” فأجبته على الفور وهو المتيم بالتأريخ “بالتأكيد أبو رامي ،ﻻ تقلق، نحن أهل الباقلاء بالدهن ، نحن أحفاد الزهراوي ، ابن سينا ، الرازي ، ابن القف ، ابن الهيثم ، ابن البيطار ،ابن النفيس ، ابن زهر ، ابن عيسى الكحال ، !!
ولتلطيف اﻷجواء ورفع المعنويات تساءلت ممازحا ( اكلك ابو رامي، صدك، أشو ذولة كلهم – إبن – مابيهم وﻻ واحد – أبو – شنو القصة ؟! ) .
قلتها واﻷسى يعتصر قلبي والحيرة تأخذ مني كل مأخذ ، فبحكم عملي الصحفي أعلم جيدا ما آل اليه الواقع الصحي المزري في العراق وبشكل غير مسبوق بعد هجرة العقول وإغتيال الكفاءات وتهجير الخبرات وإختطاف عشرات اﻷطباء والطبيبات ،الممرضين والممرضات ، الصيدلانيين والصيدلانيات والاعتداء على أمثالهم من الكوادر الصحية ومن مختلف التخصصات ، وبدأت نشرات اﻷخبار تمر أمام ناظري كفيلم سينمائي وكأنني أحررها مجددا للتو بدءا بسرقة المستشفيات وحرقها في عصر الحواسم 2003 الذي أعقب غزو الجراد ﻷرض السواد ، مرورا بالميليشيات المسلحة التي عاثت في اﻷرض فسادا وافسادا إبان الحقبة الطائفية 2006 – 2007 والتي إتخذت من بعض سيارات الإسعاف ومحيط الطبابة العدلية والمناطق القريبة من المستشفيات آنذاك مصائد مغفلين لغدر الابرياء بعد خطفهم ، مرورا بوفاة مديرة مستشفى الولادة التعليمي بمدينة أربيل،الدكتورة خاور أحمد ، أثناء التخدير في أحد المستشفيات الأهلية للولادة بعد إدخالها لإجراء عملية جراحية هناك !!
والعثور على أبراج لتربية الطيور بأعداد كبيرة في الطابق الثاني من وزارة الصحة وفتح تحقيق لمعرفة ملابساتها لم تعرف نتائجه بعد ، تماما كملف سقوط الموصل ومجزرة سبايكر وماتلاهما ورافقهما من مآس يشيب لهولها الولدان صيف 2014 ، ووفاة خمسة توائم، ثلاثة ذكور وثلاث أناث، في محافظة بابل، بسبب نقص حاضنات الخدج في مستشفيات المحافظة!!
ووفاة الشابة “نور عامر” البالغة من العمر 24 سنة وهي حامل ، في مستشفى النعمان في بغداد ،خلال عملية قيصرية بحالة إختناق ، بعد إعطائها ثاني اوكسيد الكاربون بدلا من الأوكسجين ، ووفاة امرأة غرب الرمادي ، في تشرين الاول 2017 بمستشفى الرطبة العام لعدم وجود طبيبة جراحة في المستشفى ، وإصابة الطفل عبد الله، بعد اجراء عملية صمام الرأس بعوق دائمي بسبب خطأ طبي في مستشفى الجملة العصبية ببغداد، ووفاة طفلة تبلغ من العمر 4 اعوام بمستشفى اليرموك في العاصمة بغداد، بعد زرقها بـ(ابرة) ادت الى انتفاخ جسمها ومن ثم مفارقتها الحياة ، وغلق مستشفى (دار الحكمة الاهلي) بعد ورود شكوى من احد المواطنين على خلفية تورم يد زوجته اليسرى بعد وضع (الكانونة) بطريقة خاطئة تمهيدا ﻷجراء عملية قيصرية لها ، وقطع يد الطفلة رقية علي، البالغة من العمر 7 شهور على خلفية حقنها بدواء “غير وريدي”في مستشفى الهندية الحكومي، بقضاء طويريج، ووفاة الطفل “فارس ” الذي تعرض الى كسر في ساقه بحادث دهس في مستشفى السماوة العام بعد التلكؤ في إسعافه لخمس ساعات متتالية ، واقتحام ضبع مفترس دار الاطباء في مستشفى الديوانية للاطفال ومن ثم قتله بـ 20 اطلاقة نارية عقب محاصرته في احدى الغرف، والتقاط صور لكلاب سائبة تتجول في مستشفى الشطرة العام، شمال الناصرية ، واخرى في مستشفى بعقوبة التعليمي بديالى ، ومستشفى الولادة والأطفال في بابل ، ووفاة 30 طفلا من الخدج بعد اندلاع النيران المتعمد لسرقة 100مليون دينار في مستشفى اليرموك ، وإندلاع حريق مماثل في مسشتفى ابن سينا ” الموقع البديل لمستشفى الشلل في نينوى بداية شباط الجاري،2018 سبقه اندلاع حريق آخر بقسم الارشيف في مسشفى العلوية وسط بغداد بعد اسبوعين من حريق حاضنات اليرموك ، وإندلاع حريق في مستشفى الخضر العام ، جنوبي المثنى ، وحريق آخر داخل مستشفى الحسين التعليمي في كربلاء ، واندلاع حريق داخل مستشفى الحسين التعليمي في قضاء الزبير بمحافظة البصرة ، واندلاع حريق مماثل في مستشفى الرمادي نتيجة الإهمال !!
أما عن نقص الأدوية واﻷجهزة والمعدات الطبية وأمصال الافاعي فهذه قصة أخرى تسكب لها العبرات، أشهرها وفاة طفل عمره سبع سنين بلدغة افعى في مستشفى الزهراء التعليمي في كربلاء بسبب عدم توفر المصل المضاد ، ووفاة ” زين العابدين الحسناوي، البالغ من العمر 16 عاما ، والذي يعمل مخرجا في إذاعة (الصدى FM)، في مدينة الديوانية، بعد تعرضه الى لدغة أفعى نقل على اثرها الى طوارئ مستشفى الديوانية التعليمي ولعدم توفر الأدوية الخاصة بلدغات الأفاعي !!
وبينما كنت غارقا في مستنقع الذكريات اﻵسن انتبهت على صوت سائق الاسعاف اﻷجش ” أخوووووية وصلنا ..ايدك على 10 الاف دينار ثمن الباص + الاكراميات لي ولصاحبي = 25 الف دينار !!” .
وحقا ما قيل قديما ” إن الطب بلا إنسانية كالصلاة بلا وضوء” عن بقية المسلسل – الكوميتراجيدي – لنا لقاء آخر . اودعناكم اغاتي