من الأمور البديهية التي لا يمكن غض النظر عنها توفر فرص العمل للمواطنين باعتبار هذا الأمر حق طبيعي للفرد وليس فضلا أو منة من أحد . وفي البلدان المتطورة يتصدرُ هذا الموضوع بقية المواضيع الأخرى ضمن الحملات الانتخابية لأهميته الكبيرة وحجم انعكاساته على المجالات الأخرى . والمسؤول الذي يتصدى للمسؤولية بوعي كبير واقتدار عالٍ عليه أن يفهم ماذا يعني لو غابت فرص العمل أو انخفضت نسبتها ، وعليه أن يجد الحلول العلمية الصحيحة لهذه المعضلة الكبيرة دون اللجوء الى الأعذار والمبررات التي لن تنفعهُ ولن تنفع المجتمع على الاطلاق . وأختصرُ هنا بعض التأثيرات المهمة الناتجة عن انعدام أو انخفاض فرص العمل على بقية المجالات الأخرى :
أولا – التأثير على المجال الأمني :
خلق الانسان – ذكراً أم أنثى – ليعيش في الحياة كما يعيش الآخرون ، ليأكل ويشرب ويلبس وينام ويتزوج وينجب وهكذا وفق منطق الحياة . وكل هذه الأمور تحتاج الى المال باعتباره الوسيلة المتداولة لتبادل المنافع . ومن المعلوم أن المال لا يأتي عن فراغ ، وانما عن عمل وجهد فكري أو بدني . ولو استثنينا فئة الأثرياء من هذه المعادلة ، نستطيع أن نقول أن غالبية المجتمع بحاجة الى توفر فرص للعمل من أجل ديمومة تلك الفعاليات . ولكن السؤال المنطقي ماذا سيفعلُ الفردُ لو لم يجد فرصة عمل تساعده على ديمومة فعاليات حياته اليومية ؟ هل سيستلسم بسهولةٍ للواقع المرير ويقتنعُ بأعذار وتبريرات المسؤولين ؟ ولو فرضنا أنه من باب القبول بالأمر الواقع أقنعَ نفسه بالاستسلام ، فكيف سيعيش حياته – وربما هو ومن يعيلهم من زوجة وأولاد ومن أبوين عاجزين – ؟ علماء المجتمع يجيبون على هذه الأسئلة بدقة متناهية ، ويذكرون في جميع نظرياتهم وبديهياتهم أن حاجة الفرد للمال أمرٌ طبيعي لقضاء حوائجه وفي حالة عدم توفره يندفعُ الفرد للتفكير – عن دون وعي – بحلول أخرى حتى لو كانت غير مشروعة وتقوده الى ارتكاب الجرائم تدريجيا ، ومن ثم تصبح الجريمة جزءا لا يتجزأ من سلوكه بعد التطبع عليها .
ثانيا – التأثير على المجال الاجتماعي :
من المعلوم أن أفراد المجتمع يختلفون لأسباب كثيرة بحركة تفكيرهم تجاه أي مشكلة يواجهونها . وليس الكل بنفس الادراك والشعور وبنفس ردة الفعل . ومن هنا نجد البعض من العاطلين عن العمل ينحرفون اجتماعيا تعبيرا عن ردة فعلهم تجاه وضعهم المأساوي وتعبيرا عن هروبهم من الواقع المؤلم باللجوء الى المخدرات أوعمليات النصب والاحتيال أو عمليات الدعارة وبيع الشرف أو عمليات التسول وحتى في بعض الحالات الى عمليات الانتحار . كما أن تطبع الفرد على البقاء بدون عمل يجعله متأقلما على هذه الحالة ممّا يخلق مجتمعا غير قادر على البناء مستقبلا … وكل هذه الأمور تؤدي الى تشويه صورة المجتمع .
ثالثا : التأثير على المجال الاقصادي :
انعدام فرص العمل يعني انعدام مجالات العمل . وأية دولة تسعى الى الرقي والاستقرار لابد أن يكون اقتصادها متينا وشاملا وذا مفاصل متنوعة وكثيرة . ويعتبر قطاع الزراعة والصناعة أكثر القطاعات التي يمكن الاعتماد عليها لضمان قوة اقصادية كبيرة تستطيع الصمود أمام المتغيرات والتقلبات الدولية . وحين تنشط هذه المجالات ويكون لها شأن واسعٌ في جسد الدولة تستطيع أن تستوعب الأيدي العاملة من الكفاءات وذوي المهارات وحتى الذين لا يملكون المهارت وفق معادلة طبيعية ذات اتجاهين . كما أن تنشيط القطاع الخاص وتوجيهه على الطريق الصحيح يلعبُ دورا مهما ً كبيرا لتهيئة فرص عمل كثيرة تخدمُ الأفراد واقتصاد البلد بنفس الوقت . أمّا انعدامُ أو انخفاض فرص العمل دليلٌ واضح على ضعف اقتصاد البلد وضيق تفرعاته بالاعتماد على مصدر اقصادي واحد كما هو الحال في العراق .
رابعا – التأثير على روح المواطنة :
بالرغم من أن العلاقة بين المواطن والوطن علاقة غريزية ترتبط باحساس الانتماء وذات أواصر متينة من الصعب كسرها بسهولة ، الاّ أنها تتعرضُ للضعف نتيجة شعور الفرد بفقدان قيمته وحقوقه ضمن هذه العلاقة . ويرى علماء النفس أن الضغط الكبير المتواصل على بعض الأفراد يفقدهم قوة الانتماء للمكون الذي ينتمون اليه ان كان أسرةً أو وطنا . ولكون صفة الصبر والتحمل نسبية بين فرد وآخر ، فان البعض الذين لا يجدون فرصا للعمل والعيش الكافي في وطنهم يخسرون روح المواطنة بسهولة ويكونون أكثر المواطنين قربا من حافة الهاوية للانزلاق في منحدرات الخيانة وكسب المال حتى لو كان على حساب وطنهم . كما أن البعض يحاول استبدال هوية انتمائه بهوية أخرى توفر له حياة أفضل .
خامسا – تأثيرات أخرى كالتأثير على المجال الديني ، والتأثير على مجال التفوق والابداع ، والتأثير على المجال الصحي وغيرها من المجالات التي لا يسعُ هذا المقال الصغير المختصر التحدث عنها . ولكن الذي أودّ التركيز عليه هنا أن توفر فرص العمل يخلق مجتمعا راقيا متماسكا يستيطعُ أن يصمدَ بقوة أمام جميع العواصف الصفراء القادمة من خلف الحدود ، وأن يكون أكثر نأياً عن المشاكل والارهاصات الفكرية والسلوكية .