يردّد بعض العراقيين منذ سنوات ما يُشبه النكتة، الموجعة للغاية في الواقع، مفادها أنّ قناة تلفزيونية أجرت لقاءً في الشارع مع امرأة عراقية مُسنة، وسألتها: في رأيك، ما الفرق بين النظام الحالي (الذي تسيطر عليه وتديره أحزاب الإسلام السياسي) والنظام السابق (نظام صدام حسين)؟، فكان جوابها: «الله يسوّد وجه النظام الحالي اللي (الذي) بيّض وجه صدام»!
النكتة تحيل إلى حال الشعور العام بالإحباط وخيبة الأمل، وحتى اليأس، حيال ما يجري في العراق منذ 2003. العراقيون كانوا يتطلّعون بلهفة شديدة إلى عهد جديد بنظام حكم جديد يعوّضهم عمّا كابدوه من محن، وما تكبّدوه من خسائر مادية وبشرية جسيمة على مدى عقود من الزمن، وبخاصة في عهد النظام السابق الذي أداره حزب البعث، وعلى رأسه صدام، لكنّ ما حصل لم يطابق التوقعات والتمنيات… كثير من العراقيين يشعرون بأنهم إذ تحرّروا من كابوس فإن كابوساً آخر قد أطبق عليهم، وكثيرون أيضاً يشعرون بأنهم تعرّضوا إلى خيانة سافرة ممن ظنّوا أنهم سيُحققون لهم آمالهم الكبيرة المؤجلة طويلاً.
في سيارات النقل العام وفي الأسواق والمقاهي وسائر المُلتقيات، كثيراً ما يسمع العراقي مقارنات بين الحال في العهد الحالي والحال في العهد السابق، وبخاصة لجهة الأمن ونظام الخدمات العامة… والمقارنة تكون في الغالب لصالح النظام السابق، وهذا هو الموجع في الأمر، إذ يُقال عن ذلك النظام إنه في الأقل قد «وفّر الأمن والخدمات العامة والحصّة التموينية».
هذه نظرة مُبتسرة بالطبع، فثمّة ما يفاضل به النظام الحالي على النظام السابق بما لا يقاس، كالحريات العامة ومستوى المعيشة تحديداً، بيد أن متطلّبات البشر لا حدود لها، وإذ يفشل نظام في تلبيتها بالمستوى المعقول يصبح مذموماً على النحو الذي تجسّده نكتة المرأة المُسنة.
نكتة كهذه ومقارنات من هذا النوع تُقال علناً في مختلف المحافل في طول العراق وعرضه، من المُفترض أن تحرّض الطبقة الحاكمة كيما تتفحّص ما يشكو منه الناس، وما يريدونه منها، ومراجعة تجربتها وإصلاح أخطائها والتكفير عن خطاياها بسياسات مختلفة، لكنّ ما يحصل إنما يمضي في اتّجاه معاكس تماماً. على سبيل المثال، من أكثر الظواهر تفشّياً في العهد الجديد ظاهرة الفساد الإداري والمالي، باعتراف حتى زعماء العهد الحالي جميعاً الذين ما انفكّوا يتعهدون مكافحته، إلا أن ما يتكشّف من وقائع على هذا الصعيد يفضح واقع أن الأحزاب المتنفّذة في السلطة، وهي في الغالب إسلامية، شيعية وسنية، ضالعة جميعاً في أكبر عمليات الفساد التي يُقدّر أنّها أهدرتْ ما يزيد عن 300 مليار دولار حتى الآن. كلمة «أهدرتْ» هنا مضلّلة في الواقع، فهذه المئات من المليارات إنّما استحوذت عليها، بألف طريقة وطريقة، الأحزاب المتنفّذة وقياداتها وشركاء لها من المقاولين وسماسرة المال والأعمال.
ومع تواصل المقارنات بين العهد الجديد والعهد السابق وتصاعد نبرتها، يلجأ أقطاب في النظام الحالي بين حين وحين إلى إخراج حزب البعث من زوايا النسيان، ليجعلوا منه فزاعة للتخويف ووسيلة للهرب إلى الأمام، بدلاً من مواجهة استحقاق التغيير المطلوب في العملية السياسية. على سبيل المثال عندما اندلعتْ سلسلة مظاهرات في مختلف المدن العراقية في مطلع العام 2011 على وقع انتفاضتي الربيع العربي في تونس ومصر، وعلى خلفية تردّي الخدمات العامة (الكهرباء والصحة والتعليم)، وتفاقم مستويات الفقر والبطالة والفساد الإداري والمالي، زعم رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي في بيان رسمي أن حزب البعث وتنظيم القاعدة يقفان وراء تلك المظاهرات، فأعلن ما يشبه حال الطوارئ في العاصمة بغداد بمنع التجوال فيها في أيام المظاهرات. المتظاهرون تحدّوا يومها تلك الاتّهامات والإجراءات، وعلى مدى أسابيع تواصلت فيها المظاهرات لم يظهر رأس أو يد لبعثي أو «قاعدي» واحد، بل كان نشطاء المظاهرات بأجمعهم من أنصار العهد الجديد، وبخاصة من الشيوعيين وسائر قوى اليسار، فضلاً عن الآلاف من الناس العاديين المتذمّرين من انهيار نظام الخدمات وعدم توفّر الأمن وتفشّي الفساد والبطالة والفقر.
هذه الأيام، يُعاد إخراج حزب البعث من «كيس الحواة» من جديد، عشيّة الانتخابات البرلمانية التي ستجري في مايو (أيار) المقبل. ولإدراك سبب ومغزى فتح هذا الكيس الآن يتعيّن التنبّه إلى أن الأحزاب المتنفذة (الإسلامية) تواجه هذه المرة مأزقاً أكبر من المآزق السابقة، فتوشك على الانتهاء ولاية حكومة أخرى تعهدت بالإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد، ولم تفلح في الوفاء بتعهداتها هذه. وعلى مدى سنتين ونصف السنة كان هناك حراك جماهيري متواصل في العديد من المدن، وهو حراك أطاح هالة القدسية التي حرصت على التمسّك بها أحزاب الإسلام السياسي، وهذا ما دفع بالعديد منها إلى التقدّم لخوض الانتخابات الوشيكة بأسماء نُزِعت منها صفة الإسلامية، لتحلّ محلها صفات الوطنية والمدنية والديمقراطية وسواها.
منذ أسبوعين حذّر أحد المتنفذين في النظام الحالي، هو نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، مما سماه عودة «البعث» إلى الحياة السياسية، قائلاً إنه «يقوم الآن بتنظيم صفوفه ويتغلغل في دوائر الدولة، ويسعى للدخول إلى الانتخابات بقوائم وشخصيات تتوزّع على قوائم متفرقة».
بالنسبة للعراقيين العاديين لم يعد حزب البعث قضية تثير الاهتمام، فمن الصعب تصوّر أن يقبل العراقيون بعودته، فيما آثار الطغيان المنفلت والقمع السافر والحروب المدمرة لم تزل شاخصة أمام الأنظار، وفيما يُحجم الحزب عن نقد تجربته والاعتذار عن أخطائه وخطاياه، بيد أن حال الانسداد في الوضع العراقي تدفع لقول النكات وإجراء المقارنات في بعض الجوانب بين عهد صدام والعهد الحالي، الذي لا يتوقّف عن تبييض وجه نظام البعث، وإبقائه حيّاً في الأذهان بارتكاب المزيد من الأخطاء والخطايا.