كاظم الحجاج تحت القصف
قراءة في كتاب (المدينة .. والمدافع )
عرض/ حيدر عاشور
التنوع في الكتابات يدل على ان الخبرة قد توهجت في فكر الأديب وهو يتنقل بين صنوف الأدب الكتابي ،ويحاول توثيق الصلة بينه وبين القارئ بالقدر الذي يعطي فيه قرائه ما يحقق توقعاته ويرضي فضوله … وهذا ما وجدته في كتاب الشاعر البصري كاظم الحجاج وهو يوثق ما شاهدته عينيه وما عاشه أبان الحرب العراقية – الإيرانية.. في مجموعته التي تحمل عنوان (المدينة والمدافع … البصرة تحت القصف ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والاعلام – بغداد 1994.
القراءات العديدة لهذه المجموعة التي مزج بها الحجاج القصة والشعر وجدناه تتغلغل في المفردة وتتشضى معانيها بين الرفض والقبول بين العنف والرومانسية …فيقول / خلف الأكياس الرمال /همسة عينا فتاة لفتى /فرمى دفتر اشعار خجولا /ثم غاب .. وهذا مقطع من قصيدة (إيقاعات بصرية ) نشرها الحجاج عام 1986 ومن ثم يدخل الى مدينته ويخلق حفيدة له اسمها(أمنة) يراوغ من خلالها صياغته الأدبية والفكرية من اجل إيصالها الى المتلقي الذي يفهم ما يقوله على لسانه ولسان أمنة مذكرا ان البصرة كانت تحتضن الفقراء والغرباء فلا تسألهم إثبات هوية او يميزهم نسبهم او لونهم او دينهم .. في هذا السرد العميق بالفكر هو تنبئ بالتفرقة التي بدأت مع أول قذيفة سقطت على البصرة قادمة من شرقها ..هذا التوجس بالخوف يطرق الحجاج باب المعرفة كي لا تضيع هوية المدينة وتاريخها وهو يحدث أمنة ان تعرف وتحفظ أسماء مهمة (الجاحظ والفراهيدي والأصمعي والحريري والحسن البصري …. )وغيرهم من أصحاب الفكر والأدب .. وكأنه يقول للاقرانه من الأدباء لا تنسوا ثقافاتكم اتجاه مدينتكم (البصرة) في وقت العصا والظلمات والنفي نحو الشمس متوفر في كل الاتجاهات والأمكنة ..
على الرغم من ان الحجاج آنذاك مزودا بطاقات شعرية تمكنه من التفاعل وتكوين علاقات إنسانية بغيره ولكنه اقترح وسيط من نسج خياله ليوصل فكرته وهذا دليل على انه غير قادر بإطلاق صوته فالمجتمع البصري الصغير الذي يعيش فيه يتسع ،تحت زخم الظروف وقوة الدولة ومراقبتها الشديدة والقاسية بذلك تعاظم عجزه عن ترويض نفسه او ترويض الاخرين من اجل الافصاح بتنبؤاته لما سيحصل ليس في البصرة فقط بل في العراق اجمع من تفرقة … فستطاع هذا الشاعر القاص من الإفادة من السبل المتوافرة لديه في خزين تجاربه الحياتية وتمكنه من تهيئة من حوله نفسيا لتقبل ما يقراؤن .فتولدت مجموعته (المدينة والمدافع)على اساس تعريفي بمدينته البصرة وهو يتحدث لحفيدته المقترحة عن جغرافية المدينة وأسماء توابعها من الاقضية والنواحي ويذكر بأنها لا تخلو من حاميات عسكرية مبثوثة على اطراف حدودها رغم انها مدينة التجار الاولى كما يروي مؤرخ المدينة (حامد البازي) .. ان جزء من نسق المفارقة الساخرة في المجموعة حين يتحدث البازي عن مؤامرة للتجار ضد تاجر فقير وسط السوق كان قليل الزبائن لخشونة انطباعه وكان مأزوما ماديا ولا يشكو امره لأحد … واتفقوا التجار ان يغلقوا دكاكينهم لمدة اسبوع كي يبيع لوحده وتنشط أحواله المادية .. وهو نفس السوق الذي سقطت عليه قذيفة … فإذا اقتربنا من الحدث في المجموعة عن طريق التأكيد وتوضح الحقيقة القائلة بان كل شيء في المجموعة قد خطط وصمم -التفاصيل الصغيرة والعناصر الكبيرة فيها وان عالم كاظم الحجاج هنا هو شيء من صنع نفسه يخططه ويشيده بمهارة وتقنية ويرى بعين ثاقبة التأثير الفكري والأدبي لما يطرحه من معالجات توافقيه بين تاريخ البصرة وتدميرها على يد الجانبين وواضح جدا من كلمة المؤامرة وهي تعكس المساعدة ..فالسؤال والجواب في ذهن وفكر الحجاج فقط فمن هو المتآمر الذي يحاول إنقاذ البصرة من القذائف والموت والاعتقالات والفقر والحرمان إضافة الى ضياع صناع الأدب والفكر فلم تبقى غير اسماء ومدن بأسماء عمالقة الفكر كمدينة الأصمعي التي تتساقط عليها القذائف لتمحو اسمها ..قدم الحجاج أطوارا تاريخية تظهر سلسلة الصور المتواصلة (فيبدو المنظر العام وكأنه يشمل العراق بكامله كما ان العناصر التي استخدمها في مجموعته قد اختيرت في الوقت نفسه السماء والأسواق وأسماء العلماء والمفكرين ومناطق البصرة وحكايات خرافية وهناك عناصر أخرى اعتمدها وهي مفردات شعبية (الطين خاوا والمسكوف والبخور ومشط الخشب …) وذكر بان هناك البيع بالدين كان موجودا ولكن بلا ربا … ان اهتمام الحجاج بالعناصر كانت مرتبطة برغبة للرجوع الى الاصل الذي نفتقده من الاصالة .. وأظن هي نبوءة أخرى لكاظم الحجاج ان بداية القذيفة على المدينة ..بداية لقتل الأصالة والقيم الانسانية في المجتمع العراقي … بعد ان كان لا احد يغلق بابه ،فلا لصوص ولا متلصصون .الابناء والاباء في متاجرهم او مدارسهم .النساء هنا لاعداد المائدة دون ضجيج تحت رعاية الام،او الام الكبرى .. الغرباء لا يدخلون الازقة … هذه الصورة هي لسان حال تفكير الحجاج انذاك لقراءة مستقبل مدينته ووطنه العراق.والجدير بالتمعن هو في استذكاره الخامس (مقهى الأدباء) وهو يسرد أماكن تواجده وبيوت أصدقائه من الأدباء البصرة ليؤكد بأنه كان ملازما لهم طيلة اشتعال الحرب ويبدو ان هذا الاستذكار الأدبي يبعده عن ذروة اللاشكلية والفوضى التي كانت تعيشها البصرة ويبدو ايضا ان الحجاج يشغل موضعين مختلفين ..فهو يكتب من ناحية للمتلقي وناحية الاخرى كانت كتابته كأنها دليل سياحي وتقترن هذه القدرة في استخدامه هذين الأسلوبين المختلفين الأسلوب البلاغي الجميل وأسلوب اللغة الدارجة.وهو يصيغ كلماته ويعطيها الشكل الأمثل وهوما نلمسه فيه من الميل الأسلوب الصحفي وهو المعروف كشاعر محترف . والغريب ان عشر من الاستذكارات لا تخلو من القذيفة والموت والفرح والعرس وما يريد ان يقوله مابين السطور من أفكار ويؤكد في صفحة شهادات ما كرره في خاتمة المجموعة:(ليس قصدي من وراء هذا الكتاب تسجيل ذكرى حاقدة لمدينتي طوال سنوات الحرب انما هي تذكير بمأساة الإنسان الأعزل أيام الكوارث الطاحنة ) .. ليجمل فكره الأدبي وإخلاصه لقلمه ومبدئه وهذه من النوادر الكتاب الذين عاشوا مأساة الحرب وجندوا كل أقلامهم لتكون تعبوية مساندة للحكم .. واختلف الحجاج في طرحه في هذه المجموعة او الكتيب الذي لا يحمل صفة قصة وإنما منجز أدبي استذكاري سياحي حصره بمشاهد القصف حصرا على البصرته .. وايضا جواب طبعه عند كاظم الحجاج وحده دون سواه.حين يقول: هذا قانون الحرب : لا تكن رخيصا … ولا تمت رخيصا … قد تكون هذه الكلمات خلاصة تفكير الحجاج كيف يكون كاظم الحجاج وهو يرسمها في الورقة الاولى من كتاب (المدينة ..والمدافع البصرة .. تحت القصف) .