خمدت ( كالعادة ) فورة الرفض والغضب ضد قرار الحكومة العراقية بالغاء البطاقة التموينية وتعويض المواطنين ببدل نقدي عنها ومن ثم التراجع عنه.
القرار كشف كل الاوراق ..وجاء في خضم موجٍ عاتٍ من الازمات يمور بها المشهد العراقي الحالي ..وقوبل برفض شعبي مطلق ..ركبت معه اطراف عديدة موجة الرفض هذه خوفاً من غضب جماهيري عارم قد لا تفلح كل العلاجات في السيطرة عليه ..يل ان الاوساط الشعبية اعتبرت القرار حرباً على الفقراء وهم اكثرية الشعب العراقي ..فيما سخرت المرجعية الدينية من سبب الالغاء ( وهو كما صرحت الحكومة بان نظام البطاقة التموينية يشوبه فساد كبير ) فاعلن المتحدث باسم المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان العذر اقبح من الذنب !!.
ومن المفارقات المضحكة المبكية ان جميع الكتل السياسية عبرت عن رفضها للقرار في نفس الوقت الذي كان ممثلوها في الحكومة قد صوتوا على الالغاء..لذا فاول اشكال الازمة هي المصداقية ..وهي معدومة او نادرة للاسف في عراق اليوم ..لاسيما اذا عرفنا ان جميع الكتل والاحزاب والتيارات بدون استثناء ( ايضا ) كانت قد جعلت من تعزيز مفردات البطاقة وتنويعها وديمومتها في مقدمة الشعارات التي خاضت بها الانتخابات التشريعية الاخيرة لتجازي المواطن المنكوب بها قبل الانتخابات المقبلة بالتصويت على الالغاء !!..الحكومة حاولت ان تجد كبش فداء لتذبحه على فورة الغضب الشعبي.. فسربت خبراً مفاده ان وزير التجارة هو من اقترح الالغاء ؛ فسارع الاخير في مؤتمر صحفي الى نكران ذلك وتبرءة نفسه ..فيما اعتذر بعض وزراء التيار الصدري عن التصويت على الالغاء..ولكن العبرة في المبدأ وليس في الاعتذار.
ازمة البطاقة التموينية او الحصة او الكمية او سمها ماشئت جاءت في نفس الوقت الذي تراكمت فيه الازمات من كل حدب وصوب ولم تفلح معها لا قمة اربيل ولا لقاء النجف ولا عودة الرئيس طالباني بعد رحلة علاج ماراثونية ..واخر التسريبات تقول ان الرجل نفض يده من كل شئ بعد ان (( طابت ركبته ))..وانه غادر الى السليمانية وترك (( الديوك )) تتصارع فيما بينها حول مجموعة من الازمات المستعصية مثل :
– الوزارات الامنية الشاغرة والتي تدار بالوكالة ( خلافاً لدستور بريمر) منذ ثلاث سنوات.
– اللقاء الوطني وازمته المستمرة منذ سنة ( ينعقد او لا ينعقد ؟ ) .
– قانون العفو العام والخلافات الجسيمة بشانه.
– قانون الاحزاب والانتخابات والجدل السفسطائي حول من يمول الاحزاب ؟ وكيف تأكل الاحزاب الكبيرة والمتنفذة تلك الصغيرة ..والترشيحات الفردية .
– ازمة البنك المركزي واقالة ..او استقالة محافظه واسرارها وتداعياتها ومن شارك فيها.
– ازمة صفقة السلاح الروسية وما رافقها من رشاوى وعمولات وصفقات مشبوهة ادت الى الغائها او الى ارجائها كما تقول الحكومة.
– ازمة قيادة عمليات دجلة ورد الاكراد بتشكيل عمليات حمرين لمواجهتها وتطور الامر الى المواجهات المباشرة .
– قانون النفط والغاز الذي يشكل عصب الخلاف بين اربيل وبغداد.
– ازمة المادة 140 من الدستور..وهل هي ميتة و منتهية الصلاحية ام انها مازالت حية تتنفس ؟.
– ازمة حكومة الاغلبية السياسية والتي تعني ببساطة متناهية نسف كل التوافقات الماضية والغاء مبادئ التوافق والشراكة وحكومة الوحدة الوطنية .
– ازمة اقرار الموازنة العانة السنوية وابوابها وحصة الاقليم ( المدلل ) فيها..
– ازمة الثقة الدائمة بين شركاء العملية السياسية .
ان كل هذه الازمات وغيرها الكثير.. ولدت شعوراً بالاحباط لدى المواطن البسيط اولاً.. بان لافائدة ترجى من كل الحلول الترقيعية والوقتية التي تقوم على المصلحة وتبويس اللحى والايهام بان كل شئ تمام وتحت السيطرة..والمواطن محقٌ في احباطه ؛ بدليل اننا ومن اجل حل هذه الازمات وغيرها ؛ فقد شكلنا لجانا ولجان ..تفرعت عنها لجان ولجان ..لم تفلح في حل اي من هذه الازمات والمشاكل ..واذا اضفنا الى هذه الازمات ثلاثاً اخرى من تلك التي تعودنا على تسميها بالازمات المعمرة الا وهي : الكهرباء العليلة ..والخدمات الشحيحة ..والامن المفقود فان البلد يصبح بحاصل جمع هذه الازمات وببساطة : بلد الازمات.
ويبدو لي من خلال استقراء بسيط ولا يحتاج الى فلسفة معمقة ان هناك من يسعى ( من داخل العراق وخارجه ايضا ) الى ديمومة واستمرار هذه الازمات وتغذيتها بمختلف الوسائل ولغايات واهداف معينة..
المضحك في الامر ان يطلع علينا احد الـ ( المتسيسين الجدد ) ليدعي ان الخلافات والاختلافات والازمات هي من المظاهر الديمقراطية ؛ متناسياً ان هذه الازمات قد زادت عن حدها وان العراقيين البسطاء هم فقط من يدفع ثمنها الباهظ وليس احد غيرهم..والمبكي والمثير في الامر ان ( الديمقراطية الجديدة ) لم تنجب لنا بعد عشرة اعوام من ممارستها ؛ سياسياً او مسؤولاً مدنياً او عسكرياً عراقياً واحداً يطلع على الملأ ويعترف بشجاعة بأنه سبب هذه الازمة ..او تلك المجزرة وانه يتحمل نتائجها ..ويستقيل من منصبه طواعية كما يحدث في بلدان الله الاخرى.. ويضع نفسه تحت تصرف القضاء قبل ان ( يلطش ) المقسوم و( يشلع ) باول طائرة غرباً او شرقاً بعد ان هرّب ملايين او مليارات الفقراء قبله ..واودعها في حسابات سرية..وهو امن مطمئن ونايم رغد للظهر !!.
وقد استوقفني طويلا الاسبوع الماضي تصريح لافت لاحد اعضاء التحالف الذي ينتمي اليه دولة السيد رئيس الوزراء حيث قال النائب عن المجلس الاعلى الاسلامي عزيز العكيلي ( أن جميع الملفات الامنية والخدمية في العراق هي بيد رئيس الوزراء وأن كل شي في العراق هو بيد المالكي ..فهو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس جهاز المخابرات كما ان مجلس النواب هو ايضا بيد المالكي من خلال كسب كتل في المجلس مشيرا الى انه يستطيع استثناء كل شي من القانون كما ان جميع القرارات والتعيينات هي بيد المالكي الذي يمتلك سلطة لا يمتكلها احد غيره والحكومة لم تقدم خدمات بسبب اعتماد المالكي على اطراف وجهات ليست بمستوى عال من الكفاءة والمسؤولية) ..
جرس الانذار الحقيقي هذه المرة جاء من المرجعية الدينية حيث نُقل عن السيد مرتضى الكشميري وكيل المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني العام في اوربا واميركا ما نصه حرفيا : (( ان المتصدين للحكم في العراق خيبوا ظن المرجعية بهم وفسادهم يزكم الأنوف وفضيحتهم الأخيرة التي كشفها الرئيس الروسي في صفقة الأسلحة بعد أن قال لكبيرهم حاشيتك أختلست وأخذت عشرة بالمائة من قيمة الصفقة صدم الشعب المسكين المُضطهد وفوق ذلك يحاربوه ويقطعون عليه قوته في البطاقة التموينية في ظل إنعدام الخدمات الأساسية والكهرباء.
وأشار الى إن المليارات المسروقة هُربت الى الخارج ولا زالت تُهرب .. فهل هذا جزاء من عانى الأمَرّين في السابق والحاضر؟
ووجه خطابه الى الحكومة قائلاً الله .. الله .. بهذا الشعب المظلوم فلا تكونوا أنتم والزمان عليه وأحذروا من وقوفهم يوم القيامة بين يدي عدل حكيم شاكين وباكين منكم )) .
فاذا كان هذا راي المرجعية التي تحظى باحترام غالبية العراقيين ..ولها كلمة مسموعة لدى الحكومة والسياسيين ..فماذا يقول المواطن البسيط المغلوب على امره غير ان يفوّض امره الى الله..وهو يصحو كل يوم على ازمة جديدة تضاف الى قائمة الازمات التي لا حل لها ..في بلد الازمات المستعصية !!.
[email protected]