خاص : كتبت – سماح عادل :
“غالب هلسا” كاتب وروائي أردني.. ولد في “ماعين” قرب “مادبا” المملكة الأردنية، في 18 كانون أول/ديسمبر 1932، رحل عن بلده في عمر الثامنة عشرة إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأميركية، لكن أُجبر على العودة إلى وطنه، ورحل ثانية إلى بغداد، ثم إلى القاهرة، وقد أكمل فيها دراسته للصحافة في الجامعة الأميركية، وعاش “غالب هلسا” في مصر ما يزيد عن عشرين عاماً وكان يعمل في الترجمة الصحافية، ويكتب القصص والروايات، ويقوم بترجمة الأدب والنقد، عام 1976 أُجبر “غالب هلسا” على ترك القاهرة إلى بغداد، بسبب نشاطه السياسي وأعتراضه على سياسات الرئيس المصري “أنور السادات”.
ترك بغداد بعد ثلاث سنوات وذهب إلى بيروت، حيث عاش هناك حتى إجتاحت القوات الإسرائيلية العاصمة اللبنانية، فحمل السلاح، وظل في خنادق القتال الأمامية، وكتب عن هذه الفترة الهامة نصوصاً تجمع بين التحقيق الصحافي والقصة، ثم رٌحَل مع المقاتلين الفلسطينيين على ظهر إحدى البواخر إلى عدن، ومنها إلى إثيوبيا ثم إلى برلين، وبعد ذلك عاش في دمشق التي لازمها حتى توفي بعد سبع سنوات من وصوله إليها.
مثقف ثوري..
يقول عنه الروائي، “إبراهيم نصر الله”: “إن المفارقة الكبرى في حياة غالب هلسا كانت قائمة باستمرار في هذه القوة الخارجية له كمثقف ثوري شجاع، خاض معارك الأردنيين، وخاض معارك المصريين واللبنانيين والفلسطينيين، ولكن ثمة هزيمة لم يستطع تجاوز آثارها حتى آخر أيام حياته، وأعني بذلك هزيمته حينما كان طفلاً، إذ عاش حياته وحيداً ومضطهداً، وهو يتحدث عن ذلك بشكل مفصل في أكثر من مناسبة. ولعلنا هنا نصل إلى النقطة الأهم في كتابة غالب هلسا، بل إلى السمة الغالبة على هذه الكتابة، والمتمثلة في أن غالب هلسا كان يكتب سيرة ذاتية متصلة موزعة على رواياته ونصوصه الأدبية، ويتفق على هذا الأمر كثير من النقاد العرب. وقد كانت هذه الكتابات تتحدى السلطتين القاهرتين اللتين وقفتا في طريق حياته بلا رحمة: السلطة الاجتماعية التي سحقته طفلاً، والسلطة السياسية التي عملت كثيراً على أن تسحقه بعد ذلك سواء بظروف السجن أو الإبعاد أو الملاحقة التي كانت تضطره لأن يعيش مختفياً متخفياً، أو عدم السماح له بالعودة إلى الوطن”.
ترميم الذات بالكتابة..
يواصل، “إبراهيم نصر الله”، عن كتابات “هلسا” الأدبية: “إن قراءة ما كتبه غالب تجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها أنه كان يحاول أن يرمم نفسه بالكتابة ويرمم الواقع بالكتابة، ولكن عذاب غالب الحقيقي كان قائماً في إدراكه بأنه كان يدرك أنه (يرمّم) وأن الحقيقة غير ذلك، وأن أحلام اليقظة التي أحتلت في الرواية مكان الأحلام في الطفولة، هي أحلام يقظة لا غير. وهكذا، ظل معذباً، داخل الكتابة بقدر ما هو معذب خارجها. ويمكن أن نستعيد حالته النفسية الصعبة التي عاشها وهو يكتب روايته الأخيرة (الروائيون) مستعيداً تجربة السجن المدمِّرة وسوء المعاملة الوحشية التي عاشها مع السجناء في مصر، يقول: (في آخر صفحتين توقفت عن الكتابة. علاج، أطباء أعصاب، إلى أن خطر لي أن الذي ينتحر ليس أنا.) ولكن المفارقة أنها كانت روايته الأخيرة”.
الأحلام والكتابة..
عبر حوار مع “غالب هلسا”، أجرته الصحافية “غالية قباني” عام 1987 ونشر في جريدة (الحياة) اللندنية في 2008، يقول عن كتابته لأحلامه: “الغريب أن الأحلام هي من أبرز عناصر كتابتي اللاحقة، أكتب تقنية الحلم. رواية (ثلاثة وجوه لبغداد) مثلاً، كلها أحلام وكوابيس، وليس فيها واقع. منذ صغري والحلم يفتنني. لكن، وراء ذلك سبب مهم، أنه منذ وعيي على العالم وأنا أشعر بالملل. ملل لا ينفيه شيء. دائماً بانتظار حدوث شيء ما يخرجني من هذا الملل والحياة الروتينية اليومية. بالتالي، فإن الحلم خروج عن هذا السياق، والأشياء في الأحلام جميلة ومنمقة، خصوصاً الأحلام التي يوجد فيها الماء، مثل أن يكون هناك بحر. أصحو من الحلم وأبقى بعدها لساعة وأنا في حالة شعور بأنني عشت ذلك الجمال فعلاً. من النادر أن يعطي الواقع هذا الشعور، من هنا هذا الإلتصاق الوثيق بالحلم، ففيه عودة إلى عالم الطفولة، إلى حيث العالم ملتبس والأشياء تحدث فيه بطريقة فهم الطفل لها، وهذه معطيات تشكل الفانتازيا. أتابع بعض الكتاب، خصوصاً العرب منهم، فأرى الفانتازيا عندهم مملة”.
ويوضح “غالب هلسا” أكثر عن إختياره للأحلام: “حتى الآن، لا أعرف إن كان إختيارياً كوسيلة تعبير صحيحاً أم لا. لا أعرف لماذا اخترتها أساساً وأنا صغير. أعتقد أن لها علاقة بعقد الطفولة. لقد أنهيت السنوات الأربع للمرحلة الإبتدائية في سنتين، ثم انتقلت إلى مدرسة داخلية اكتشفت معها أنني لست فقط أصغر طفل في المدرسة، بل إن أصغرهم يكبرني بثلاث سنوات على الأقل. سبّب لي ذلك إحساساً بالهامشية وبأنني ليست لي قيمة في هذا المكان. وأذكر أن إثنين من الطلبة الكبار كانا ضخمين وبدينين، وعندما كنت أسير في المدرسة تنتابني حالة من الرعب لا مثيل لها، من أنهما قد يدهسانني، لأنني غير مرئي بالنسبة إليهما، وقد يقضيان عليّ. كان لدي إحساس بأنني أقلّ من الآخرين، ولا يزال هذا البناء النفسي يرافقني حتى الآن. بدأت الكتابة في سن صغيرة كأنني أريد أن أبرر لهؤلاء الطلبة الكبار أنني أملك شيئاً مميزاً عنهم. لكنني لاحظت أن الكتابة لم تحل المشكلة، وأكتشفت أنني غير مرئي بين زملائي وأن الكتابة لم تكن قيمة لديهم. هذا الإلغاء المستمر حرضني على رغم ذلك، على أن أثبت نفسي في المجتمع من خلال الكتابة. ولكن هذا الدافع انتهى الآن، فالآخرون يعاملونني على قدم المساواة. ما جدوى الكتابة إذاً. في الحلم الواقعي كانت السعادة في منتهاها تتحقق في أن أسير مع فتاة جميلة في حديقة غنّاء تتوسطها بحيرة، لكن ما كتبته في القصة كان مختلفاً، ففي الحديقة نفسها المملوءة بالعشاق والورد، وعلى رغم وجود فتاة جميلة، فإن بطل القصة يشعر بالقرف ويريد إنهاء العلاقة في شكل ما. ولغاية الآن أعيش هذه الإزدواجية: سذاجة في الواقع وقدر كبير من الحكمة في كتاباتي. مثلاً، أي شيء يسحرني في تعاملي مع الناس ويجعلني أنفعل. لكن في الكتابة وأمام المعطيات نفسها، أجد نفسي أدرك الآخر في شكل مختلف. وهذا يدلل إلى أنني كلما إزددت حكمة، فإنها تكون في الكتابة وليست في الحياة”.
الكتابة قد تفسد الحياة..
عن أهمية الكتابة وضخامة تأثيرها على حياته، يقول “غالب هلسا”: “أعيش الحياة بإحساس مزدوج: إحساس بالذنب من أن أي متع في الحياة هي على حساب الكتابة، ما يشبه دور الأم الغيورة التي تخصي أبناءها ليبقوا جنبها. والكتابة عندي لها هذا الدور، وهي تدفعني لإنهاء أي متعة بحجة الكتابة. ارتبطت مرة في مصر بعلاقة جميلة استمرت ستة أشهر، كنت مستغرقاً فيها إلى حد لم أعرف الملل كما في أوقات أخرى. كانت علاقة ناضجة ومعطياتها مقنعة ولست بحاجة إلى صورة مثالية مكملة للمرأة كي أتقبلها. كانت ملكة في كل شيء، تتصرف كملكة، مثلاً عندما يصلها شيك من الإذاعة بعد إفلاس، توزع المبلغ على من حولها لتسعدهم وتسعد نفسها. وعلى رغم تلك السعادة، إلا أنني كنت أشعر بالذنب أنني لا أكتب، فالعلاقة أخذتني من حالة الكتابة. في مرة كنا جالسين في البيت فحكيت لها عن رغبتي بالعودة إلى الكتابة، وأعطيتها القلم والورقة وقلت لها: «اكتبي عنواناً لها فيدك مبروكة». خطت هي العنوان الذي خطر ببالها وكتبت تحته (بقلم غالب هلسا). في تلك اللحظة كنت أتأمل الورقة ولم أدر كيف صدر صوت من شخص آخر في داخلي وقال لها: العلاقة انتهت. وفعلاً العلاقة بيننا انتهت. الأدب يصبح أحياناً بديلاً عن الحياة وأي محاولة لاستغراق الكاتب فيها يعني استحالة الإبداع. البشر نمطان: نمط يستمتع بالحياة، وهذه جنة محروم منها من يكتبون، ونمط يعيش ليراقب نفسه وهو يعيش الحياة. هذه الخصوصية تتبعني إلى أدق خصوصياتي، في قمة توهجي بعلاقة ما أشعر أن هناك شخصاً آخر يراقبني ويكتب اللحظة. وفي رواية «الخماسين» شخصية نسائية تقول لحبيبها: «أنت كذاب، وطوال الوقت أشعر أنك تكتب اللحظة ولا تعيشها».«عندما كتبت ما كتبت لا أعرف لماذا جعلت بطلة الرواية تقول ما قالته، أنا اليوم أرى الأشياء بوعي جديد. لقد أرادت أن يتواصل معها الحبيب في العمق، وكانت الكتابة حاجزاً بينهما”.
وعن تصويره لشخصيات في الواقع يقول “غالب هلسا”: “استعير من الواقع نماذج وأغير فيها لأجد نفسي في هذا التغيير أكشف في الشخصية أكثر مما تكشفه حياتها الواقعية. إنه الحدس عند المبدع. من هنا الكتابة أقوى من الواقع. في إحدى المرات استعرت شخصية فتاة، كانت ليست فقط متحررة جداً، بل مبعثرة وضائعة، لكنها في الكتابة عندي، كان مآلها أنها تحولت إلى إنسانة متصوفة. وعندما زارني زوج أختها بعد سنوات في بيروت، سألته عنها، ففاجأني بحقيقة أنها باتت متدينة.. الحدس الإبداعي أن تسبر الشخصيات الحقيقية في دواخلها قبل أن تنقلها إلى الإبداع”.
خوف الكتابة..
أما عن إحساسه بالكتابة يبين: “إحساسي بالكتابة أنني أقوم بعمل لن يعيش، كل كتابة انتهي منها أراها مجرد عمل «ملخبط» أخجل منه. وهذا يفسر أن أول مجموعة قصصية لي نشرت بعد 13 سنة من كتابتها، كذلك مجموعة «زنوج وبدو وفلاحون» (1976)، ورواية «الضحك» نشرت بعد كتابتها بعشر سنين. أخفي الأعمال في البداية كأنني ارتكب فضيحة، وعندما يطلع عليها أحد الأصدقاء ويقول لي: «إن العمل مش بطال»، أحصل على بعض الثقة التي تدوم حتى اليوم الثاني فقط. أنا بذلك أشبَّه بالبنت القبيحة في العائلة التي تظل تشعر بالحاجة إلى المديح المستمر وإلى علاقات مع رجال يثبتون لها أنها جميلة. أنا لدي الإحساس نفسه، دوماً أشعر أنني قمت بعمل غير جيد، وعندما ينشر، احتاج أن يكتب عنه الآخرون بإيجابية كي أثق بنفسي. وعندما تنقطع الكتابة عني ستة أشهر مثلاً، ولا يأتي أحد على سيرتي في الصحف ينتابني شعور بأنني كاتب غير مهم”.
مصري الهوية..
يقول الكاتب “فخري صالح” عن تأثر “غالب هلسا” بمصر: “ينتسب غالب هلسا إلى مصر أكثر مما ينتسب إلى وطنه الأردن، لأسباب تتصل بشخصياته الروائية والجغرافيا التخيلية، التي تتحرك في فضائها تلك الشخصيات، فهو في معظم أعماله الروائية، يتحرك ضمن الفضاء السياسي والاجتماعي المصري لقاهرة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لا يشذّ عن ذلك من أعماله الروائية إلا «سلطانة» (1987)، التي تتخذ من المكان والشخصيات والأحداث والذكريات الأردنية مادة روائية تستعيدها من الطفولة. أما في باقي أعماله الروائية، فإنّ هلسا يكتب عن القاهرة، ويبني من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمشين في معظم الأحيان، ومن نقاشات اليسار المصري وانشقاقاته، عالمه السردي، مازجاً ذلك كله بتذكرات شخصية «غالب»، أو «خالد»، الذي عادة ما يأخذ دور الراوي، وتتصفى من خلال رؤيته باقي الرؤى التي تحملها باقي الشخصيات. وتذكرنا هذه الشخصية من حين إلى آخر بماضيها أو بطفولتها البعيدة في مسقط رأس غالب هلسا، وبلدته ماعين، أو مكان دراسته الإعدادية والثانوية في مادبا، ومدرسة المطران في عمان”.
ويضيف “فخري صالح”: “من هنا يبدو عالم غالب هلسا، الذي غادر الأردن لآخر مرة عام 1956 ولم يعد إلا محمولاً على نعش يوم وفاته (18 كانون الأول/ ديسمبر 1989)، مسكوناً بالحياة الثقافية والسياسية المصرية في فترة معقدة من تاريخ العلاقة بين اليسار المصري والحكم الناصري في خمسينات القرن الماضي وستيناته. وتتصل الجغرافيا التخيلية لروايات غالب وقصصه بتلك الحقبة الزمنية التي عمل فيها الكاتب في كل من «وكالة أنباء الصين الجديدة» ثم «وكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية» لفترة تتجاوز 16 عاماً، مشاركاً بفاعلية في الحياة الثقافية المصرية، إلى أن أبعد من القاهرة بأمر من السادات عام 1978 مغادراً إلى بغداد ثم إلى بيروت عام 1979، ومن ثمّ إلى دمشق بعد الحصار الإسرائيلي عام 1982”.
واقعي وصادق..
يقول الكاتب “مهدي نصير” عن أعماله الروائية : “غالب هلسا روائيٌّ واقعيٌّ استخدم تقنياتِ سردٍ متطورةً في إقامة معمار روايته، فلغة السرد والوصف التي يستخدمها الراوي المثقف كانت لغةً عاليةً وشعريةً في كثير من مضامينها وإحالاتها النفسية والثقافية، في حين كانت لغة الحوار لغةَ الشارع والشخصيات وحسب مستواها الثقافي والطبيعي في حركتها ولغتها اليومية السائدة، وأعطى ذلك لمدونة غالب هلسا صدقيةً عاليةً وتوظيفاً فنياً عالياً للمناخات الفعلية التي تحرَّكت في فضائها شخصيات هذه المدونة السردية الثرية . كما وظَّف غالب هلسا ثقافته ورؤاه الفلسفية والفكرية والتراثية توظيفاً عميقاً وأدرجها في مدونته الروائية من خلال شخصيات مثقفة حقيقية تحمل هذا الفكر وهذه الرؤى، استخدم غالب هلسا أدوات التحليل النفسي الفرويدية بكثافةٍ عاليةٍ في تحليل المواقف والشخصيات، وبرزت هذه التحليلات في حوار بعض الشخصيات كالحوار الذي يدور بين جريس وسمحة في “سلطانة” حول عقدة أوديب التي تصف بها سمحة شخصية جريس في تحليلها لحبه لآمنة وسلطانة معاً، كذلك استخدام الراوي في روايات “الضحك” و”الخماسين” و”البكاء على الأطلال” و”ثلاثة وجوه لبغداد” و”السؤال” عبارات كعقدة أوديب وعقدة الكترا وعقدة الإخصاء، بل أن تحليله لبعض مقولات البدو التي تهاجم أنماط الطعام والشراب للفلاحين في رواية “سلطانة” يردها إلى أثرٍ ميثولوجي قديم تحدَّث عنه فرويد في موسى والتوحيد” .
تداخل الأزمنة..
عن تقنياته في كتابة الرواية يواصل “مهدي نصير”: “في كل الأعمال الروائية لغالب هلسا تم استخدام تقنية تداخل الأزمنة وتداخل الأمكنة واستعادة شخصيات من أعمال روائية سابقة، وتداخل الواقع بحلم اليقظة بالحلم في سرديةٍ كان على القارئ تفكيكها للوصول للأحداث الحقيقية وتمييزها عن الحلم وعن حلم اليقظة والتي كانت تتداخل مع الأحداث الفعلية بدون فواصل زمنيةٍ أو مكانية، نجد ذلك بكثافةٍ طاغيةٍ في “ثلاثة وجوه لبغداد” وفي باقي روايات غالب هلسا وإن برزت بنسبٍ أقل” .
توفي”غالب هلسا” في اليوم ذاته الذي ولد فيه من عام 1989 في دمشق عن سبعة وخمسين عاماً وكأنها مفارقة من الزمن.