23 سبتمبر، 2024 9:23 م
Search
Close this search box.

“حاتشبسوت” .. أحدثت تغييراً في النظام الملكي ومٌحيت ذكراها عمداً

“حاتشبسوت” .. أحدثت تغييراً في النظام الملكي ومٌحيت ذكراها عمداً

خاص: قراءة – سماح عادل

الملكة “حاتشبسوت” واسمها ” ماعت كا رع” كانت من أهم الملكات في التاريخ المصري القديم، حيث أنها تولت الحكم في فترة طويلة نسبيا من الزمن، كما أنها أرست قواعد جديدة وكان لها مشروعا إصلاحيا سعت من خلاله إلى إرساء قواعد المساواة في الحكم بين الذكر والأنثى، ولذلك بعد موتها جرى تدمير ذكراها، وطال الأمر إلى العبث بموميتها المحنطة، حتى أنه طوال سنوات عددية كان الباحثون يشكون في أنها ماتت ميتة غير طبيعية.

ملكات لمصر..

لم تكن”حاتشبسوت” الملكة الوحيدة في تاريخ مصر القديمة التي تولت أمور الحكم، فهناك ملكات تولين الحكم في مصر القديمة مثل الملكة “نيتا قرت” التي مارست حكم مصر في نهاية الأسرة السادسة، وبردية “تورين” التي تعتبر أحد القوائم الملكية المصرية الأكثر أهمية تضم اسم هذه الملكة التي تزوجت من أخيها، ونصبت نفسها ملكا على مصر دون منافس عندما توفى زوجها، والملكة” سوبك نفرو” آخر حاكم في الأسرة الثانية عشرة كانت زوجة وأخت للملك “امنمحات الرابع”، واعتلت العرش بمفردها وورد اسمها ضمن قوائم الملوك في الكرنك وسقارة وتورين، وهناك ملكة أخرى في نهاية الأسرة التاسعة عشرة اسمها “تاو سرت” زوجة الملك سيتي الثاني.

إما “حاتشبسوت”  فقد تم محو ذكراها وصمتت كافة الوثائق الرسمية عن ذكرها، وتم تحطيم صورتها على المعابد، وبعد ألف ومائة عام ذكرها الكاهن المصري “مانيتون” من سبنتوس، حيث تلقى تكليفا من “بطليموس الثاني فيلادلفوس” بكتابة تاريخ ملوك مصر منذ بداية الزمان، وقد ضمن في مؤلفه اسم هذه الملكة، وطبقا ل”مانيتون” حكمت “حاتشبسوت” واحد وعشرين عاما وتسعة أشهر، وكانت الملك الخامس في الأسرة الثامنة عشر، وكانت إما لملك يدعى “تحوتمس الثالث” وهو ملك حكم البلاد بعدها وظل في الحكم خمسة وعشرين عاما وعشرة أشهر.

طفولتها..

من الصعب تصور طفولة “حاتشبسوت”  وفترة المراهقة لأنه لا توجد وثيقة تاريخية تقدم معلومات عن حياتها، فالمصريين القدماء لم يعتادوا أن يتركوا شيئا عن الحياة الخاصة بملوكهم وكذلك الأمراء، المتوفر هو معارف لما أرادت أن تتركه هي للذكرى التاريخية ككائن ذا طبيعة إلهية، وذلك من خلال النقوش والأشكال القائمة في معبد حتحور وعلى حوائط الشرفة الثانية بمعبد الدير البحري، ففي هذه الأماكن ارادت الملكة “حاتشبسوت” أن تنقل فكرتها الرئيسية، وهي أنها كبرت في حماية الإلهة حتحور، وطبقا لأسطورة الولادة الإلهية ل “حاتشبسوت”  التي توجد في الدير البحري هو أن امها اتصلت بالإله آمون جسديا لتنجب “حاتشبسوت”، وعندما تمت عملية الولادة الإلهية جرى تقديم الطفل والكا الخاصة به إلى الإله آمون، وتولت هذا الأمر الإلهة حتحور ، وتقول حتحور للطفلة الملكية أن والدها الإله آمون قد منحها حق التجلي على عرش حورس، وأنه حباها بكل الصحة والحياة والاستقرار والبقاء.

ووفقا للبيانات التاريخية ولدت “حاتشبسوت”  في طيبة، وكانت مهيأة للزواج بابن ملكي، وكانت محاطة بتبجيل والدها والرعاية الخاصة التي تحيطها بها جدتها “احمس نفرتاري”، كانت “حاتشبسوت”  الابنة الكبرى للملك “تحوتمس الأول”، وكانت ذات مكانة عالية لديه بسبب موت أغلب أبناءه الذكور، ويستخلص من الملاحظات التي وضعها الباحثين وفقا للاكتشافات التاريخية أن هناك نوعا من الصراع بين فريقين: الزوجة الملكية “احمس تا شريت” والدة “حاتشبسوت”، التي لم تنجب إلا إناثا رغم أن الفرع التي تنسب إليه الأكثر مشروعية بالعرش، وبين الزوجة الثانوية “موت نفرت” التي أنجبت ل”تحتمس الأول” أبناء ذكور لخلافته على العرش..

حاتشبسوت وسنموت..

على مدى 35 عاما كان “سنموت” شخصية جوهرية مؤثرة في حياة “حاتشبسوت”، وقد أصبح من أكبر القادة العسكريين في البلاط الملكي، وابتداء من تعيين “سنموت” معلما ومربيا ل “حاتشبسوت” كان كل شيء يحدث في حياتها بإيعاز منه، كما أن تاريخ العلاقة الشخصية التي ربما كانت قائمة بين “حاتشبسوت” و”سنموت” أخذت تصبح أسطورة شديدة الجاذبية في العالم القديم، هناك احتمال كبير بأن “سنموت” بدأ حياته بالقرب من الملك في سلك الجيش، وتم تعيينه خلال تلك السنوات مدير بيت الابنة الملكية، مما يعني مؤدب يقوم بممارسة سلطات تتعلق بتربية الأميرة وأملاكها، وكان هذا المنصب مقتصرا على العسكريين الذين حاربوا بجوار الملك، وهناك استنتاج أن “حاتشبسوت” قامت بممارسة السلطة الملكية إلى جوار والدها، وتزوجت “حاتشبسوت” من أخيها الطفل “تحوتمس الثاني” وبذلك ضمن “تحوتمس الأول” أن حكم مصر في أيدي ابنته المفضلة وضمن شرعية العرش لابنه، ورغم ذلك كانت التعليقات التي تجري في القصر أنه بينما الملكة لا تكاد تزور المكان الذي فيه الطفل الملك كانت تتلقى بشكل مستمر زيارات “سنموت”. ويرجح بعض الباحثين أنها أنجبت منه ابنتان نسبتا للملك “تحوتمس الثاني”.

السلطة الملكية..

كانت حياة “تحوتمس الثاني” قصيرة وحدث تحول في حياة “حاتشبسوت” بموته، حيث وضعت نهاية لفترة انتقالية بدأت مع نهاية حكم “تحوتمس الأول”، وكانت “حاتشبسوت” تمارس السلطة وتحظى بمساندة “سنموت” ومساندة “حابو سنب” الذي لم يكن قد تم تصعيده بعد ليشغل منصب الكاهن الأول لآمون، لكنه كان ذا تأثير كبير في هيكل رجال الدين التابعين للإله.

من المؤكد أن السبعين يوما التي استمرت فيها جنازة “تحوتمس الثاني” كانت عصيبة لكن “حاتشبسوت” كانت مدعومة برجلين وتمارس السلطة منذ فترة من الزمن، وقد تم التفكير في إنشاء نوع من الخيال الديني السياسي الذي يسمح لها بالاستمرار في ممارسة السلطة، كان الحل سهلا حيث كانت هناك الحاجة إلى ملك جديد ذكر، وربما كان نصحاء الملكة هم الذين نوهوا لها باستخدام هذا الطفل لتزويجه بزوجة جديدة للإله، وكان يجب على “حاتشبسوت” أن تتخلى عن منصبها وطبقا للتقاليد يتم تسليم هذا المنصب الكهنوتي إلى من تليها وهي الابنة “نفرو رع”، وكانت “حاتشبسوت” بمثابة الوصي لكنها ونتيجة لأسباب عديدة منها ما يتعلق بظهور خطر الهكسوس مرة أخرى توجت نفسها ملكة لها كافة الصلاحيات.

فترة سلام..

أوقفت “حاتشبسوت” أثناء حكمها ابتداء من العام السابع الحملات الحربية التي كان يقوم بها سابقوها من الملوك، هناك بعض الأنشطة الحربية مسجلة في فترة ما قبل صعودها عرش البلاد كملك لمصر، لكن هذه الأنشطة توضع في إطار الأداء العادي الذي عليه السياسة الخارجية الذي بدأتها هذه الأسرة، ومع هذا هناك انعدام لمؤشرات على نشاط حربي خارجي ل “حاتشبسوت”، ومن ناحية أخرى أثناء حكم “حاتشبسوت” لم تفقد مصر أيا من الأراضي الأجنبية التي سيطر عليها “تحوتمس الأول”، والجزية التي كانت تقدمها بعض الدول لمصر كانت تصل إليها في الموعد المحدد وبشكل سنوي، مما يعني أن سيطرة مصر في الخارج لم تتأثر وأن ذلك يتوافق مع فترة سلام ربما حضت الملكة عليها كنتيجة لخط سياسي اتخذته عمدا، هناك جيش قوي ومدجج بالسلاح وله سمعته الكبيرة المتمثلة في الانتصارات في الحملات التحوتمسية، وبالتالي كان الضامن للسلطة المصرية التي كانت تمارس دور الردع دون الحاجة إلى التدخل.

إرسال البعثات..

كما كان ل”حاتشبسوت” مشروع هام وهو إرسال بعثة إلى “بونت” بلد البخور، وكانت “بونت” تعني بالتحديد ما هو غريب الذي هو سمة العالم الخارجي الذي يقع خارج حدود وادي النيل، وكانت هذه الأرض تأتي منها المواد العطرية الرئيسية والمعادن الثمينة التي كانت تستخدمها مصر في طقوسها وعشائرها، إذن كانت لهذه البلد أهمية بالنسبة لمصر حيث كان اللبان والمر من المواد ذات الأهمية الإستراتيجية، وكان المصريون يعتقدون أن ذلك المكان كان مقر إقامة الإله رع على الأرض، إنها النقطة التي يظهر فيها النجم السماوي كل صباح لينير الأرضين وباقي أنحاء العالم المخلوق، ولقد كان كبير خدم آمون “سنموت” مدركا الجدوى السياسية المالية التي يمكن أن تنتج عن هذه الرحلة لصالح “حاتشبسوت”، ولصالح مشروعها، والأمر لم يكن يكمن فقط في استيراد الأشجار المنتجة للزيوت العطرية التي كان يعاد استزراعها في حديقة لتوفر العطر، الذي يريده معبد الملكة لاستكمال الطقوس والشعائر في الداخل، وإنما أيضا للتعرف على الطرق والمسالك المؤدية إلى بلاد “بونت” وهي مسالك يجب أن تظل مفتوحة وجاهزة ومعروفة على الدوام، ومن جانب آخر فإن التبرع لمعبد آمون بالكرنك بشجر البخور سوف يجعل الكهنة يشعرون بالعرفان للملكة لهذه الهدية العظيمة.

اختفاء حاتشبسوت..

آخر تاريخ يتعلق بالملكة “حاتشبسوت”هو العام العشرون للحكم المشترك، و يرجح  الباحثون أن “سنموت” مات أولا ثم أفل نجم “حاتشبسوت”، ويرجح أيضا أن تكون ماتت وبعد ذلك جرى تعتيم منظم على ذكراها، ويرجح أن محاولات الملكة “حاتشبسوت” لمساندة “سنموت” وما صحب ذلك من طاعة البلاط وصمته لم تجد نفعا في الاعتراف بها كملك فعلي للبلاد، في نظر الأعضاء المهمين من صفوة المجتمع المصري، حيث جرى تعديل التاريخ بعد تولي الملك “تحوتمس الثالث” الحكم، وجرى تشويه وجه الملكة “حاتشبسوت” على الجدران وإهمال اسمها حين التأريخ لملوك مصر، حتى أنه كان هناك بعض رجال البلاط الذين كانوا مرتبطين رسميا بالملكة، ومع هذا لم يعترفوا من خلال النصوص الموجودة في مقابرهم بوضعها كملك، ومن أمثلة ذلك الوزير وسر آمون أو الكاهن الثاني لآمون وهو “بوي م رع”.

يبدو أنه بمجرد أن ذهب “سنموت” و”نفرو رع” و”الملكة حاتشبسوت” من على مسرح الأحداث بدأت عملية مطاردة ذكرى كل واحد من هؤلاء الثلاثة، وأغلب الانطباعات التي كانت لعلماء المصريات حتى سنوات قليلة أنه لا يوجد أية معلومة عن موت الملكة، هل كانت وفاة طبيعية أم اغتيال أثناء ثورة جرت في القصر؟، كنوع من الانتقام قام به أعضاء الكهنوت والبلاط من الذين كانوا من أنصار”تحوتمس الثالث”.

مومياء حاتشبسوت..

يرجح بعض الباحثين أن مومياء “حاتشبسوت” قد أخرجت من المقبرة في زمن “تحوتمس الثالث” لتدميرها أو إيداعها في مكان مجهول، وفي 2003   قام الباحثان “تيريسا بيدلمان فرانثيسكوخ ومارتين فالنتين” بطرح فرضية أن إحدى المومياوات التي وجدت من زمن بعيد بدون لفائف ومتروكة على أرض إحدى المقابر بجوار مومياء لمرضعة “حاتشبسوت”، وشكت إحدى الباحثات في الماضي أنها تعود ل”حاتشبسوت”، لكن لم يتم تأكيد ذلك، لكن الباحثان أكدا أنها مومياء “حاتشبسوت”، وقاما بنشر كتاب في 2004  بعنوان “سنموت الرجل الذي ربما كان ملكا”  قالا في هذا الكتاب: “أن وفيما يتعلق بحاتشبسوت فإنه إذا ما أمكن الربط بينها وبين المومياء المجهولة الاسم التي عثر عليها في الأثر رقم كذا، بناء على الطرح الذي قدمته اليزابيث توماس، لتمكنا من التوصل إلى حل كامل للغز القائم، فقد أدرك كهنة آمون أن المكان الملائم للحفاظ على مومياء الملكة من الدمار هو وضعها في المقبرة التي دفنت فيها مرضعتها السيدة “سات رع”، وعندما تم اكتشاف المقبرة 1903 كانت هناك مومياوان واحدة جوار الأخرى، ونقلت مومياء “سات رع” إلى المتحف المصري، إما المومياء المجهولة فقد تركت في المكان الذي وجدت فيه خلال الألفين وأربعمائة عام الأخيرة”. وفي 2005 بدأ الباحثان المذكوران  في طرح الموضوع من جديد مع مجموعة من الزملاء المصريين، وتم نقل المومياء إلى المتحف المصري في 2006 .

وبناء على هذه النتائج الجديدة يمكن استخلاص أن “حاتشبسوت” لم تمت بطريقة عنيفة، بل كانت أسباب الوفاة طبيعية، ربما التهابا في الفم، رغم أنها يبدو أنها كانت تعاني من مرض سرطاني، ويتوافق العمر المقدر للمومياء مع كافة البيانات التاريخية المتعلقة ب “حاتشبسوت” التي توفيت وهي في الخمسين من عمرها.

كما يرجح الباحثان  أن التدمير لذكرى “حاتشبسوت” بدأ خلال فترة تتراوح ما بين 8 و20 عاما على وفاتها، وأول دليل للتدمير يتمثل في تدمير تماثيل الملكة في الدير البحري، ولابد أن هذا التدمير استغرق سنوات طويلة.

وفي النهاية تكمن ميزة “حاتشبسوت” في أنها ملكت الجسارة في تغيير في مجتمع يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، كان الرجل فيه يرسو على التقاليد التي استقرت منذ أزمنة ما قبل التاريخ الموثق للكائن البشري، إنها كانت مكافحة ضد خضوع المرأة على مدار قرون عديدة قبل أن يفكر أحد ولو من بعيد في أن هذا الكفاح ممكن وضروري، وكل شيء يشير إلى أن “حاتشبسوت” وضعت مشروع الإصلاح الذي لا يتمثل فقط في سلالة ملكية نسائية، بل وضعت لغزا لاهوتيا جديدا يجعل من نسلها الأنثوي المباشر كائنات إلهية دما وسلالة، أرادت أن تكون بداية نظام جديد للملكية حيث تكون الوريثات هن “الزوجة الملكية” و”يد الإله” لتصل بعد ذلك إلى سدة الحكم في ظل ظروف تحكمها المساواة مع العاهل الذكر الذي عليه الدور.

المصدر: كتاب” حاتشبسوت من ملكة إلى فرعون مصر” تأليف “تيريسا بيدلمان فرانثيسكوخ” و”مارتين فالنتين”، ترجمة على إبراهيم المنوفي، إصدار المجلس القومي للترجمة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة