رحم الله معلمينا ومدرسينا الاوائل..فقد كانوا اعلاما شامخة وشموعا مضيئة وافكارا متوهجة.. ولا بد من ان نذكر فضائلهم بالعرفان!!
في عام 1971 كنت في الصف الرابع العام..ولدينا درس (الانشاء) أحد مواد درس اللغة العربية..وكان الاستاذ (سهام الكبيسي) ، طيب الله ذكره ان كان حيا او ميتا ، من أمهر مدرسينا الأكفاء أنذاك، بالرغم من ان كلهم أعلام يشار لهم بالبنان!!
في احد المرات كلفنا الاستاذ سهام الكبيسي بكتابة موضوع انشائي كل حسب اختياره..وفي اليوم التالي..وبينما دخل الاستاذ الكبيسي الى الصف واذا به يروح ويغدو، ثم سأل : من إسمه حامد شهاب؟ فاختلج صدري من طبيعة السؤال واحسست وكأنني قد أرتكبت ذنبا لاسمح الله او حدث مالا يسر..!!
ونهضت ..قال الكبيسي ..أريد أن تكونوا مثل ( أمانة) هذا الطالب في كتابة الإنشاء..!!
ثم شرح لهم الحكاية.. ان الطالب حامد شهاب أشار في نهاية الانشاء ان هذا الموضوع مقتبس من قصص الكاتب المصري الكبير (مصطفى لطفي المنفلوطي) رحمه الله ، ومن كتابه (العبرات والنظرات) كما أظن ، أي انني لخصت أحد قصصه بإسلوبي الخاص وعرضتها كموضوع انشائي ..عندها أدركت ان عملي كان شيئا حسنا يستحق إشادة أستاذي..وحمدت الله لأني لم ارتكب جرما ، بل أخلصت الى (الأمانة العلمية) وما زلنا في اول مرحلة من الدراسة الاعدادية!!
وفي أخرى كلفنا الاستاذ سهام الكبيسي أن نكتب موضوعا انشائيا عن ( التسوية السلمية) لقضية فلسطين أنذاك وعلاقتها بموضوع السلام..وما ان أطلع الاستاذ على ورقة الانشاء التي كتبتها بعد ان صلحها حتى وجدت التعليق التالي: ( هذا ليس موضوعا انشائيا بل مقالا صحفيا ) ، وكنت قد ظننت ان الموضوع فيه ( شائبة ) ، فلم اعرف كيف يكتب المقال، بل لم اقرأ صحيفة في حياتي بعد ، فالصحف لاتصلنا اصلا في الرمادي في السبعينات ونحن من منطقة ريفية بعيدة نوعا ما عن مركز المحافظة، لكنني أسمع الراديو ونشرات الاخبار وتعليقاتها كثيرا، اذ لم يكن سوى الراديو وسيلة الاعلام الوحيدة انذاك..لكنني وبعد التمعن بما أشره الاستاذ بان ما كتبته (مقالا صحفيا) وليس (موضوعا انشائيا) ربما أفرحني في وقتها كثيرا وشعرت بالسعادة بين زملائي!!
وما ان انهيت مرحلة الاعدادية حتى وجدت نفسي في قسم الاعلام بكلية الاداب عام 1974 وفي اختصاص الصحافة والعلاقات العامة بعد ان كانت رغبتي في اللغة الانكليزية كوني كنت من المتفوقين فيها..ومنذ ذلك الوقت اخترت الصحافة (مهنة ) لي ، وما زلت أمارس تلك المهنة ، دون انقطاع، وأعد اليوم الذي لا اكتب فيه مقالا وكأنه ( ما ينحسبش من عمري ) كما تقول الراحلة أم كلثوم!!
والكاتب الفعلي يدرك انه مثل السمكة في الماء ، ما ان تخرج منه حتى تموت..والكاتب ما ان ينقطع عن الكتابة حتى ينتهي..ويتحول الى انسان عادي، ليس بمقدوره ان يكتب ربما سطرا واحدا..ونحمد الله لأن ( الأساس الاولي ) لتربيتنا وتعليمنا في مدارس الاشعاع الفكري والريادة العلمية في الستينات والسبعينات هي من فجرت فينا كل مكامن الابداع وأبقت سارية الكتابة ترفرف خفاقة ، وبلا توقف!!
شكرا للاقدار.. لأنها وضعتنا في تلك المنازل التي نعتز بها ..كما يعتز آخرون من زملائي وهم كثيرون..أن تلك الايام والسنوات التي قضيناها كانت أجمل أيام ألعمر وهي من اوصلتنا الى تلك المكانة ..عسى ان نوفق لخدمة وطننا وأمتنا وشعبنا ونبقى اوفياء للمثل وللقيم العليا التي تربينا عليها..ونحمد الله على كل حال ا!!