18 ديسمبر، 2024 11:54 م

ثورة الجياع تندد بالفساد والفقر

ثورة الجياع تندد بالفساد والفقر

قال كارل ماركس: «الفقر لا يصنع ثورة. إنما وعي الفقير هو الذي يصنع الثورة، والطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً، وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً- قرابة أربعة عقود والشعب الإيراني يعاني الفقر والجوع والبطالة، ويعاني القمع وإرهاب السلطة، ويعاني الفساد المتفشي في أجهزة الحكم والأمن وفي قيادات الجيش، ويأخذه حكم الملالي من أزمات داخل الدولة وحروب مع جيرانها لسنوات طويلة، إلى أزمات وحروب في دول أخرى – و النظام الإيراني ينفق المليارات على ميليشيات وجماعات مسلحة تعيث خراباً ودماراً وقتلاً ونهباً، في اليمن وسوريا ولبنان وغيرها، وانتظر الشعب الإيراني الفرج بعد الاتفاق النووي الدولي ورفع العقوبات، لكنه فوجئ بالمزيد من الأزمات-
حين قامت ثورة الخميني في 1979 كانت نسبة الشباب في إيران نحو 55 في المئة، ويومذاك اعتمدت ‘ثورة الكاسيت’ وهي التسمية التي أطلقت على حركة الشاه المعمم الجديد … واليوم تبلغ نسبة الشباب نحو 63 في المئة من الشعب الذي صبر 39 عاما على حكم طبقة لا تزال تعيش في كهوف القرون الوسطى منفصلة عن الواقع العالمي- الا ان ما يجري في إيران اليوم ليس فورة، أو انتفاضة يمكن أن تهدأ بوعود، لأن الأسباب الدافعة اليها أعمق من تلك التي أدت للثورة الخضراء في عام 2009 … إنما هي ثورة جوع، صرخة 40 في المئة من الإيرانيين العاطلين عن العمل، والمحتجين على الغلاء وتفرد طبقة قليلة العدد بثروات البلاد، إضافة إلى مليارات تهدر في الخارج على مشروع تصدير الثورة
ورصد مؤشر الشفافية العالمي أن إيران ضمن الأعلى فساداً في العالم، وديونها تعادل 35 % من الناتج المحلي، وموقعها في سلم مكافحة الفساد في المرتبة 131 من بين 176 دولة، ورغم ذلك يواصل النظام إنفاق المليارات على منظمة تسليح ودعم للإرهاب خارج الحدود والمحصلة انهيار الاقتصاد والتعليم وانتشار البطالة والانتحار والآفات الاجتماعية بين الشباب الإيراني، حتى فاض به لكيل وخرج يصرخ من الألم
وإذا كان الشعب الإيراني وقع ضحية أحلام الشاه في جعل بلاده إمبراطورية صناعية، فإنه وقع في عهد حكم الملالي ضحية أحلام توسعية استُنزفت فيها ثروته بين دعم للجماعات المسلحة مثل “حزب الله” في لبنان و الحوثي في اليمن وجماعات في العراق وسورية، إضافة إلى حملات تغيير عقائد دينية في افريقيا، وعمليات في أميركا اللاتينية وتدخلات في البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول، وتصنيع صواريخ عابرة للقارات، وبرنامج نووي عسكري لا يزال حتى اليوم يثير علامات الاستفهام رغم الاتفاق مع مجموعة الست الكبرى فيما وصلت نسبة الإيرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 56 في المئة- نتيجة لكل هذا يمكن القول ما أشبه اليوم بالبارحة، لأن الشعب الذي لم يطق صبرا على أحلام الشاه لسنوات قليلة كان يمكن لو تحققت أن تجعله من أثرى شعوب العالم، منح نظام الملالي أربعة عقود من الفرص فيما يرى يوميا ثروته تهدر أمام عينيه وهو يزداد جوعا وفقرا حتى انفجر غضبا في وجه طغمة أمعنت في الفساد إلى حد الكفر، كما ردد متظاهرون في طهران وغيرها من المعروف لدى الإيرانيين أن من يسيطر على ميدان “ازادي” في طهران يخضع “البازار” القوة الاقتصادية الأولى في البلاد لشروطه، واليوم حين تثور نحو 30 مدينة في مختلف أنحاء إيران، ومن جميع العرقيات والمكونات الطائفية والدينية، ويحتل المتظاهرون لميدان “ازادي”الشهير في طهران يخضع “البازار” القوة الاقتصادية الأولى في البلاد لشروطه، فإن هذا يعني أن حبال المشانق التي كانت تعلق على الرافعات في الشوارع الإيرانية لترهيب الشعب باتت أكثر قربا من أعناق قادة النظام، فالملايين التي خرجت طلبا للقمة العيش لن ترهبها جبروت الحرس الثوري-الشباب الإيراني اليوم يختلف عما كان عليه قبل أربعة عقود، فهو أكثر انفتاحا على العالم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والإعلام، ولن يقبل أن يبقى يتضور جوعا بينما يتمتع بأمواله سفاحون وقتلة وإرهابيون جندهم النظام في الخارج
المظاهرات التي انطلقت قبل اسابيع معدودة هي غير مسبوقة ليس فقط بسبب اتساعها بل بسبب طبيعتها؛ انها عفوية وشعبية في جوهرها خلافاً للعام 2009 ، ومنتشرة في طول البلاد وعرضها وفي مختلف الثقافات ومن دون مركز او قيادة. وهذا ما قد يضعفها، لكنه يحميها أيضاً من القمع في رأي البعض – هي انتفاضة ضد الجوع والفقر والبطالة-عكس انتفاضة العام 2009 التي كانت سياسية وحصلت بين جناحي الحكم. وكان ابطالها برجوازية المدن وطلابها وخصوصا طهران. لكن التحرك انبثق هذه المرة من المدن الصغيرة وقرى الريف وفقرائه؛ أي قاعدة النظام الاجتماعية الاساسية من الناس العاديين. طابع هذه الانتفاضة اجتماعي وليس ايديولوجياً. فاز روحاني بالانتخابات بناء على وعد تحسين الوضع الاقتصادي؛ لكنه تسبب بشعور هائل بالإحباط والغضب لدى الجماهيرلأنهم انتظروا انتعاش الاقتصاد بعد الاتفاق النووي وتحسين ظروف معيشتهم..ناهيك عن انه خيّب أحلام الجيل الإيراني الشاب الذي لا يحمل مظالم اقتصادية فقط ولكنه يشكو من غياب الحرية السياسية والاجتماعية
ويكرر النظام الايراني سلوك الانظمة العربية، فيتهم المتظاهرين بالفوضى والعمالة والعصيان والخروج عن طاعة الولي الفقيه – تحمّل المراجع الايرانية القوى الأجنبية مسؤولية التظاهرات بدلاً من الاعتراف بوجود قاعدة احتجاج مركزها إيران نفسها. ويبدو ان ما يحصل الآن هو نتيجة الحسابات الخاطئة لتناتش السلطة بين جناحي النظام؛ فبحسب النيويورك تايمز أن المحفز الأول للغضب الشعبي، كان تسريب الرئيس روحاني الشهر الماضي الميزانية الحكومية المقترحة. ولأول مرة، تعرض أجزاء سرية من الموازنة، بما في ذلك تفاصيل عن المعاهد الدينية. اكتشف الايرانيون ان ملايين الدولارات تذهب لتنظيمات الخط المتشدد والجيش والحرس الثوري ولمؤسسات رجال الدين التي تزيد ثروات الملالي. بينما اقترحت الميزانية إنهاء الإعانات النقدية لملايين المواطنين، وزيادة أسعار الوقود وخصخصة المدارس الحكومية. هذا في حين تبلغ نسبة البطالة بين الشباب، الذين يمثلون نصف عدد السكان، حوالى 40% بحسب التقديرات.
وبلغة الوعيد والتهديد، حذر الحرس الثورى الإيرانى المتظاهرين المناهضين للحكومة من أنهم سيواجهون «قبضة حديدية»إذا استمرت الاضطرابات الحالية -قال القائد العام للجيش الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي إن إخماد إيران ما سماها الفتنة في البلاد يعتبر هزيمة أخرى لنظام الهيمنة -فحتى لو خبت المظاهرات في نهاية المطاف أو قمعت بالقوة، فإنها ترفع إشارة تحذير بارزة أمام النظام. يقول جزء من الغاضبين انهم لا يحتملون بقاء رجال الدين في السلطة بعد الآن حتى ولو كان مصيرهم كالعراق وسوريا؛ لكن التجار وسكان طهران يتخوفون من ذلك ولا يرغبون بخراب البلد ويقبلون مصيرهم مع هذا النظام.- في كل الاحوال انه حول جديد في حياة ايران. وهذا ما أكدته المحامية الإيرانية شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، أن الاحتجاجات المناهضة للنظام في إيران ليست سوى “بداية حركة كبيرة” قد يفوق مداها احتجاجات