16 نوفمبر، 2024 6:32 م
Search
Close this search box.

دور الخيال السياسي في استشراف المستقبل والتخطيط له

دور الخيال السياسي في استشراف المستقبل والتخطيط له

عرض/ عبدالمنعم علي محمد
يشًدد الكاتب على ضرورة توظيف الخيال السياسي في خطط المؤسسات والهيئات المنوط بها رسم ملامح السياسات العامة في الدولة، بالإضافة إلى برامج وخطط مؤسسات وقوى المجتمع المدني.
يعتبر كتاب “الخيال السياسي”، الصادر في تشرين الأول أكتوبر 2017 عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أحد أبرز الكتب في علم الاجتماع السياسي الذي يمزج بين الخيال الذي يعتبر الطاقة السحرية التي تقود الإنسان إلى التمرد على واقعه وبين علم السياسة. فقد ثبت خطأ التصورات التي ردت العالم إلى نظام آلي ومادي لا يكون للخيال فيه إلا دور ضئيل. ويبيّن الكاتب أن الخيال هو الذي يجعل الإنسان يسمو فوق واقعه التعيس، فكل القفزات العلمية والثورات المختلفة وراءها الخيال، وأن كل كسب جديد في المعرفة العلمية لا يحصل إلا بخرق قوانين الأنساق العلمية القائمة.

وربط الكاتب بين “الربيع العربي” وبين الخيال السياسي حيث أوضح أن الربيع هو نتاج قصور كبير في المخيلة السياسية العربية في ظل عجز العقلية العربية عن تنمية الخيال السياسي لديها، وبالتالي تعتبر عائقاً أمام التحديات الداخلية والخارجية.

يتألف الكتاب من مقدمة وستة فصول وخلاصة وتوصيات.

تناول الكاتب في الفصل الأول مفهوم الخيال السياسي. فيوضح في البداية أن الخيال السياسي يعبّر عن حالة العقل في أقصى درجة للمرونة اللازمة لاختراق المجهول وكشف الغامض وإتمام الناقص ونقد السائد وإبداع الجديد. وأوضح أن الخيال عبارة عن “مجموعة من العمليات الحسية والإدراكية والمعرفية وما وراء المعرفية والانفعالية النشطة التي تكون الصور الداخلية وتحولها تركبها وتنظمها في أشكال جديدة يجرى تجسيدها بعد ذلك في أعمال وتشكيلات خارجية، مفرقاً بذلك بين التنبؤ العلمي والتنبؤ الغيبي، حيث أن الأول لا ينبع من فراغ بل من أحكام الكون وسنن الحياة وسلوكيات الإنسانية، بينما الثاني يأخذ أساليب غير علمية مثل العرافة والتنجيم.

وفرّق الكاتب بين المفاهيم المتداخلة مع الخيال حيث أكد على أن الخيال السياسي لا يمثل تخميناً فهذا مجرد تهيؤات لا تستند إلى أسس ومؤشرات علمية أو تقديرات إحصائية وموضوعية. ويختلف الخيال السياسي عن الوهم السياسي حيث أن الوهم تصورات وأفكار وخرافات يعتقد المرء بصحتها دون أي أساس واقعي ومنطقي وعقلي وعلمي.

وعرض الكاتب العديد من الأدبيات السابقة التي تناولت مفهوم الخيال السياسي، وتوصل في النهاية إلى أن الخيال السياسي العلمي ليس مجرد تغيير في الأدوات والأساليب السياسية، ولكنها عبارة عن “رؤية ذات بعد عميق تستشرف المستقبل أو تعيد قراءة الواقع من منطلقات ومقاربات مختلفة جوهرياً عن السائد والنمطي والمتكرر”.

ولفت الكاتب إلى أن الأهمية الخاصة بالخيال السياسي في المجتمعات العربية تعتبر عاملاً هاماً تساعد على الفهم وتصحيح الكثير من الأمور السائدة، بل ويساعد على تحديد بدائل لحل المشكلات المختلفة التي تواجهها المجتمعات. كما أنه يعتبر أداة لفهم التغييرات التي تقع في الأوساط الشخصية المباشرة من خلال النظر في البناء الاجتماعي الأشمل، فالخيال السياسي هام في دفع التاريخ في خط مستقيم للأمام.

وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان “السياسة كمجال للخيال .. بين الإيهام والإبهام” عرض الكاتب فكرته حيث أوضح أن هناك من ينظر إلى الخيال السياسي على أنه مسألة ثانوية وتزينية ومصطنعة وهناك من يرى أن هناك علاقة قوية وطبيعية بين السياسة والخيال.

وسلط الكاتب الضوء على حجج الرافضين الذين يرون أن السياسة بحاجه إلى إمعان ورسوخ ودراسة المعلومات المختلفة ويعتبرون الخيال بمثابة خانة الينبغيات في السياسة وليست محققة ويستعيضون بها عبر الدراسات المستقبلية. ورد الكاتب على تلك الحجج قائلاً إن “الخيال بوسعه أن يسهم في تطور علم السياسة ذاته فلا يكون واقفاً عند ينبغيات ولكن يمكن تحقيقه في الواقع”. وفي تدليله على أن الخيال السياسي مستمر ودائم، أشار الكاتب إلى أنه لو انتفضت الشعوب في الشوارع، فإن الخيال لا يموت ولا ينتهي بل يستيقظ في طور جديد.

وبيٌن الكاتب أن الخيال السياسي له تأثير واضح في تحديد حركة الأحداث بشكل عام حيث أن محاولات تصحيح الأوضاع غير المرضية تنبع من الخيال أكثر من كونها صادرة من قلب التحليل الطبيعي لسير الأحوال.

وفي الفصل الثالث الذي جاء بعنوان “منابع الخيال السياسي”؛ أشار الكاتب إلى أن الخيال كي لا يصبح وهماً، يجب أن يقوم على أسس علمية سليمة والفهم الدقيق والمتكامل لكل ما يدور في الحاضر، وعلى توظيف كل العناصر المعرفية الممكنة واستقراء التاريخ والإحاطية التي تعتمد على الدراسات عبر النوعية. وضرب الكاتب مثلاً من التاريخ وهي فكرة فيليب المقدوني نحو إطلاق مشروع جسور يسعى إلى هدم الإمبراطورية الفارسيةـ وكان وقتها خياله واسعاً ولكنه استطاع أن يحقق ذلك حيث كوّن قوة عسكرية ونظّم جهازاً إدارياً كفؤاً وحقق ما أراد. وبالتالي يريد الكاتب أن يوصل فكرة أن الخيال والأفكار لعبت دوراً عميقاً في بناء مستقبل الأمم.

وأشار الكاتب إلى أن الخيال يُكتسب عبر المزيج من الأعمال المتمثلة في القراءة الواعية لسير الزعماء التاريخيين والتواصل مع الجماهير لمعرفة أقصر الطرق إلى عقولهم وقلوبهم وما يفكرون فيه، والاستعمال الواعي لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة.

وسلط الكاتب الضوء على منابع الخيال السياسي الأسياسية ومنها استقراء التاريخ؛ والوعي بالمستقبل الذي يمثل النظر في الاتجاه المضاد للتاريخ والماضي؛ والاعتماد على الدراسات عبر النوعية من حيث فهم الأفعال في سياق نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي؛ علاوة على الاعتماد على روح الفريق حيث أن العلم أصبح طابعاً جماعياً ولم يعد فردياً بحتاً؛ والاعتماد على الخيال المنطقي الخلاق والتفكير الجانبي والتباعدي، والذي يتمقل في الانطلاق الذهني في المستقبل ومحاولة استكشاف الأشكال المتوقعه للعالم ولسكانه؛ وأخيراً الاعتماد على نظرية المباريات وتوظيف الخيال السياسي التي تمثل تحليلاً لتضارب المصالح وتصارع الأهداف من أجل الوصول إلى أفضل خيار ممكن لاتخاذ القرار الرشيد؛ والاعتماد على المحاكاة واستطلاعات الرأي واستعراض التجارب الناجحة ودراستها.

وقد تناول الكاتب في الفصل الرابع ظاهرة الخيال السياسي لمعرفة آليات وسبل تنميته وعرض التحديات والمعوقات التي تحول دون بلوغ الخيال. ونوّه إلى أن تحقيق الخيال السياسي يتطلب تنمية التفكير الإبداعي من خلال منح التفكير شكلاً مرئياً عن طريق رؤية ما لا يراه الآخرون والعمل على والبحث عن توليفات وأطر تفكيرية سلسلة ومبتكرة والنظر إلى الجوانب المتعددة للموقف موضع البحث وكذا إيقاظ روح التعاون.

ووضع الكاتب شروطا لتوظيف الخيال في مجال السياسة بشكل فعال، ومن بينها إبتعاد المتخيليين عن آرائهم الخاصة حول المجتمع بوصفهم أعضاء فيه، والسعي نحو استخدام النظريات وقراءة التاريخ بشكل فاحص حتى تتوفر لديهم الأدلة والبراهين على الظاهرة محل البحث.

وتناول الكاتب منابع الخيال السياسي، والتي تعتمد على استقراء التاريخ، والعمل بروح الفريق، وامتلاك العقل المنطقي، واستعمال الإبداع الأدبي، واللجوء إلى استطلاعات الرأي، واستخدام أدوات مثل نظرية المحاكاة ونظرية المباريات والاستفادة من الدراسات النوعية.

وتعرض الكاتب إلى معوقات ترسيخ وتعزيز الخيال السياسي والتي حصرها في الاستسلام للواقع وتجنب محاولات التغيير، بالإضافة إلى اعتماد صُناع القرار على أشخاص أقل كفاءةـ لكنهم يتمتعون بدرجة عالية من الطاعة ويقدمون فروض الولاء, وقد وضع الكاتب البيروقراطية ضمن التهديدات التي تواجة تنمية الخيال السياسي، ولم يغفل نقص المعلومات وعدم الإلمام بالتاريخ كأحد أدوات استقراء المستقبل بالإضافة إلى الاستسلام للموروث والتفكير بالتمني وهيمنة الأيديولوجيا.

في الفصل الخامس تناول الكاتب مجالات توظيف واستخدام الخيال السياسي والتي حصرها في عدد من القضايا المحلية والدولية، ومن بينها محاولة عبور الأزمات السياسية، ودعم طرق وأطر التخطيط الاستراتيجي المنضبط، وفن التعامل مع الحروب وإدارته والخروج منها بأكبر المكاسب وأقل الخسائر، ومواجهة الفساد، والبحث عن الكمال الاجتماعي والمثل العليا، والعمل على تعزيز قيم التماسك الاجتماعي والسياسي، وصناعة دور للدولة في محيطها الإقليمي والدولي، وكذلك مكافحة الإرهاب والتغلب عليه من خلال مساهمة الخيال السياسي في التعرف على طرق تفكير الإرهابيين والسعي لوضع تصورات لمواجهتهم لما يعزز القدرة الإستباقية لمنع حدوث العمل الإرهابي.

وأكد الكاتب أن إعمال الخيال السياسي يساهم في صياغة مؤشرات قياس العمليات الإرهابية ومن ثم العمل على تجنبها والتعامل معها. ومن بين هذة المؤشرات: المدى الزمني بين العملية والأخرى، وكذلك شدة العملية وما نجم عنها من تداعيات، بالإضافة إلى نمط تنفيذ العملية، ومكان حدوثها ونطاقها الجغرافي، ومدى تحقيقها للأهداف، والتعرف على نوعية الجماعات الإرهابية التي قد تظهر على الساحة للوقوف على الإجراءات الوقائية التي قد تتخذها الدولة في سبيل تجفيف منابع الإرهاب، وقياس ردود الفعل الشعبية، وكذلك موقف الجماعة الدولية من العمليات الإرهابية من أجل وضع رؤية تكاملية لمواجهة الإرهاب وتطويقه.

وعرض الكاتب في الفصل السادس لعدد من نماذج الخيال السياسي على المستويين النظري والتطبيقي وبعض التجارب الفردية والجماعية وكذلك الخاصة والرسمية، والتي سعت إلى إطلاق العنان للخيال السياسي لمحاولة الخروج من الواقع والتمرد عليه أملاً في استشراف المستقبل.

وخلص الكاتب إلى أن النظرة العلمية للخيال السياسي تتطلب منا أن نراعي ما يلي:

أن الخيال السياسي ليس ظاهرة حتمية الحدوث حيث لا يمكن للمرء أن يتخيل كل ما سيحدث. ففي أغلب الأوقات قد لا تتوافر المعلومات ويتعذر الوصول إليها وفي حالة الوصول إليها قد نقع في خطأ ما يؤدي إلى استشراف منقوص أو غير صحيح.
لا يمكن الذاهب إلى فرضية أن الخيال السياسي مطلق، فالأمور التي نفكر فيها نسبية وكذلك الأدوات التي نستعملها.
يجب الإبمان بأن النتائج التي قد نصل اليها من عملية الخيال السياسي هي نتائج مؤقتة حتى ولو كانت في غاية الدقة والإحكام.
واختتم الكاتب بالدعوة إلى توسيع دراسة الخيال السياسي في تقديرات الموقف التي يعدها الساسة ومتخذو القرارات وكبار موظفي الجهاز الإداري ، وكذلك في توصيات الأطروحات الجامعية والكتب العلمية التي تتصدى لدراسة عدد من التحديات والمشكلات، والعمل على إدخال الخيال السياسي في برامج الأحزاب من أجل بناء نظم ديمقراطية حديثة.

وشًدد الكاتب على ضرورة توظيف الخيال السياسي في خطط المؤسسات والهيئات المنوط بها رسم ملامح السياسات العامة في الدولة، بالإضافة إلى برامج وخطط مؤسسات وقوى المجتمع المدني. كما نوّه إلى ضرورة تفعيل الخيال السياسي في علاقة الدول العربية بدول الجوار الإقليمي المتفاعلة معها، وكذا التصورات الخاصة بعلاقة الدول العربية مع بعضها البعض ومع العالم الخارجي والقوى العظمى.

وفي نهاية يؤكد الكاتب على أن “الكل يحتاج الى خيال، ولولا هذا لبقي الجميع واقفين في مكانهم من دون أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام”.

وفي المجمل يمكننا القول بأن هذا الكتاب سيمثل إضافة كبيرة للمكتبة العربية وللباحثين وصًناع القرار والمهتمين بالعمل السياسي حيث يفتح المجال أمام القارئ والمتابع والممارس للعمل السياسي لإستخدام الخيال السياسي في تجاوز المحن والعقبات، خصوصاً أن عالمنا العربي ومحيطنا الإقليمي والدولي أصبحا ممزوجين بالتحديات.
المصدر: الميادين

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة