حثت الديانات على الطهارة بشقيها المادية والمعنوية والتعليمات واضحة في ذلك وقد أخذت حيز لا بأس به ومن يستقرأ النصوص والمدونات الدينية يلحظ الأمر بشكل جلي وللطهارة المادية فوائد كثيرة صحية وجمالية فكل ما أستقذره الدين وأمر بتجنبه فيه ضرر صحي لا محال فالحكيم جلت قدرته أعرف بمصالح عباده ناهيك عن وضوح ذلك في الواقع .
والطهارة المعنوية لا تقل أهمية أن لم تكن أهم من الأولى فطهارة الباطن أمر ضروري في الاستقامة وأتصاف الإنسان بالإنسانية الحقيقية الواقعية فاذا طهرت الروح وتزكت سيترجم ذلك في السلوك البشري فالسلوك يتماهى مع النفس التي صدر منها السلوك غالبا فان كانت طاهرة نقية كان السلوك طيبا وأن خبثت وتلوث بالنجاسات المعنوية كالكبر والغرور والحسد والنفاق والجبن كان السلوك خبيثا وضارا . يقول السيد المحقق الصرخي الحسني (دام ظله) في كتابه المنهاج الواضح- كتاب الطهارة- القسم الثالث- المقدمة الأخلاقية صفحة 7 -8 تحت عنوان “علل وعبر” يقول بهذا الصدد .
نتعرض وبشكل إجمالي ومختصر لبعض العبر التي يمكن استفادتها من أحكام النجاسات والمطهرات ، ولا ننسى أننا ذكرنا الهدف الرئيسي من العبادات وهو تكامل الإنسان الجسدي والنفسي والروحي وتوفر الأمان والاستقرار بعد ان تسود حالة المحبة والرحمة والتعاون ولإيثار بين بني البشر ، ولتحقيق ذلك عمد الشارع المقدس وضع الإرشادات والأحكام الشرعية والاجتماعية والأخلاقية بأساليب مختلفة ومتنوعة تغطي جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية .
وفي كتاب الطهارة لم يقتصر الشارع المقدس على الطهارة الظاهرية بل تعدى إلى الطهارة الباطنية النفسية والروحية حيث أرشد المولى إلى تجريد الباطن من النجاسات المعنوية المختلفة ، والى تقديس وتزكية وتطهير الأفكار والأعمال والسلوك وأرشد لهذا وأكد عليه من خلال ألفات الناس إلى بعض العلل والحكم والعبر من الأحكام (فمثلا) يؤكد الشارع على خطورة الأمراض النفسية والروحية وعظم تأثيرها على سلوك الإنسان والمجتمع من خلال الإشارة والإرشاد إلى أن سوء الخلق ونتن رائحته وقذراته يخرج الإنسان الأسلام بل من الإنسانية فيكون كالبهيمة وأشد كفرا ونفاقا ، ومن خلال والإرشاد إلى المتنجسات والنجاسات يمكن تطهيرها أو التطهر منها بوسائل مختلفة كالماء والتراب بينما الكافر والمنافق وقلبه ونفسه لا تطهر بالماء والتراب بل بالأسلام والأيمان ومكارم الأخلاق ، وطلب المولى من العبد أن يكون كالماء الصافي في عبادته وأفعاله وسلوكه وغسل الظاهر والباطن شامل المنفعة للفرد والمجتمع ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) .
{ … قال الله عز وجل …. (( وجعلنا من الماء كل شيء حي)) كما أحيا الله بالماء كل شيء من نعيم الدنيا ، كذلك برحمته وفضله جعل الماء حياة القلوب …. } .
وقال (عليه السلام) {ولتكن صفوتك مع الله تعالى في جميع طاعاتك كصفوة الماء، حيث انزله من السماء ، وسماه طهورا ، ….. وطهر قلبك للتقوى واليقين عند طهارة الجوارك بالماء } .
وقال (عليه السلام) {…. وتفكر في صفاء الماء ورقته وطهوره وبركته، ولطيف امتزاجه بكل شئ، واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، …… ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء يؤدي إلى كل شئ حقه، ولا يتغير عن معناه، معتبرا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) {مثل المؤمن الخالص كمثل الماء} .
وإليك بعض العلل أو الحكم والعبر المستفادة من أحكام هذا القسم من كتاب الطهارة :
1- البول والغائط : الحكم في نجاسة البول والغائط وفيه
أولا: ألفات وإرشاد إلى العفة وعدم الشره فان مصير الإفراط بالطعام والشراب والإفراط بالحصول عليه حتى بالطرق المحرمة مصيره إلى هذه النجاسة من البول والغائط ، وقد أشار الى مساوئ الشره والإفراط في شهوات المأكل والمشرب ما ورد :
(أ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) : {ان البطن إذا شبع طغى} .
(ب) عن الإمام الصادق (عليه السلام) : {أن الله يبغض كثرة الأكل}.
(ج) عن صادق آل محمد (عليه السلام) : { كل داء من التخمة} .
ثانيا: وفيه أيضا أرشاد إلى علاج آفة العجب والتكبر فالذي يحمل مثل هذه النجاسات والذي يجهد نفسه للتخلص منها لأن في بقائها الضرر الصحي الجسدي والنفسي ، لا يوجد مبرر لعجبه وكبره بل عليه ان يكون مؤدبا ومتواضعا ، وقد نهى الشارع المقدس عن العجب واستعظام الإنسان نفسه كما ورد :
(أ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) :{ من دخله العجب هلك} .
(ب) عن الإمام الصادق (عليه السلام) :{ قال إبليس (لعنه الله) لجنوده : إذا استكنت من ابن ادم في ثلاث لم ابلِ ما عمل ، فأنه غير مقبول منه :1- إذا استكثر عمله 2- ونسي ذنبه 3- ودخله العجب} .
2- المني : إنَ الحكم بنجاسة المني :
أولاً: يُرشد إلى علاج العديد من الآفات الأخلاقية منها العجب والتكبر حيث لا يعقل ذلك من إنسان أصله المني النجس فعليه أن يكون متواضعا ، وقد ذكرنا نهي الشارع عن العجب وإليك بعض ما صدر بخصوص الكبر .
(أ) قوله تعالى : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
(ب) قوله تعالى : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا } .
(ج) قوله تعالى : {أليسَ في جهنم مثوىً للمتكبرين} .
(د) عن الصادق عليه السلام) قال : {مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على جماعة فقال: على ما اجتمعتم؟ فقالوا: يا رسول اللّه هذا مجنون يُصرع، فاجتمعنا عليه. فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنه المبتلى. ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمكنبيه، يتمنى على اللّه جنته، وهو يعصيه، الذي لا يُؤمنُ شره، ولا يُرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى } .
(هــ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده زين العابدين (عليهم السلام) {وقع بين سلمان الفارسي ورجل كلام وخصومة . فقال له الرجل : من أنت يا سلمان ؟ !
فقال ( رضي ) : أما أوَلي وأوَلك فنطفة قذرة ! وأما آخري وآخرك فجيفة نتنة ! فإذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين . فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم .} .
ثانيا: يرشد إلى التحلي بالعفة والتخلي عن الشره وذلك بملاحظة أن الإفراط في إتباع الشهوة الجنسية الحيوانية والانقياد لها هو انقياد لتلك المادة النجسة ، وقد تحدثنا سابقا عن الشره وفي هذا المقام نشير الى بعض الموارد الشرعية بخصوص العفة والامتناع والترفع عما لا يحل من شهوات البطن والجنس ، والتحرر من عبودية تلك الشهوات التي تقوده كالبهائم :
(أ) عن النبي الكريم (صلى الله عليه واله) : {أكثر ما تلج به أمتي النار، الأجوفان ، البطن والفرج} .
(ب) عن الإمام الباقر (عليه السلام) : { ما من عبادة أفضل عند الله من عفة بطن وفرج} .
(ج) قال رجل للإمام الباقر (عليه السلام) : اني ضعيف العمل قليل الصلاة قليل الصوم , ولـكـن أرجو أن لا آكـل الا حـلالا, ولا انـكح الا حلالا-: فقال (عليه السلام) له {وأي جهاد أفضل من عفة بطن وفرج} .
انتهى الاقتباس ومخافة الإطالة لم نكمل نقل كل الفقرات التي تحدث عنها المرجع واكتفينا بنقل اثنان فقط من أصل سبعة تحدث عنها ويمكن مراجعة الكتاب للإطلاع على تلك الدرر الأخلاقية والتي من خلالها نعرف كيف نطهر أنفسنا ماديا ومعنويا ليكون سلوكنا طيب ونافع وصافي كصفاء الماء لتحل السعادة ونفيد ونستفيد في دار الدنيا ودار القرار .