ها هو العالم يعيش أعياد رأس السنة، كل بما أوتي من تعبير وطريقة ووجهة نظر، وها هي الأمم تستذكر من عامها المنصرم أجمل الأحداث، وتستطلع أياما مضت عامرة بالإنجازات، زاهرة بالصالحات من الأعمال، متأملة من عامها المقبل أن يكون أبهى وأجمل، وحتما سيكون كذلك، مادامت النيات خالصة، والنفوس نقية تواقة للخير وعمله ونشره، ومادامت العقول خلاقة، تعتمد الخطى المدروسة بعلمية ومهنية كل من موقعه. بهذه المعطيات -مجتمعة- تتقدم الأمم، وبها يحقق القائمون على حكمها وإدارتها لشعوبهم الرفاهية والطمأنينة ودعة العيش.. وعاشوا عيشة سعيدة.
ماتقدم من حديث، يشمل الأمم والبلدان على ظهر المعمورة، إلا رقعة جغرافية تبلغ مساحتها ٤٣٧٬٠٧٢ كم²، مع أنها تتمتع بحضارة عريقة، ولعل اسمها جاء من العراقة، إلا أن أرؤس سنواتها تختلف عن أرؤس سنوات العالمين، الأولين والآخرين، العليين والسفليين، القاضين نحبهم والمنتظرين. إذ أنها خارج نطاق الأفراح، نائية عن الزغاريد والأغاريد، حيث تحيطها الأحزان من كل جهاتها، ويحيقها إطار الأتراح، ويطبق عليها شبح الهموم أيما إطباق. وقطعا، لا يقيد هذا التداعي ضد مجهول، فالمتسبب بهذا كله معلوم.. معلوم.. معلوم ياسادتي.
اليوم، الكل يردد سمفونية الفرح (Happy new year.. Happy new year) مبتهجا بعام جديد إلا العراقيون، فهم يرددون: (أيام المزبن گضن.. تگضن يا أيام اللف). فسمفونية همومهم لاتنقطع، بل هي تصدح بكل أركان البلاد ومفاصلها، حتى تكاد تعلو وتغلب النشيد الوطني -بل هي تعلوه وتغلبه فعلا- ولاتقتصر هذه الحال على حقبة واحدة دون سواها، كما لا ينحصر توجيه أصابع الاتهام في شخص واحد، ولا حكومة واحدة، سواء أكان هذا تعمدا أم سهوا أم تواطؤا أم رعونة أم خيانة!.
لقد انطوى عام 2017 ولم يدع خلفه للعراقيين إلا نزرا يسيرا من أفراحه الصغيرة -لمن حظي بها- أما أتراحه الكبيرة، فقد ترك منها أنهارا من دموع لن تجف، مادامت مقومات الحزن قائمة في أركان البلد على قدم وساق، وما من أمل لاستبدالها بمقومات الفرح. فها هو الستار يسدل على عام 2017 كسابقاته، بتواصل العائلات العراقية المنقوص، حيث شهد غياب كثير من الأحباب والأقارب والأصدقاء، فمنهم المهاجر، ومنهم المهجّر، ومنهم النازح، ومنهم الجريح الراقد في مشفى، ومنهم الغائب عن ساحة العائلة تلبية لنداءات ساحات المعارك، ومنهم المغيّب على أيدي قوى غزت البلاد، ومنهم من يقبع في سجونها ظلما، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. أما من شهدوا أيامه ولياليه، فقد كانوا مشغولين بالحديث عما آلت اليه أوضاع بلدهم، ولم يخرج حديثهم عن أطر محددة اشترك فيها الكبير والصغير، لعل أبرزها؛ داعش، الفساد، استفتاء إقليم كردستان، المؤامرة على كركوك، خصخصة الكهرباء، الموازنة. وهذه الأخيرة على وجه الخصوص باتت عيبا كبيرا على أطراف العملية السياسية، وتأخيرها وصمة عار ستبقى تلاحق دورات البرلمان على تناوبها، ولاسيما الدورة الحالية، مادام أمر إقرارها مركونا على رفوف التسويف والمماطلة، إذ مامن بيت او عائلة او فرد عراقي إلا وكان تأثير تأخيرها عليه مباشرا وقاصما للظهر، ولاسيما المواطن الذي يعيش يومه من قوت يومه. وقد باتت الإجابة عن مصير الموازنة في غياهب جب السياسيين ورؤساء الكتل والنواب، وهم يثبتون يوما بعد يوم أن الموازنة لاتعنيهم شيئا بقدر ماتعنيهم مآربهم الخاصة ومنافعهم الفئوية.
وعلى شحة الفرحة وغياب الابتسامة، يطوي العراقيون عامهم، ويشطبونه من تقويم أعمارهم مرغمين، وسيبدأون على مضض مشوار ماراثونهم المعتاد، في عام لن يأتيهم بجديد حتما، باحثين وسط ركام الأحزان عن بسمة هنا أو فرحة هناك، يواسي بعضهم بعضا بعبارتهم الرتيبة التي تلوكها ألسنتهم كل رأس سنة: كل عام وانت بخير.. مشككين بصحتها، متيقنين من خوائها وخلوها، إلا من الأماني والأحلام.