الازدواجية مسالة غير مقرونة بشريحة معينة ,لأنها أعلى درجات النفاق , ولو رأيت مجتمعا يرعى الازدواجية ويشجعها , فاقرأ على ذلك المجتمع السلام ..لذلك رجال الدين وشيوخ العشائر حين يمارسون أعمالا تتنافى مع الشعارات التي يرفعونها , تجعلهم ظاهرين مبرزين فيصبحون محل سخرية وتتدنى قيمتهم اجتماعيا .. وتاريخنا الحديث زاخر ببعض الذين باعوا أصواتهم وموقفهم للطاغية صدام حسين مدحوا الظالم الذي حول البلد الى خراب من اجل ” هدية السيد الريس ” ويتباهون بالصورة المشتركة لسيادته , ويرفعونها في صدر الديوان . وكم سمعنا من بعضهم انه أهداه السيد الرئيس صدام حسين مسدس ..! ولحد الآن لم تمحى صورتهم من عقولنا حين يردحون في القصر الجمهوري . صدام اسمك هز أمريكا , واخو هدله , وعشرات التسميات لرجل جبان أخرجه الأمريكان من حفرة كأنه فأر …
اليوم بعد سقوط صدام ونظامه , عاد بعض الشيوخ الى الواجهة السياسية , وتنوعت الولاءات السياسية لهم وليس لعشائرهم , بقي بعض الشيوخ محافظا على سمعة أهله وشرف موقفه كثير منهم بقي محافظا على أصالة موقفه وتاريخ عشيرته , فكان بمستوى الرجال أصحاب المواقف , وفرض احترامه اجتماعيا ..
من جانب اخر اغلب شيوخ العشائر في المنطقة الغربية بايعوا المجرمين القتلة تنظيم القاعدة وداعش لسبب طائفي بعيدا عن الاسلام والوطنية والإنسانية , فكان لدورهم اثر في تحقيق انتصارات للقاعدة ثم داعش , وهناك شريحة ممن يوالون الأحزاب الطائفية مبررين موقفهم انهم ” يوالون المرجعية ” وتحولت الدواوين التي تسمى ” ديوان وبخت” ان يحمل الشيخ هوية الانتماء للكتلة الفلانية , وصار الشيخ تابعا وليس متبوعا ..لا لقناعة انما رئيس الحزب يسلمهم ظرفا فيه مالا , و تم شراء موقفه من داخل ذلك الظرف ..
وهناك شريحة تدعم المواقف المتلونة بقصائد وهوسات ودبكات يسمونهم ” مهوال ” كما يبدو ان صاحبه يهول المسائل ويبالغ بكلامه بغير الحقيقة .. ورد في مختار الصحاح هول : هَالَهُ الشيء أَفزَعه ومكان مَهِيلٌ أي مكان مَخُوفٌ ,وهَالَهُ أي أفزَعَهُ ,والتَّهْوِيلُ ما هلك من شيء. وضوء القمر .. ولكن حقيقة المهوال كما يلي :
التهويل كان في الجاهلية لكلِّ قومٍ نارٌ وعليها سَدَنَةٌ وخدام خاصة هذه النار للحرب والمعارك ، فإذا وقع بين رجلين خُصُومة جاء المخاصم إلى النار فيحلف عندها، هنا واجب السدنةُ يطرحون فيها ملحاً ليزداد لهيبها وتطاير الشرار منها يُهَوِّلونَ النار لتظهر من خلال الإيحاء انه رجل وبطل , ويتطاير الشرار من مخيلته , انه سيحرق ويقتل أعداءه …. الآن تم استبدال الأسماء , وانتهت فترة تهويل النار وخدامها . أصبح الفنجان والدلة والقهوة , تعادل رسالة إنسانية وأخلاق وقيم الأنبياء ,هكذا توسعت قاعدة النفاق الاجتماعي وأصبح التهويل مقبولا..
غير أن ظاهرة المهاويل تواجه بالنقد من بعض المثقفين وشيوخ العشائر ممن يخاف الله ولا يرضى ان يتحول الشعر المهوالي الى كذب ونفاق , بسبب تجاوز المديح للحدود المعقولة ووصف الأشخاص بصفات لا يملكونها ويقول احد شيوخ العشائر المحترمين ان “هناك مديحا يفوق الواقع وغير منصف،ولا يستحقه إلا الأنبياء والمعصومون .. فالمهوال عادة ما يتواجد في اغلب المحافل العشائرية ويمدح هذا ويرفع من شأن ذاك من اجل المال، وهو ما ينافي الحقيقة لأن من مدحهم قد لا يستحقون الثناء”.
ويفسر احد الكتاب بروز وانتشار المهاويل بالنتاج التراكمي لاستفحال العشائر أو الطبقة العشائرية وما يمارسونه من سلطة على الناس , أعلى من سلطة الدولة وتعاليهم على القانون خلال العقود السابقة والحالية .. اما في حال ضعف السلطة وانعدام تطبيق القانون , أصبحت الفرصة مواتية لهؤلاء ان تمتد أيديهم وسطوتهم للسيطرة على المنافذ الحدودية والموانيْ وشبكات الكهرباء والمعامل الحكومية , ودور الدولة وأراضي الغير , وهذا العمل لا بد ان يباركه المهوال الذي ينتظر ما يدس في جيبه بعد انتهاء الهوسات ..
بينما في حقيقة الأمر “التمجيد والتعظيم يولّد تفاخرا وزهوا لا مبرر حقيقيا لهما بين أبناء القبيلة، ما أنتج عنها من نزاعات دموية غير مبررة , وانتهاك حرمات حرمها الله ان تنتهك , وتقدمت السنن على القران وسنة نبينا محمد {ص} وعلى أقوال المعصومين , وأصبح البعض يستهزيْ بكلام المرجعية .. أما من يتكلم بحرف من كتاب الله عند بعض الشيوخ يظهر الامتعاض منه وعدم الرضا , مما يوحي ان كلامه يجب ان يتبع دون كلام الله .. هذا التصور في عقلية البعض , أدى الى تشدد الصراعات بين أبناء المدينة الواحدة”.والقرية المجاورة , وتقطعت الطرقات وأحرقت الدور واسيارات , وقتل الناس بدون ذنب الا لان الله تعالى خلقهم من قبيلة اختلفت مع قبيلة التي تنازع أشخاصا من قبيلته ..! وهناك من تسقط عليهم النيران فوق رؤوسهم بسبب صراع او تشييع جنازة , او فوز الفريق العراقي ..
هذه حال المجتمع العراقي الان , الجميع يعرف الخلل , سياسيا ودينيا واجتماعيا ووظيفيا وعشائريا , ولكن لا احد يتقدم نحو الإصلاح , رضينا بالذل والخوف ..هذا يذكرني بزيد بن أرقم لما رأى باطل ابن زياد يضرب ثغر الإمام الحسين {ع} نهض وهو يقول أيها الناس انتم العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة والله ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم فبعدا لمن رضي بالذل والعار.. هذا رجل اعمى ولكن له موقف , في لحظة يجلس كثير من الذكور الى جانبه مفتولي العضلات . ولكن شتان ما بين موقفه وموقفهم ….
فرغم الانتقادات ومعرفة المهوال والمستمعين ان كلامهم غير دقيق , وان المهوال يؤدي قصيدة من اجل المادة والطمع ..طوّر المهاويل فن الأهزوجة الشعبية من خلال التنوع بالإلقاء والاعتماد على التناوب، فترى ثلاثة منهم يتغنون ويتبادلون الأهازيج ويتلاعبون بالمقامات في المحافل والمناسبات الكبيرة، وهي أساليب لم تكن سائدة سابقا، بينما وجد بعض الشعراء ضالتهم بكتابة قصائد المناسبات وإطلاقها على ألسنة المهاويل كسبا للشهرة والمال.
هناك قصة عن المخابرات البريطانية في العراق بعد الاحتلال الأول عام 1917 : كتبت المس بيل دراسات ميدانية عن رؤساء العشائر العراقية علميا وعمليا. فكانت تزورهم وتتعشى معهم في مضائفهم وأحصت عنهم كل صغيرة وكبيرة بما فيها عدد الزوجات والخيول والمواشي، التي يمتلكها كل واحد، إضافة الى قيمهم وعاداتهم. وكان هذا العقل ألاستخباراتي الذي امتاز بالذكاء يرفع تقاريره إلى الحكومة البريطانية، فتوافق عليها مع الامتنان. والإنكليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر ميدان السياسة. ففي التقرير الذي رفعته المس بيل إلى لندن عام 1923، أوضحت أن أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر،, لان القواعد السياسية لا تتحرك نحو العنف الا بدعم من شيوخ العشائر لو تبين هناك مصلحة شخصية .. لذا أشركوهم في المجالس النيابية المتعاقبة بعدد زاد على ثلث أعضاء البرلمان ، فصاروا أصحاب ثراء وجاه ووظائف كبيرة وسلطة يستعان بها في إدارة البلاد وضرب المعارضة السياسية.
مع أن العشائر العراقية قامت بثورات وتمردات ضد سلطات الحكم العثماني، إلا أن أبرز دور لها هو اشتراكها في ثورة العشرين، حين أصدرت المرجعية العليا في النجف الاشرف فتاوى ضد الانكليز , ورفع رجال الدين شعار “إخراج الكافر الأجنبي من البلاد” هي القوات البريطانية التي دخلت العراق عام 1917. هذه الفتوى أسهمت في تعميق الحس الوطني ومناهضة السيطرة الأجنبية، وإضعاف الروح الطائفية التي جعلت بغداد ساحة احتراب طائفي في فترة الحكم العثماني…. والواقع أن عشائر وسط وجنوب العراق تختلف عن عشائر المنطقة الغربية، في أن عشائر الجنوب تتحكم فيها قيم المرجعية الدينية في النجف الاشرف .. فيما تتحكم القيم البدوية والنزعة الاستعلائية في المناطق الغربية ” فكانوا ولا زالوا يطلقون على أبناء الجنوب تسمية شروكي .. غير أن كلا الفريقين تجمعهما “العصبية القبلية” بوصفها الوسيلة التي تلزم الجميع بحماية كيان العشيرة لقاء تأمين حاجة أفرادها إلى الشعور بالأمان فقط حيث يرجع من تقع عليه ظليمة الى العشيرة , وكلما ضعفت الدولة قويت سلطة العشيرة , فيؤدي الى ظهور مشايخ جدد وانشطارات في العشائر الكبيرة ..وهذا تجسد في العراق عام 2003. حين سقطت الدولة وتعطّل القانون، برزت لدى الفرد العراقي الحاجة إلى “الاحتماء” فكانت العشيرة ملاذه الأول. وأصبح أفراد من الحكومة يحتمون تحت ظل العشيرة.
ولكن الحقيقة التي لا يمكن انكارها أن شيوخ العشائر يقفون دائما مع الأقوى. وهناك تقارير بريطانية . ومواقف لمسناها من بعضهم انهم وقفوا مع الحزب والأمن ورجال السلطة بعد انهيار الانتفاضة الشعبانية عام .. 1991 ….وقرأت تقريرا أعدته دائرة الاستخبارات البريطانية عن مشايخ ولاية بغداد سنة 1917، أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنكليز، كانوا يحصلون منهم على الرشاوى، وأن الإنكليز استعملوا أساليب الإغراء وتلويث الضمائر واستطاعوا شراء ذمم بعض شيوخ العشائر.
أما الآن :…. ونحن نعيش دنيا الانفتاح على العالم , وتطورت وسائل الاتصال وتعدد الثقافات , صارت المواقف يحسب لها ألف حساب , والكل يعرف ان الإعلام لا بد ان يبين الحقيقة ولو بعد حين .. الا إننا تفاجئنا ببعض شيوخ العشائر في الوسط والجنوب حين يستقبلون إمعات من رجالات السلطة أياديهم ملوثة بالفساد , يقفون ينتظرون أن يتكرم عليهم المسؤول الفلاني بمصافحتهم .. ومما يؤسف له ان احد شيوخ العشائر يقول لأحد الإمعات ” انا ما اسلم عليك الا ان تسمحلي اهوس لاستقبالك ” هذا الشخص الذي تصاغر الشيخ المحترم أمامه ضربه أبناء منطقته بالقنادر والطابوق , فاي قيمة بقيت للإنسانية وأين الموقف العشائري الرجولي ..
وأخيرا يأتي للبصرة رئيس مجلس النواب , البصرة التي يعاني ما يعاني أهلها من ضيم وضياع أموالهم وبطالة منتشرة بمدينتهم , وفقدان الأمن وعصابات مسلحة تعبث بالبصرة واغتيالات ,وووعدد ما شئت , البصرة التي وقف أشراف شيوخها موقفا رجوليا مشرفا ضد الخصخصة المشرعنة للسرقة , في نفس الوقت يتجمهر عدد من المحسوبين شيوخا في البصرة لاستقبال فاسد وتقبيل يده .. وذاك الشاعر الذي اهتزت شواربه بمدحه بسيل من النفاق ..
صدق امير المؤمنين علي بن ابي طالب {ع} “مــا أكثر الناس لا.. بل ما أقلهم!! الله يعلم أني لم أقل فندا. إني لأفتح عيني -حين أفتحها- علي كثير ولكن.. لا أري أحدا! ..