من التقاليد النادرة في أدبيات السياسة العربية المعاصرة أن يكتب عن موضوع معين ويؤتي بالخطابات لهذه المحاور والخطابات المضادة لها في الوقت نفسه.
فرغم دعوة المثقفين العرب – وخاصة السلفيين منهم والأصوليين الدينيين والقوميين على السواء – إلى الرأي والرأي الآخر ، إلاّ أن حجب الرأي الآخر ظل هو الطريقة المتبعة في عرض وجهات النظر ، بل تمت مصادرة الرأي الآخر نهائياً والطعن فيه . وقد حاول الكاتب/المعد النابلسي في هذا الكتاب أن يأتي بأكبر عدد من المقالات المضادة لخطاب الليبراليين العرب الجدد – الذي يعد نفسه واحداً منهم – والتي وجد فيها أقل نسبة من الشتائم السوقية والعصبية القبلية والتفكير الغريزي ، وأكبر نسبة من العلمية والمعقولية والعقلانية ، بغض النظر عن مخالفتها المباشرة والصريحة لخطاب الليبراليين الجدد . وغرض النابلسي من ذلك أن يتيح للقارئ والدارس في الحاضر والمستقبل أن يطلع على وجهتي نظر علميتين نظيفتين مختلفتين.
فلا تاريخ يقرأ بالأحادية فقط ولانصاً يقرأ بعين واحدة سواء كانت اليمين أو اليسار . ولا من كتاب يحتوي على صفحة واحدة متكررة . ولعل شجاعة الليبراليين الجدد وإيمانهم العميق بالديمقراطية والرأي الآخر ، دفعهم إلى تضمين هذا الكتاب وجهات النظر الأخرى وإن كانت قاسية عليهم . فقسوة الرأي الآخر هي التي تكسب الرأي الأول مزيداً من القوة والصدقية والشفافية وحسن التلقي.
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته ، عبارة عن مجموعة كتابات تعرض لوجهات نظر وأطروحات متعارضة ومتقاطعة لكتاب يتبنون ما أخذ يعرف بـ “الليبرالية العربية الجديدة” ، وآخرون مناهضين لها والذين انتقدوها نقداً جارحاً يصل إلى حد الشتيمة والسباب واللعن في بعض الأحيان.
إن بروز ما أصبح يعرف بتيار الليبراليين الجدد في السنوات الأخيرة والذي ارتبط بشكل واضح بمطالب الإصلاح الشامل المطروحة على العالم العربي خلال السنوات الأخيرة ، برزت حاجة ماسة إلى تحديد دقيق لمصطلح الليبرالية ومشتقاته خصوصاً مع تصاعد الحضور الإعلامي والسياسي للتيار الليبرالي الجديد ودخول بعض رموزه في معارك ضارية مع تيارات وجماعات فكرية وسياسية أخرى متعددة.
فالليبرالية مصطلح لابد أن نقول منذ البداية بأنه لايمت لاللعروبة ولاللإسلام بصلة أبداً ، فهو حال بقية المذاهب والأفكار والنظريات الوضعية التي تعد حصيلة ما وصل إليه الإنسان في العصر الحديث . وللمفهوم تعريفات عدة أبرزها يقول:- مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي . ويقوم مرتكز الليبرالية على مبدأ الاستقلالية للأفراد والمجتمعات والدول ومعناه الحقيقي ، التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي أو الداخلي سواء كان دولة أم جماعة أم فرداً ، ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها والانطلاق نحو تكريس الحريات ضمن عقد اجتماعي تتفق عليه الأغلبية بكل صورها المادية والمعنوية بين الدولة والمجتمع.
أما مفهوم الليبراليون العرب الجدد ، فقد بدأ بالظهور بداية عقد التسعينات كعلامة على اتجاه جديد برز في الساحة العربية بشكل محدود ، مؤيداً لاقتصاد السوق ومركزاً على مقولة الإصلاح السياسي والدستوري بشكل خاص ومصراً على مقولة الدولة الوطنية رافضاً المفاهيم الرئيسية للفكر الأممي والوحدوي في أشكاله اليسارية والقومية والإسلامية.
لقد صارت هذه السمات الثلاث أبرز ما يميز هذا التيار المحدود الذي قاده عدد من أساتذة الاقتصاد والسياسة والخبراء والباحثين العرب ممن انقلبوا على المنطق الذي ساد في الخمسينيات والستينيات أو كانوا مختلفين معه بالأساس أو انقلبوا على النهج الراديكالي الذي يركز على فكرة الوحدة والصراع مع الخارج دون التركيز على النهج الإصلاحي الذي يتكئ على منهج النقد الذاتي والإصلاح الديمقراطي وفاعلية المجتمع المدني بالأساس.
كما نشأت الليبرالية العالمية في أصولها كتيار فكري وسياسي وعقيدة تناهض السلطات وتناهض الأنظمة التي تقف في وجه العطاء الفردي والحرية الفردية فكذلك كانت الليبرالية العربية الجديدة التي يتلخص فكرها في أنه في مجمله يقوم بإحياء قيم الحرية العربية لدى الإنسان ، ولهذا يقف الفكر الليبرالي العربي الجديد ضد الحكم المطلق ، وضد الاستبداد ، وضد الخنوع للدولة واستعبادها وليس ضد الدولة . وإن الفكر الليبرالي الجديد ليس مبنياً على حقيقة واحدة خالدة وعابرة للتاريخ ، حقائق الليبراليين الجدد لاتُعرف دفعة واحدة وإنما تُعرف بالتدريج وفي وجوه متعددة ومتغايرة . وهي دائماً تحتمل المراجعة الشاملة المتكررة … لذا فقد نادى الليبراليون الجدد بثورة ثقافية من حيث أن الثقافة هي التعبير الواعي عن واقع المجتمع والذي بدونه لن يتم إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي … وعلى هذا الأساس اتهم الليبراليون بأنهم يعملون على نشر الحداثة الغربية في المجتمعات العربية ولاسيما عندما شددوا على ضرورة وأهمية إصلاح التعليم الديني والمناداة بقيام حركة نقد ذاتي … كما اتهموا بأنهم ضد الثوابت والأصالة التي هي ظاهرة ثابتة في التاريخ . وإن الأصالة التي ينادي بها السلفيون الآن هي المحافظة على التقليد الحاضر ضد الأفكار المستوردة والغزو الفكري والروحي والإسلام الأمريكي وديمقراطية الاحتلال والحرية المحمولة على رؤوس الصواريخ الأمريكية … وإن الليبراليون هم دعاة كل هذا … وهي كلها دعوات يعتبرها الكاتب النابلسي لاتتعدى أن تكون من نسج الخيال النخبوي السلفي ومن تخيلات النخب المحافظة ومن امتزاج المقدس بالمدنس واختلاط أوراق الحداثة والقدامة والأصالة والمعاصرة … فالمجتمع الحديث الذي يسعى الليبراليون الجدد إلى إقامته يعتمد على قيم كونية نابعة من العصر الذي يعيش فيه ، وهي قيم فردية لا جماعية كما هي الحال في المجتمع التقليدي ، وبأن قراراته عقلانية واقعية وعواطفه حيادية غير منحازة.
ويعد الليبراليون الجدد حتى الآن أفراداً كثيرين ولكن غالباً لم يجمعهم أطار محدد يمكن إدماج الجميع فيه في شكل متطابق . فقد ضم تنوعات تختلف في الرؤى تجاه مختلف المسائل المطروحة على الحوار العام . فهم شبه تيار تجمعهم أفكار عامة مشتركة يختلفون في تفاصيلها . فبينما كان يصر بعض رموزه على الاستقلالية طرح البعض الآخر مفهوم تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة . وبينما كان ولازال بعض أفراده يرحبون بالحوار مع الحركات ذات الإسناد الديني وخاصة المعتدلة منها . كان ولازال آخرون يصرون على رفض هذا الحوار كلية ما لم تلتزم هذه التيارات الفكرة العلمانية ويغيب من خطابها أي ملمح للغة المقدس أو منطق التقديس.
وقد أثير جدل فكري في السنتين الأخيرتين بين مجموعة من المثقفين والمفكرين والعلمانيين والحداثيين . وكان مثال الجدل موقف من يرى:- إن ما حصل في العراق احتلال ومنهم من يعتبره إحلالاً ، أي قوة عسكرية أحلت حكماً ديمقراطياً مكان حكم ديكتاتوري . ومنهم من يعتقد أن الانتخابات في ظل الاحتلال غير شرعية ، ومنهم يعتبرها شرعية . ومنهم من يرى أن هناك إمكانية للإصلاح السياسي من الداخل ، ومنهم من يرى أن لا إصلاح سياسياً إلاّ من الخارج . ومنهم من يرى أن القطيعة مع التراث هي الطريق الأسرع للوصول إلى الحداثة ، ومنهم من يرى أن لا طريق للحداثة إلاّ عبر التراث.
إلاّ أن الليبراليين العرب الجدد تجمعهم رغم كل هذا قواسم مشتركة أهمها أن حرية الفكر مطلقة ، وحرية التدين مطلقة ، وحرية المرأة ومساواتها بالحقوق والواجبات مع الرجل يجب أن تكون مكفولة ، وأن التعددية السياسية والإصلاح الديني والإصلاح التعليمي والسياسي من أولويات المرحلة الحاضرة . وأن فصل الدين عن الدولة وإخضاع المقدس والتراث للنقد العلمي وتطبيق الاستحقاقات الديمقراطية من أبجديات الحياة العربية الحداثية الجديدة.
إن مهمة الليبرالي الجديد – وفق طرح المؤلف – هو تخليص مجتمعه من الارتهان للماضي إلى الرهان على المستقبل وإخراجه من هذا الماضي البائس ونقله إلى مستوى العصر . فالبؤس العربي متأتٍ من العيش في بؤس الماضي وفي بؤس المجتمع التقليدي . وتغيير المجتمع بشكل جذري وواقعي هو ما يمكن أن يخرج المجتمع العربي من التخلف إلى التقدم ومن عالم الأحلام والخيالات إلى عالم الواقع والرهانات ، ومن المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث.
إن انخراط بعض رموز الليبراليين الجدد في خصومات وصراعات تدور بالأساس حول قضايا في الفكر الإسلامي . إنما مرده اهتمام شخصي وتخصص أكاديمي لدى هؤلاء الرموز وهو ما يجعل أفكارهم تندرج ضمن مساهمات تجديدية أو اجتهادية لإثراء هذا الفكر ولايمكن سحبها بالتالي على الجدل السياسي. فالاجتهاد في الفكر الإسلامي يشكل جزءاً أصيلاً فيه مثلما يشكل المجتهدون أساس وجوده . فالثابت في الفكرة الليبرالية أنها مع تحرير ونقد الفكر الديني وتوفير الشروط الضرورية لممارسة الاجتهاد الديني وكسر احتكاره من قبل مرجعية معينة أو جماعة واحدة أو طائفة بذاتها . غير أن الفكرة الليبرالية ليس بمقدروها في نفس الوقت تبني اجتهاد ديني بعينه أو رأي فقهي دون سواه حيث أن ذلك ليس من اختصاصها تماماً ، كما يجب أن تظل محايدة في التعامل مع مختلف الاجتهادات متيحة في حال كانت هي السائدة سياسياً واجتماعياً لكل فرد حرية اعتناق الاجتهاد والرأي الديني الذي يقنعه باستثناء تلك الاجتهادات والآراء التي تسعى إلى مصادرة الحرية والعمل على فرض نفسها على الآخرين بالعنف والقوة.
ولئن كان لبعض قادة التيار الليبرالي آراء في الفكر والعقيدة والاجتهاد الديني ، فأن هذه الآراء لايمكن أن تصطبغ يوماً بصبغة القداسة ولن يسمح لها أهلها بأن تتحول إلى دين جديد يُكرم معتنقه وينبذ تاركه . فالحياة أنماط عيش متعددة ، والمبدأ الليبرالي الخالص هو أن تحترم رغبات الأفراد في اختيار أساليب عيشهم الخاصة وأن يحال دون رغبة أولئك الذين تحدثهم أنفسهم بامتلاك الحقيقة أن يفرضوا بالإرهاب المادي أو المعنوي طرقهم الخاصة في العيش على الغالبية الرافضة.
لاتختلف الليبرالية الجديدة عن القديمة أبداً إلاّ في الوسائل والأدوات . فالمبادئ نفسها ولايمكن التراجع عنها أبداً بل بالامكان إثراءها بالمزيد من التجارب. وقد تمثلت المبادئ الأساسية لليبرالية الجديدة في:-
1- العلمانية ، التي تعني فصل الدين عن السياسة كما تعني مضموناً فصل الدين عن النشاط البشري بعامة . فمن السخف بمكان أن تمارس عملية انتخابية سياسية وأنت مقيد دينياً . الليبرالية لاتنفي الدين ولاتحاربه ولاتحجر عليه بل لاتكون الدولة ليبرالية إلاّ حيث تكون العلمانية . والدين يصبح ركناً سامياً له خصوصيته كونه يختص بعلاقة روحانية جلية بين الإنسان وربه تعالى ولايمكن أن ينزل الدين من عليائه ليمارس دوره في أي واقع سياسي مليء بالموبقات والمشكلات التي ربما لاتجد علاجاتها في الحلول الدينية في كل الأديان . وإذا صلحت السياسة الدينية في مجتمع أحادي العناصر فسوف لن تنفع أبداً في مجتمع له تعقيداته وتنوعاته ومشكلاته ، إذ ستزيدها تلك السياسة الدينية تعقيداًَ.
2- العقلانية ، وتعني توظيف العقل الإنساني وإخضاع كل شيء لحكم العقل لإثباته أو نفيه أو معرفة خصائصه ومنافعه ، والعقل المحكم هنا هو عقل الإنسان.
3- الإنسانية ، التي تؤمن بالدفاع عن حرية الفرد الإنسان وترعى مصلحته وكفاءته في وطنه أو حتى في العالم . إن المبدأ الإنساني يمنح الثقة بطبيعة الإنسان وقابليته للكمال من خلال تشجيعه وتوفير كل الفرص أمامه للإبداع وتجعله ينطلق من أجل أن يوفر كل المنافع للإنسانية قاطبة من دون أن يحتجز من ينتجه لنفسه أو لقومه . إنه ، إذن إنسان يترفع عن صغائر الأشياء إلى عظائم الأمور.
4- النفعية ، كمبدأ تراعى فيه مصالح الأفراد والنخب والفئات والمجموعات ، وتقل لتصل إلى الطبقات … حيث أن الليبرالية تبنى نظريتها على رأسمالية المجتمع وأنها تجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياساً للسلوك ، وأن الخير الأسمى هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس دون الالتفات إلى حجم الضرر الذي سيصيب مجتمع بكامله أو طبقة بعينها أو خسارة جماعات.
لقد كانت للعرب تجاربهم المتواضعة الليبرالية القديمة التي طبقوها إبان النصف الأول من القرن العشرين وخصوصاً في مصر والعراق وسوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب ، ولحقت الأردن والكويت بهم ، ولكن كان للمؤدلجات الثورية الماركسية والقومية دورها في خنق التفكير الليبرالي ، فضلاً عن أحادية الأحزاب والحركات الفاشية والسلطات الفردية والزعامات الشمولية والديكتاتورية دورها في قتل الحياة الليبرالية . كما وكان للانقلابات العسكرية في كل من مصر والعراق وسوريا دورها في اغتيال الممارسات الليبرالية العربية التي قلبت الحياة في المجتمعات الثلاثة رأساً على عقب والتي أخرجتها من سيرورة التاريخ لخمسين سنة إلى الوراء بتقييد وخنق الحريات وتجميد الأحزاب وإيقاف الانتخابات العامة.
والليبراليون العرب لاينكرون أنهم استلهموا الفكر السياسي الحديث من الأوربيين كما استلهم كل البشر وسائله وعلومه ومعارفه وصناعاته منهم ، وكان عليهم أن يطوروا تجاربهم فيه لولا الأسباب التي ذكرت آنفاً والتي خنقت ليبراليتهم القديمة.
إن الإعلام العربي المعاصر الذي تختفي من ورائه قوى سلطوية أو جماعات دينية أو تيارات شوفينية يحاول أن يشوه القيم الحقيقية والمبادئ الأساسية للحياة الليبرالية العربية وتقدمها – وفق طرح الكتاب – إنهم يدمرون مستقبلها في المنطقة بواسطة البعض من الإعلاميين التلفزيونيين والكتّاب الصحفيين والمثقفين الشوفينيين والساسة البدائيين كي تبقى المنطقة متخلفة وعاجزة ومنغلقة وكسيحة ومستهلكة وغير متحررة تحرراً فعلياً أو منتخبة ومبدعة أساساً . فهل سيتغير القوم بغير القوم عندما يشعر الناس بقوتهم من دون خوف ؟ وهل تضمن دساتير مدنية وتكفل حقوق الإنسان وواجباته ؟ وهل سيبدأ العرب وشركائهم بتغيير مناهجهم وأساليب تفكيرهم وإعادة تركيب ذهنيتهم ، أم أنهم سيغتالونها عمداً عن سبق إصرار وترصد ؟
هذا ما ستكشف الأيام القادمة علماً بأن العالم كله يتحول لانتزاع حقوقه بالوسائط السلمية وإنه يتغير كما هي سنة الحياة من أجل إيجاد فرص أفضل.
فهل سيحقق العرب تطلعاتهم في مثل هذه العتمة والقيود والعمى ؟ إن أسلم طريق أمامهم – على حد قول المؤلف – هو انفتاح الأبواب على مصراعيها وأن يشعر الناس أنهم يتمتعون بطعم الحرية وأن يقولوا كلمتهم في ما يريدون وما يرفضون في إطار دستور حديث.
الكتاب:-
شاكر النابلسي – الليبراليون الجدد ، جدل فكري ، ط 1 ، دار الجمل ، كولونيا/بغداد ، 2005