” يحتوي البدء دائما على الامتلاء اللاّمنكشف للاّمألوف أي للنزاع مع ماهو مألوف”
مارتن هيدجر – كتابات أساسية-
السؤال الذي استحوذ على الفلسفة طوال تاريخها واعتبر حدثا استثنائيا ومع ذلك ظل طي الكتمان وفي غياهب النسيان هو سؤال الفكر بما يعود إلى ذاته وما يقتضيه من إعادة نظر جذرية في طريقة طرحه. فما الفرق بين الفكر والتفكير والتفكر؟ لماذا يتوجب فلسفيا على الفكر أن يعود الى ذاته بصورة دائمة وأصيلة؟
لقد حجب التفكير بماهو فعل للنفس في نطق أحوال وجودها الحياة الحرة للفكر وأغلق الأبواب في وجه كل معترض ومعاند وجعله يتوارى يجر أذيال الخيبة ويستعمل طرق ملتوية ويختفي بالرمز والاستعارة.
لقد أضحى الفكر بعيدا عن مقامه مدركا للعالم وواعيا للذات ومتصورا للنظريات ومقارنا للتصورات ومصنفا للعلوم ومحصيا للمعارف ومتخيلا للموجودات ومعتبرا من الظواهر ومتنقلا بين المستويات.
كما مارس العقل دكتاتوريته المعرفية على بقية الملكات وأرجع الفكر إلى دائرة الانتفاع وجبر الأضرار وأوقعه في شراك الأداتية والموازنة بين الخسائر المكلفة والأرباح المحرزة وجعله مجرد رصيد للحساب.
بينما كان الفكر وراء المطاردة التي خاضت الفلسفة للنصوص بحثا عن الحقيقة والمطلق والمثال والمعنى ولكن الموجود البشرى أدخل كل ذلك في دائرة اللغة وأدرجه إلى أحداث التاريخ وضمه إلى أشياء العالم.
لقد صادر الاعتقاد الديني حرية الفكر لدى الكائن البشري وقضت المعالجة العلمية على انسيابيته وأجهز الإنتاج الفني على جماليته واحتكرت التقنية عبقريته وذكاءه واستولى المرء الصانع على طاقته وصلابته.
ماهو غير مألوف بالنسبة للظن السائد أن يقترن ميلاد الفكر من رحم اللاّفكر بظهور الوجود من اللاّوجود وانبساط النظام من محيط الفوضى وتشكل المفهوم من كهف المجهول وانعقاد العلم من ظلام الجهل وما لا يمكن ستره يكمن في أن الفكر بداية ممتلئة للتفكير في الوجود وحضور مطلق للذات المفكرة في العالم.
لقد اقترنت أفعال الفكر بحركات الوزن والحكم والتقييم والتعيير بالإثبات أو بالنفي من خلال الصلة بالعقل ولقد ضمت الاختيار والجمع والتحصيل والربط والتنسيق وإنتاج الخطاب وتشكيل القول بمحاكاة المعقول.
لم يعد الفكر عندئذ مجرد نشاط ذهني استدلالي تقتصر مهمته على معالجة المشاكل المطروحة بايجاد عدد من الحلول وحاز على قوة تمكنه من الاستمرار في الإبداع رغم الانقطاع عن التجربة والعالم المحسوس.
بهذا يكون الفكر Denken من وجهة نظر الأنطولوجيا الأساسية نبض النشاط الفلسفي بامتياز الذي يتيح للموجود الإنساني الإقامة في العالم ويعبر بشكل ملموس عن شروط إمكان الحياة ضمن الوجود المشترك.
لكن، ألم يكن ممكنا تجنب هذا الاعتداء؟ وكيف يند الفكر عن المصير الذي تحول فيه إلى تفكير؟ وما الذي يبدو أقرب إلى الصواب من أن يفكر الفكر في ما يسبق عملية تفكره لذاته واستدعائه لغير المفكر فيه؟