متى نشأ اسم العراق وما معناه ؟ مسـألة قديمة جديدة ، شغلت الناس على مدى قرون … ايام كانت مدار بحث وجدل واجتهاد بين جمهرةالمؤرخين والبلدانيين وعلماء اللغة منذ زمن بعيد . ثم لم تلبث مسألة اسم العراق وأصله ومعناه ان استجدت اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين نهض لها صفوة من المؤرخين والباحثين والآثاريين الذين تناولوا الموضوع ودراسته على اسس من البحث العلمي الرصين ، وكان معينهم في ذلك ما كشفت عنه التنقيبات الاثارية التي قامت بها البعثات الآثارية الاجنبية منذ اواسط القرن التاسع عشر واستمرت حتى ايامنا الحاضرة في المئات من مواطن الحضارات القديمة وخرائب المدن القديمة المنتشرة في عدد من بلدان الشرق الادنى القديم وما اسفرت عنه جهود علماء الكتابات القديمة وفك رموزها ودراسة نصوصها كالكتابات المسمارية والهيروغليفية والارامية والاغريقية وغيرها من الوثائق والاسانيد التاريخية . كذلك اعتمدوا على المصادر والمراجع العربية والاسلامية من كتب الادب والشعر والتاريخ ومعاجم اللغة والمؤلفات الباحثة في البلدان . وقد بادر فريق ممن له ثقافة عصرية ومعرفة واطلاع على طائفة من اللغات الاجنبية الى الرجوع والاستعانة بالمصادر والمراجع المدونة بتلك اللغات فأثمرت جهودهم باضافة معلومات جديدة الى معلوماتهم المشتقاة من المصادر والمراجع العربية والاسلامية .
ويـمكن القول ، ان مسألة اسم العراق اصله ومعناه ، والاهتمام بها تكاد تنحصر بعدد من العلماء والباحثين ، عراقيين واجانب ، انقسموا على اربع فرق :
الفريق الاول ـ يمثل المدرسة القديمة التقليدية ، ومن ابرزهم محمود شكري الالوسي .
الفريق الثاني ـ يمثل المؤرخين والباحثين العصريين ممن حاز نصيباً واطلاعاً على لغة اجنبية او اكثر ، مثل الاب انستاس ماري الكرملي ويوسف رزق الله غنيمة ورزوق عيسى وابراهيم حلمي العمر وفؤاد جميل .
الفريق الثالث ـ يتكون من عدد من علماء التاريخ والاثار ممن حصل على الشهادات العلمية والتخصص العالي من الجامعات والمعاهد الغربية ، ومن ابرزهم العلامة طه باقر والدكتور محمود حسين الامين والدكتور عامر سليمان .
الفريق الرابع ـ مجموعة من الباحثين والآثاريين والمؤرخين الاجانب ، كان من ابرزهم من اهتم بهذا الموضوع المستشرق الألماني الدكتور ارنست هرتسفيلد والمؤرخ الامريكي الدكتور البرت كلاي فكان لارائهم وتحقيقاتهم التاريخية والاثارية الاثر الكبير في البيئة الثقافية والتاريخية في العراق .
ووفـق ادبيات هذه الفرق البحثية ، فان اسم العراق يرجع في اصله الى تراث لغوي قديم ، أصله سومري ، ومن اقوام آخرين من غير السومريين كالساميين الذين استوطنوا السهل الرسوبي منذ ابعد عصور ماقبل التاريخ ، وان (عراق) مشتق من كلمة تعني (المستوطن) ولفظها (اوروك uruk ) وهي الكلمة التي سميت بها المدينة السـومرية الشهيـرة الوركاء .
ويـرى البعض ، استعمال كلمة (عراق Irak) ورد في العهد الكيشي في منتصف الالف الثاني قبل الميلاد . وجاء فيها اسم اقليم على هيئة (ابريقا) الذي صار على الاصل العربي لبلاد بابل او كلمة (العـراق) .
فـي المدونات الكلاسيكية اللاحقة ظهرت تسمية (ميزوبوتاميا) الجغرافية في زمن يقع بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد ولاسيما في استعمالات الكتبة الكلاسيكيين اليونان والرومان ، ومعناه (بلاد الرافديــن) او (ما بين النهرين) . ويتألف الاسم من مقطعيـن : ميزو Meso معناه بين او وسط . و بوتاميا potamia بمعنى نهر ، وهو لفظ ينحدر عن الاغريقية ، بمعنى الماء او النهـر .
ولـم تلبث هذه التسمية (ميزوبوتاميا) أي (ما بين النهرين) و (بلاد الرافدين) عند الكتاب والمؤرخين والرحالة الاوروبيين لاطلاقه على البلاد كلها او على جزء منها . ولا يزال يستعمل حتى بعد شيوع استعمال العراق . وشبيه بهذه التسمية ما استخدمه الكتاب العرب في العصور الحديثة حيث استخدموا تسمية (وادي الرافديـن) .
والغـالب في استعمال الكنية الكلاسيكية لتسمية (ميزوبوتاميا) ، انه كان يطلق على الجزء الشمالي من العراق او الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين المحصور بيــن دجلة والفـرات الى حدود بغداد ، أي انه يرادف تقريباً تسمية (الجزيـرة) فـي استعمال البلدانييــن العرب .
لقـد اشار بعض الاثاريون الى احتمال ظهور هذه التسمية فـي عهد الاسكندر المقدوني ، ولعـل اقدم واوضح استعمال لتسمية (ميزوبوتاميا) ما ورد في كتابات المؤرخ الشهير بوليبيوس . ويضيف آخرون ان اقدم استعمال لهذه التسمية هو ما جاء في مدونات المؤرخ الاغريقي فلافيوس اريانوس المعروف اختصاراً بـ اريـان .
ويـرى عالم المسماريات فنكلشتاين من جامعة شيكاغو في دراسة له حول هذه التسمية ، ان تسمية ميزوبوتاميا قد يعود بأصوله الى تسميات قديمة وردت في بعض النصوص المسمارية الاكدية على النحو التالـي :
بيرت نارم birit narim
مات بيرتم mat birtim
بيريتوم biritum
جميعها تعني ( بين النهريـن ) .
احـد الاثاريين المعاصريين ، يرى ان التسمية (ما بيـن النهرين) غير دقيقة من الناحية الجغرافية والتاريخية ، وقد تثير الألتباس للقراء العرب من غير المختصين ، كما ان فيها محاولة لعزل الماضي عن الحاضر وتجريد بلاد الرافدين من عمقها التاريخي والحضاري ، ولذلك يفضل ترجمة (ميزوبوتاميا) الى (بلاد الرافديـن) .
اسـم آخر اطلق على العراق عرف بـ (ارض السواد) ، يعد من اقدم الاسماء العربية التـي تطلق على الارض الرسوبية على ضفاف دجلة والفرات . وقد اطلق عليها هذا الاسم كما يبدو للعين من التفاوت بينها وبين صحراء العـرب .وكلمة (السواد) اذا سبقت اسم مدينة من المدن كان معناه الحقول المزروعة على نطاق واسـع في اراضيها التي تروي رياً منتظمـاً . و (السواد) في اكثر معاجم اللغة جاء بمعنى (الخضرة) ، والخضرة اذا اشتدت ضربت الى السواد من كثرة الري من الماء . والسواد هو من ارض العراق ، سمي سواداً لسواده بالزرع والاشجار لانه حين تاخم جزيرة العرب التي يقل الزرع فيها والشجر كانوا خرجوا من ارضهم اليه ـ أي الى السواد ـ ظهرت لهم خضرة الزرع والاشجار ، ولهـــذا سموا خضرة العراق سـواداً .
وقـد وردت تسمية قديمة في كتب التاريخ والادب عرفت بـ (العراقان) . وقـد ظهرت اول مــرة في العصر الاموي واطلق على كل من البصرة والكوفة لانهما عاصمتا البــلاد . وكان ذلك يـوم ضم معاوية بن ابي سفيان الى زياد بن ابيه والي الكوفة وجمع له البصرة ، لما مات المغيرة بن شعبة امير الكوفـة .
وذكـر الزمخشري ان (العراقيـن) هما الكوفة والبصرة . ثم جاء البلدانيون من الفرس فأطلقوا على جزء من بلاد فارس اسم (عراق) وعرف بأسم (عراق العجم) او (العراق العجمي) تمييزاً له عن (العراق العربـي) .
وعـراق العجم هو اسم يطلق على (كور الجبال) ويشمـل مدن حمدان والدنيور واصفهان وقم ونهاوند ، واغلب المصادر تشير الى ان (العراقين) في العصر السلجوقي على العراق العربي وعلى (ميديا) أي اقليم الجبال الذي سمي (عراق العجـم) .
والعـراق في (معجم العين) للخليل بن احمد الفراهيدي ، يعني شاطيء البحر ، وسمي عراقاً لانـه على شاطىء دجلة والفرات حداً حتى يتصل بالبحر على طوله ، واهل الحجاز يسمون ما كان قريباً من البحر عراقـاً .
وفـي (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي ، سمي عراقاً لمصب المياه اليه كدجلة والفرات وغيرها من الانهار ، ويظن انه مأخوذ من عراقي الدلو وعراقي القربـة .
امـا في (الاحكام السلطانية) للماوردي ، سمي عراقاً لاستواء ارضه حين خلت من جبال تعلو واودية تنخفض . والعراق في لغة العرب الاستواء .
وظـهر اسم العراق لاول مرة في الشعر العربي وجاء ذكره في اشعار الشعراء وهـي كثيرة اكثر مما تحصى ، اكتفى مؤلف الكتاب الذي نحن بصدد مراجعتها ايراد الآتـي :
قـال المتلمّس ، وهو جرير بن عبد المسيح الضبعي ، كان من شعراء البحرين ، جاء الى الحيرة في العراق ، ومنها هرب الى الشام وبقي فيها . وقد بلغه ان عمرو بن هند يقـــول : (حرام عليه حب العراق ان يطعم منه حبة) فقال المتلمس قصيدة طويلة يقول فيهـا :
ان العـراق واهله كانوا الهوى فإذا تأتي بي ودهّم فليبعـد
والمنخلَّ اليشكري قال ، وهو الشاعر الذي نادم النعمان بن المنذر الذي اتهمـه بأمراته المتجردة فقتله ، يقـول :
ان كنـتِ عاذلتي فسيري نحو العراق ولا تحـوري
وقـال امرؤ القيس عن ملك جده الحـارث :
ابعـد الحارث الملك بن عمر له ملك العراق الى عمـان
امـا عنترة العبسي فانه عندما طلب الزواج من ابنة عمه عبلة اشترط عليه عمه صداقاً من ابل النعمان المعروفة (بالعصافير) فذهب الى العراق وسجن ، وفي ذلك يقول :
تـرى علمت عبيلة ما ألاقي من الاهوال في ارض العـراق
طغـاني بالريا والمكر عمي وجار عليَّ في طلب الصـداق
فخـضت بمهجتي المنايـا وسـرت الى العراق بلا رفـاق
وجـاء اسم العراق في قصيدة للشاعر النابغة الذبياني وكان خرج مع الامـام علي في معركة صفين فقـال :
قـد علم المصران والعراق ان علياً فحلها المتّسـاق
وابو الطيب المتنبي فقد اكثر من ذكر العراق في اشعاره في مختلف المناسبات ، وقال في مدح سيف الدولة الحمدانـي :
كيـف لا تأمن العراق ومصر وسراياك دونها الخيـول
اخيـراً يرى المستشرق الانكليزي ليسترارنج ، ان العرب اطلقوا على ما بين النهرين الجنوبي اسم (العـراق) ومعناه الجرف او الساحل ، على ان منشأ هذا اللفظ واصله مشكوك فيه ، ولعله يمثل اسماً قديماً قد فقدناه او انه كان يستعمل في الاصل في معنى غير هـذا .
وفـي رأي المستشرق الالماني هرتسفيلد الذي يعلق قائلاً : ان الــرأي الاصح المتبوع فهو ان العراق تعريب (ايراه) بمعنى الساحل ، لانه على ساحل الخليج او ساحــل شط العرب ، وان كل كلمة فارسية تنتهي بـ (هاء) تعرّب بـ (جيم) او (كاف) او (قاف) علــى ما هو مشهور اما قلب (الهمزة) فـي اول الكلمة (عيناً) فأشهر من يذكر وهـي لغــة قائمة برأسها تعرف بـ (العنعنة) فيكون بـدل (ايران) (عراق) ، ثم حذفت اليـاء من (عيراق) بعد التعريب لتحمل على وزن عربـي .
* الكتـاب :
اسم العـراق ، اصله ومعناه عبر العصور التاريخيـة ، تأليف : سالم الالوسي ، ط1 ، منشورات المجمع العلمي العراقي ، بغـداد ، 2006 ، 96 ص .
تنبيه= المادة نشرت في جريدة المدى ملحق اوراق عدد يوم الاحد 6اذار2011 بأسم وهمي كعينة لمتطلبات دراسة حول العقد النفسية والمذهبية في الصحافة العراقية .