18 ديسمبر، 2024 11:10 م

السجن عبء وتعذيب وإفساد

السجن عبء وتعذيب وإفساد

لا شك إن هذا العنوان يتناقض مع المقولة المأثورة (السجن تهذيب وتأديب وإصلاح) لكنه الاقرب لوصف حال السجون العراقية التي باتت تشكل عبئ مادي كبيرعلى الدولة خصوصا وإن أعداد النزلاء قد وصل لأرقام قياسية مفزعة. هذا الإزدياد قد يكون مبرر نظرا للظروف الإستثنائية التي مر بها البلد, فالحروب لم تقتل وتهجر وتدمر فحسب وإنما نخرت بنية المجتمع ومسخت الكثير من خصاله وقيمه ومبادئه السامية كونها تسببت بإرتفاع نسبة البطالة وإضعاف سلطة القانون وغياب الرقابة وتشتت هوية الانتماء وتراجع مستوى الثقافة والوعي وانشغال الدولة في مكافحة الارهاب وعوامل كثيرة يطول الحديث فيها أدت الى إرتفاع معدل الجريمة. أضافة الى ذلك هناك آلاف الإراهبيين معتقلين في سجوننا ويبدو ان مدة اقامتهم ستمتد الى أجل غير مسمى بسبب تزايد الضغوط الدولية على العراق بهدف إلغاء او تجميد حكم الإعدام ولا أدري إن كان المجتمع الدولي هو من سيتكفل بإعالة وإيواء الارهابيين في حال تم تجميد احكام اعدامهم أم ان تكاليفهم ستسلخ من جلود من ابناء شعبنا ؟

علما إن السجين الواحد يكلف الدولة ما لا يقل عن 2400 دولار سنويا بين مأكل ومشرب وعلاج وزنزانة فيها كهرباء وماء وانترنت ودورة مياه, هذا المبلغ نضربه بعدد السجناء والذي يقدر بـ 43 الف سجين حسب تقرير المركز الدولي لدراسة السجون عام 2016 , المجموع حوالي 103 مليون دولار سنويا ثم نضرب هذا الملغ بعدد سنين سجنهم,عندها سنجد ان المبلغ قد وصل الى مليارات الدولارات التي يمكن ان تستغل لأنعاش المستوى المعيشي للفرد العراقي أو لإعادة بناء البنى التحتية والمدن المدمرة او لتعويض الضحايا وذويهم الخ

لابد للحكومة ان تلتفت لهذا الهدرالكبير للمال العام وان تسعى لرمي الكرة في ملعب المجتمع الدولي والضغط عليه في توفير الدعم المادي لإعالة السجناء وتحسين وضعهم بدلا من إصدار بيانات الشجب والتنديد والتلويح بعصا العقوبات على العراق.
كما يجب على الحكومة ان تضع خطة ومنهاج واضح لإصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم, وإلا فعقوبة السجن بحد ذاتها لن تكون مجدية ولن تؤدي الهدف المرجو وسيخرج السجين بعد قضاء محكوميته اكثر خطرا على المجتمع وسيكتسب خبرات اجرامية اضافية او ربما افكار ورؤى متطرفة من رفاقه في السجن. وهنا يمكن ان نستفاد من تجارب وخبرات دول اخرى في كيفية التعامل مع السجناء واعادة تأهيلهم وتخفيف اعبائهم على الدولة .

هناك تجربة رائدة لابأس من استحضارها لعلنا نستفاد منها, في عام 1890 كانت روسيا تمر بوضع اقتصادي مزري وربما يكون هو الأسوء في تاريخها وكانت بحاجة ماسة لمد سكة حديد من موسكو الى الشرق الأقصى الروسي وصولا الى سيبيريا وبحر اليابان بهدف نقل البضائع الى تلك المناطق النائية وانعاش اقتصادها. لكن تكلفة تشييد اطول سكة حديدية في العالم تمتد لـ 9,2 الف كم يتطلب من الروس تخصيص اموال طائلة لم تكن بحوزتهم , ومع هذا لم يستسلموا لظروفهم القاهرة ففكروا واجتهدوا وتدبروا أمرهم وأتموا مشروعهم من خلال استعانتهم بالسجناء حيث استخدموهم كأيدي عاملة, ولكي يحفزوا السجناء ويرفعوا من عزمهم ووتيرة جهدهم اتفقوا معهم على أن يخفض يوم من محكوميتهم مقابل كل يوم عمل. وبالفعل نجحوا في انجاز احد اعظم مشارعهم وبأقل تكلفة وطفر اقتصادهم الى اعلى مستوى بفظل حسن تخطيطهم واستثمارهم لطاقات منسية كانت تشكل عبئ اضافي على ميزانية روسيا. كما ان اشغال السجناء بعث فيهم الامل لنيل الحرية والفخر كونهم اسهموا في خدمة بلدهم , فالتأديب والتهذيب والاصلاح لا يكون قسري ولا بالتلقين وانما بالتعامل النفسي وإشعار السجين بقيمة الحرية والعمل وفتح نوافذ الامل واعطاءه الفرصة ليصبح انسان منتج ومقبول في مجتمعه.

العراق فيه عشرات المعامل والمنشئات الصناعية التي تدمرت وتعطل انتاجها بسبب الحروب بالاضافة الى اننا مقبلين على مرحلة إعادة إعمار المدن المدمرة ونسعى لبناء مشاريع خدمية جديدة وهذا كله يحتاج لأيدي عاملة, وبوسع حكومتنا ان تستفاد من تجربة الروس وتستثمر طاقات السجناء وبذلك نكون ضربنا عدة عصافير بحجر واحد (انجزنا مشاريعنا بأقل كلفة , تخلصنا من العبئ المادي الذي يشكله السجناء كوننا جعلناهم شريحة منتجة, اعدنا تهذيبهم وتأديبهم واصلاحهم من خلال اشراكهم في بناء بلدهم واشعارهم بقيمة العمل والاجتهاد والعطاء والحريم وهذا سيسهل عليهم عملية اعادة دمجهم بالمجتمع بعد انقضاء محكوميتهم) .