السيد العبادي ، من السياسيين القلائل جدا ممن هم فوق مستوى الشبهات ، ومن حَمَلة الشهادات العالية غير المزورة ، ومن الجامعات الرصينة وليست شهادات (الكَلَك) كدأب (دكاترتنا) ، وقد سُجّلت في عهده العديد من الإنجازات ، أو بالأصح تصحيح بعض الأخطاء الكارثية التي حلّت بالبلد بسبب جريرة من قبله ، وقد تحدّث الرجل أكثر من مرّة ، عن عزمه على محاربة الفساد ، الآفة الحقيقية الكبرى في العملية السياسية ، والسبب الرئيسي وربما الوحيد في التدهور والدمار والفشل الذي حل بالبلد ، والذي جرّ علينا كل الويلات والإخفاقات في عراق ما بعد 2003 ، كذلك عزمه على حصر السلاح بيد الدولة بعد الفراغ من داعش ، حسنا ، هذا أجمل كلام من الممكن سماعه ، ولكن لا تأخذنا العاطفة ، ولا يستأثر بنا الحماس نحن الغالبية المتضررة ، فلا أرضية صالحة تحت أقدام هذا الرجل لتنفيذ إصلاحاته ، ولا معطيات حقيقية وجدّية في الأفق من الممكن الأخذ بها ، بالرغم من إحساسنا باللهجة الصادقة لتصريحات هذا الرجل ، حقا نحن في دوّامة من التساؤل نتشارك بها مع السيد العبادي ، فمن أين سيبدأ ؟ .
عمليا يجب إقصاء وإجتثاث كل عناصر الحكومة على الإطلاق وإستبدالهم بوجوه جديدة ، وذلك من منطلقين ، الأول إنهم جميعا مشتركون في عدة جرائم كبرى وبشتى المسميات ، كالفساد الذي لم تشهده البشرية في التاريخ ، وقد أوغلوا في القتل والإنخراط في الإرهاب والإختلاس والمحسوبية والعمالة ، إلى درجة عشعشت في نفوسهم كالمرض العضال الذي لا ينفع معه حتى الكَي ، وصار منهجا لا يمكنهم الحيد عنه ، والمنطلق الثاني المحاسبة القانونية المُلِحّة ، حسب كل الأعراف السماوية والوضعية والإنسانية والأخلاقية والتي تأخرت كثيرا ، فمن العار على القضاء ، أن نرى هؤلاء يفرون بأفعالهم المشينة ، فهل بإمكان السيد العبادي فعل ذلك ؟ نشك في ذلك كثيرا لسبب بسيط ، أنهم أقوى بكثير منه ، فقد ضربت جذور هؤلاء الفاسدين عميقا في الأرض وهم يمتلكون كل الآليات والوسائل والقوة ، بل المخارج القانونية التي أشتروها ، وقنوات مشبوهة تمدهم بالقوة والديمومة إقليميا وعالميا ، وهم يحيطون بالسيد العبادي من كل جانب ، إبتداءً من حزبه مرورا بكل الكتل والتيارات والتحالفات ، وحقيقة لا نجد أمامنا سوى جدران التشاؤم الشبيهة بالكتل الكونكريتية التي سلبتنا الحيز الضئيل المتبقي من حريتنا.
ولو فرضنا أن السيد العبادي قد نجح في هذه الخطوة بقدرة قادر ، فكيف بإمكانه فرز وجوه قيادية جديدة ونزيهة ، وهي متوفرة لكنها معطّلة تماما ، ولا أمل لها بمزاحمة الحيتان العفنة والمتفسخة ، تلك التي إمتصت دمائنا ؟ ، هل سيلجأ إلى عين الأحزاب كواقع حال مفروض ، الأحزاب التي بينت التجربة المريرة على أنها عديمة النفع ، بل إنها كالعبء والورم السرطاني لأن أصنام المحاصصة لا تزال شاخصة وجاثمة على صدورنا ؟ ، هل سيتجرأ السيد العبادي على تحطيم كل تلكم الأصنام ؟ ، خصوصا وأنه يبدو وحيدا في الساحة في مسعاه هذا .
ولو فرضنا أن العبادي قد نجح في ذلك وهو ضرب من ضروب المستحيل إلى درجة إعتبار ذلك من الأماني المُحَرّمة ، هل سينجح في نزع سلاح الميليشيات المنضبطة منها وغير المنضبطة ، وتحييدها ودمجها في الحياة اليومية ، بعد غياب المبررالرئيسي لوجودها وهو الإرهاب ؟ ، نشك في تنفيذ هذا المسعى هو الآخر ، لأننا بدلا من أن نلمس تباطؤا في عجلة تجارة السلاح العالمية يلوح في الأفق ، نجدها في تسارع محموم ، حيث أبرمت أضخم صفقات للسلاح في التاريخ وبالذات لدول الخليج ، ونحن نتسائل ، لأي شيء أنشأت هذه الترسانات الهائلة سوى لأجل المزيد من القلاقل في الشرق الأوسط ؟ .
نحن الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، يطالب فيها “مناضلوها” كما يسمون أنفسهم ، بثمن “نضالهم” المشكوك به كثيرا وبأضعاف مضاعفة على شكل مال بأرقام فلكية ، وهم بذلك لا يختلفون عن المرتزقة ، سوى أنهم نهمون ولا يعرفون الشبع ، حتى إذا خَوَتْ خزينة البلد ، تحولوا لسرقة الدراهم من جيوب الفقراء ، لقد علمتنا السنون العجاف ، إن المناضل الحقيقي هو المرابط على تربة الوطن كالقابض على جمرة من نار ، رغم الحصار والحروب وبطش السلطة ..
كان الله في عون السيد العبادي في مهمته ، فنحن نتحدث عن فساد واسع النطاق وبأعلى المستويات ، فساد ينخر في الهرم الحكومي بأكمله من القمة إلى القاعدة ، بل إن الفساد متوغل تماما في المرافق الحكومية التي أسّست أصلا لمحاربة الفساد ، كالنزاهة والقضاء ، وها نحن بإنتظار بواكير حرب العبادي المقدسة على الفساد والتخلف والظلام .