يزخر تاريخ العراق الحديث بنساء عراقيات يحق للعراقيين ان يفخروا بهن، انهن نساء ابدعن في مجالات العلوم والاداب وفي اختصاصات شتى. فالتاريخ لا يمكن ان ينسى نازك الملائكة ولا نزيهة الدليمي، وهي اول امرأة تسلمت منصبا وزاريا في العراق، بل هي اول امرأة تتسلم هذا المنصب في الوطن العربي بأجمعه وكان لها دور كبير في اصدار قانون الاحوال الشخصية في العراق عام 1959 وهو القانون الذي أُعتبر انذاك القانون الاكثر تقدما في الشرق الاوسط من حيث الحقوق التي منحها للمرأة العراقية. كما لا يمكن ان يمضي التاريخ دون الاشارة الى المهندسة المعمارية زها حديد التي ضربت شهرتها في ارجاء المعمورة وتتسابق اليوم دول العالم للحصول على تصاميمها واعمالها، والمجال هنا لا يتسع لذكر النساء العراقيات المبدعات فهن كثيرات عملن وما زلن يعملن في مجالات الطب والهندسة والقانون والتعليم والصيدلة والفيزياء والكيمياء والاداب والفنون بل والزراعة والصناعة والتجارة والاعلام وغيرها.
واليوم تشارك المرأة العراقية أخيها الرجل في العمل، وفي مختلف الاختصاصات والمجالات، كما ان التوظيف في دوائر الدولة والقطاع الخاص مفتوح امامها حالها حال الرجل وهي تتمثل في الحكومة وفي البرلمان وهناك ايضا نساء عراقيات يرأسن بعض منظمات المجتمع المدني.
ولكن ما مر انفا لا يعبر عن الصورة الكلية لحياة المرأة العراقية فهذه الصورة المشرقة والبراقة، وان كانت صحيحة ،هي صورة منقوصة جزئية عن حياة المرأة العراقية، وفيما عدا هذه الصورة ، تعيش المرأة العراقية لا سيما في القرى والارياف حالة من القهر والظلم وانتهاك الحقوق ، فترى العنف الاسري الصادر من الزوج أو الاخ أو الاب على أشده في بعض المدن والقرى والارياف العراقية ، وترى الكثير من النسوة العراقيات يعملن في الحقول والبساتين وفي الرعي وفي المصانع وفي الاسواق فيما ازواجهن جالسون في المقاهي وعلى حافات الطرقات والازقة ينتظرون عودتهن كي يظفروا بما تجود به ايديهن من دنانير معدودة، يضاف الى ذلك ان المرأة العراقية وكما قلنا سابقا في المجتمعات الريفية او القبلية تحديدا هي ليست اكثر من كائن ليس له دور في اختيار مصيره او مستقبله لا سيما في موضوع الزواج فتكون رهينة لارادة ابيها فيزوجها من شاء وكيف شاء وبأي (ثمن) شاء ، ويصل الامر في بعض الاحيان الى ان تُزوج المرأة أو الفتاة رغما عنها في حالات زواج (الفصلية) وعندما يرتكب شقيق الفتاة جريمة بحق قبيلة أخرى كأن يكون انتهاك عرض او جريمة قتل فيكون فصل هذه الجريمة هو تزويج شقيقة هذا الرجل الى احد ابناء القبيلة الاخرى ورغما عن أنف هذه الفتاة المسكينة، وبعد زواجها قد يقوم الشخص الذي تزوجها بتطليقها لان الزواج لم يكن الا عبارة عن انتقام قبلي عشائري بين القبيلتين وتكون الفتاة المعنية عبارة عن ضحية لهذا الانتقام القبلي وتصبح بعد ذلك منبوذة من قبل أهلها ومن قبل قبيلتها ؟؟. ليس هذا فحسب بل المرأة العراقية، في القرى والارياف خصوصا، غالبا ما تكون محرومة من حقوقها في التعليم اما لاسباب قبلية بحتة او لاسباب تتعلق بعدم وجود مدارس وجامعات بالقرب من تلك القرى والارياف فيكون اقصى ما تحصل عليه الفتاة في الريف او القرية هو التحصيل الابتدائي وفي بعض الاحيان يستغني أهل الفتاة عن التحصيل الابتدائي ايضا، وفي الريف او القرية قد يصل الامر الى حرمان المرأة من حق التعبير عن رأيها في امور البيت او في تربية الاولاد .
والان دعوني اروي لكم حدثتان شاهدتان على انتهاك الحقوق الذي تتعرض له النساء العراقيات في بعض القرى والارياف وربما حتى في المدن.
ذات مرة وبينما كنت واقفا بانتظار دوري كي ادخل ابنتي المصابة بمرض الانفلونزا للطبيب، جاءت سيارة مسرعة وتوقفت امام عيادة الطبيب ونزلت منها امرأتان كانت احدهما تضع لفافة من القماش على انفها وتولول بينما الدم ينهمر من انف هذه المرأة المسكينة، وبعد نزول المرأتان من السيارة واسرعتا الى الطبيب، قرر سائق السيارة التي نقلت المرأتان الوقوف معنا امام العيادة وبعد تبادل السلام تملكني الفضول فسألت السائق ما بال هذه المرأة التي تضع قطعة القماش على أنفها؟ مالذي حصل لها؟ فأجاب السائق بأن زوجها قد ضربها ضربا مبرحا في الشارع وامام المارة ويبدو انه كسر أنفها واستنجدت بي كي اوصلها الى الطبيب واستطرد السائق الذي بدا عليه التعاطف مع هذه السيدة قائلا انها ليست المرة الاولى التي يضربها زوجها فيها، بل سبق له ان ضربها بقساوة حتى كسر يدها ولم يحرك اهلها ساكنا بالرغم من لوجوئها اليهم في كل مرة يقوم زوجها بضربها.
صورة اخرى من الصور السلبية في التعامل مع المرأة في مجتمعنا أرويها لكم بكل أمانة وصدق وحدثني عنها صديق اسمه محمد0 ومحمد هذا رجل يصدق في قوله وهو في غاية الخلق ، وكان يسكن في قرية تقع في اطراف بغداد. وقال محمد انه كان هناك رجل فقير الحال يسكن في ذات القرية التي يسكن فيها محمد ولدى هذا الرجل عدد من البنات، وفي يوم من الايام فُجعت هذه العائلة المسكينة بأكتشافها ان لدى احدى بناتها علاقة محرمة مع احد الاقرباء وهذه البنت لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها بعد ، وهنا اغتم والد الفتاة وحار من امره، فما الذي يفعله لهذه الفتاة وهي لما تزل صغيرة في السن؟ وكذا الحال القريب صاحب العلاقة المحرمة مع هذه الفتاة فلم يزد سنه عن سن الفتاة ايضا فأخذ والد الفتاة يتوارى عن سكان القرية واخذ الشعور بالعار والخزي مأخذه من هذا الرجل المسكين الا انه كان محبا لابنائه وبناته ولم يهن عليه ان يؤذي ابنته الصغيرة في السن فبقي متحيرا من أمره والشعور بالخجل من ابناء القرية التي يسكن فيها يملأ عقله وقلبه وهنا برز احد اقرباء هذا الرجل وانتخى له بأنه سيقوم بغسل العار الذي لحق بهم ولكن كيف؟ لقد قرر قريب هذا الرجل ان يقتل الفتاة ليقضي على العار الذي لحق بهذه العائلة. واقدم هذا الرجل فعلا على قتل البنت ذات الستة عشر عاما وبطريقة بشعة جدا حيث قام بحرقها اولا وعندما لم تمت قام بضربها بالفأس حتى فارت الحياة، وبعدها قرر والد الفتاة ان يرحل عن القرية ويترك ارضه وبيته وكل ذكرياته الاليمة، فيما بقي الشاب الذي ارتكب الفاحشة مع الفتاة المسكينة حرا طليقا وربما ليبحث عن ضحية اخرى تنتهي الى ذات المصير الذي انتهت اليه الفتاة المسكينة الاولى وادعت العائلة المنكوبة ان شقيق الفتاة هو الذي قتلها فسجن لفترة وجيزة ثم خرج فيما بعد من السجن .
هاتان حالتان وصورتان من صور التعامل مع المرأة في مجتمعنا، وهاتان الحالتان وان كانتا مختلفتان في اسبابهما الا انهما تعكسان صورا سلبية من صور التعامل اللاانساني الذي تعيشه بعض النساء والفتيات العراقيات حتى اليوم في الريف وفي القرية وربما حتى في بعض المدن الكبيرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة مالذي يجب ان نقوم به لمنع القهر والظلم الذي تتعرض له بعض النساء العراقيات اليوم ؟ ومن هي الجهة القادرة على توفير الحماية للمرأة والجواب ببساطة هو ان الجهة الوحيدة القادرة على ذلك هي الدولة عبر مؤسساتها ووزاراتها المعنية بما للدولة من قدرات على توفير هذه الحماية باستعمال صلاحياتها كونها هي الجهة الوحيدة المخولة بحماية شرائح المجتمع المختلفة ومنها النساء ، والمقصود هنا وزارة الدولة لشؤون المرأة ووزارة حقوق الانسان ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي ووزارة الداخلية .
ان تظافر جهود الوزارات المذكورة ضرورة حتمية لغرض حماية المرأة وصون حقوقها ويمكن ان يتحقق ذلك بالاتي:
1- توفير فرص التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي للمرأة ، لا سيما المرأة في القرى والارياف هذه المرأة التي لحق بها حيف كبير في هذا المجال خلال السنوات الماضية بسبب ضعف المؤسسات التعليمية وعدم انشاء المدارس والجامعات خارج المدن الكبيرة نتيجة لانشغال الدولة في حروب ومغامرات النظام السابق ، فضلا عن توفير فرص التعليم للنساء اللواتي فاتتهن فرص التعليم خلال الفترات السابقة عبر برامج محو الامية .
2- توعية وتثقيف المرأة بحقوقها وواجباتها تجاه ذويها وتجاه المجتمع فضلا عن توعيتها بحقوقها وواجباتها الدينية حيث ان الكثير من النساء لا يعرفن ما يتوجب عليهن القيام به لتجنب تعرضهن الى مشكلات امام ذويهن والمجتمع.
3- توعية وتثقيف المجتمع رجالا ونساء بضرورة تحاشي العنف الاسري بين الرجل والمرأة لما لهذا العنف من أثر في تهديم بنية العائلة وتشتيت اعضائها المكونين من الاب والام والابناء حيث ان العائلة هي الوحدة الاساسية في المجتمع وبنائها بشكل سليم سيكون في صالح المجتمع في المحصلة النهائية. وهنا لا بد من الاشارة الى ان توعية وتثقيف المجتمع ليس بالامر السهل لسعة هذا المجتمع وانتشاره ولكن تحقيق هذا الهدف يمكن ان يتم بتظافر جهود وزارات الدولة المعنية التي ذكرناها سابقا وبشكل خاص وزارة الدولة لشؤون المرأة التي يقع على عاتقها الجزء الاكبر من الاهتمام بشؤون المرأة وصون حقوقها وكرامتها ، ويمكن تحقيق هذا الهدف عبر الزيارات الميدانية التي تقوم بها الفرق المتخصصة للعوائل العراقية لا سيما في القرى والارياف حيث يمكن ان تضم هذه الفرق متخصصين في مجالات القانون والاجتماع وعلم النفس وتعمل على توعية العوائل بضرورة التآلف بين اعضاء العائلة الواحدة رجالا ونساء ، امهات واباء ، وضرورة اشاعة جو من الاحترام والتقدير والمحبة والالفة بين اعضاء العائلة الواحدة وبين اعضاء المجتمع ككل انطلاقا من التعاليم السماوية التي اقرتها الديانات السماوية لا سيما ديننا الاسلامي الحنيف . ولا بد من الاشارة الى ان وسائل الاعلام الحكومية وغير الحكومية يمكن ان يكون لها نصيب في بناء العائلة والمجتمع ولكنها بحاجة الى توجيه الوزارات المعنية المذكورة.
4- على الوزارات المعنية لا سيما وزارة الدولة لشؤون المرأة ووزارة حقوق الانسان ووزارة العدل ، حث رجال الدين كي يأخذوا دورهم عبر منابر المساجد والجوامع في توعية المجتمع بضرورة احترام المرأة وصون كرامتها وعدم الاعتداء عليها او انتهاك حقوقها التي كفلتها الشرائع السماوية جميعها، ولا بد من ان يكون التعامل مع المرأة في كل الظروف وفقا لشريعتنا السمحاء وهنا لنا قدوة حسنة الا وهو رسولنا الكريم محمد ابن عبدالله (ص) الذي يُضرب به المثل في احترام المرأة وتقديرها وهو الذي يقول ( رفقا بالقوارير) ، وهو اجمل وارقى ما وُصفت به المرأة حتى يومنا هذا ، وفي حديث اخر يقول نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ( استوصوا بالنساء خيرا) .
واخيرا فأن بناء المرأة وحمايتها وتعليمها ضرورة لازمة لبناء العائلة السليمة، والعائلة السليمة هي الوحدة الاساسية في المجتمع السليم ، فلتتظافر كل الجهود الخيرة من اجل حماية المرأة العراقية والحفاظ على حقوقها .