مأساة الحلاج ؛ هي مأساة ألأنسانيّة؛ هي مأساة كلّ الكون؛هي رسالة (المفكّر ألكونيّ) ألّذي حملَ الأمانةَ فعشق آلوجود فقُتل ..
بعد وشايات عديدة .. إلتقى (حامد بن عباس) وزير ألمُعتصم قاضي بغداد (أبو عمر محمد بن يُوسف), و شهد جمعٌ من علماء بغداد من وعاظ آلسّلاطين ألعباسيين على كفره .. أي (ألحسين بن منصور) ألمُلقّب بـ (الحلاج), و تمّ الحكم بمجرّد إشارة من آلوزير “حامد” على إباحة دم ّ آلحسين بن منصور ألحلاج, ثمّ عرضوا آلأمر على آلخليفة ألعباسي فوافق و إرتضى لطلبهم, فأصدروا بعدها ألحكم النهائي بجلده ألفا سوطاً, فإنْ ماتَ خلالها .. فبها و إلّا فآلشنق و آلذبح!
محنة ألحَلّاج:
تعجّبتُ كثيراً حتّى بكيتُ .. كيف إنّ آلعشاق لا يَحيدُون عن موقفهم و عشقهم لله و ثباتهم إلى أقصى حدٍّ على مبادئهم و حبّهم للحقّ و آلفضيلة .. رغمَ ما يُواجهونهُ من آلأذى و آلخذلان و آلغربة و آلقهر و آلموت بأبشع صوره و لوحدهم وسط جموع الناس!؟
أيّ سرٍّ هذا آلّذي يحويهم فيجعلهم كونيّون .. يَتَحدّون جبروت آلطغاة و آلمستغلين؟
كيفَ يتوفّق هؤلاء آلعظام من نيل تلك المراتب العرفانيّة؟
حتّى تأبى حقيقتهم ألعيش كما آلآخرين .. بآلذّل تحتَ ظلّ ألنفاق و آلتّزوير و آلدّجل و آلتظاهر بآلدّين بل رفض آلحكومات ألظالمة و آلسعي لتثوير آلناس ضدّها عبر ضخّ آلمعلومات و آلحقائق لتوعيتهم, سريرتهم كعلانيتهم, قلوبهم على أكفّهم, كلامهم يُوافق عملهم و هو آلصّواب, لا يستكبرون على أحدٍ, يتألمون لكلّ إنسانٍ مظلوم .. لا يقرّ لهم قرار و لا يرتاح لهم بال مع آلظّلم .. لا يتذوّقون طعم آلرّاحة في آلحياة و غيرهم يُعاني آلجّوع و آلألم و آلحيف, حياتهم بدون آلعشق راكدةً لا معنى لها .. جهادهم من أجل ألحقّ و للحقّ وحدهُ .. مَثَلَهم آلأعلى عليّ(ع) و أبنائهُ آلمظلومين ألشهداء!
حين حَكَمَ طُلاب آلدّنيا على آلحلّاج بآلموت و قدّموهُ للمشنقة بعد ما قضى فترةٍ في آلسّجن؛ جُلِدَ ألفا جلدةٍ بأمر قاضي ألمعتصم ألعبّاسي ألظالم, و كان يبتسم رغم قساوة ألضّربات على جسده الهزيل و لم تُؤثر فيه سوط آلجّلاد ألقويّ قيد أنملةٍ؛ حتّى سألهُ شيخٌ كبير و هو بطريقه إلى منصّة الأعدام:
ما معنى آلعشق؟
قال: سترى آلجوابَ “أليوم” و “غداً” و “بعد غدٍ”؛(أليوم عنى به مقتلهُ, و غداً حرق جسمه, و بعد غدٍ رماداً تذروه آلرّياح)!
ما هي آلرّسالة ألّتي حاول إيصالها إلينا؟
هذا هو بيت ألقصيد في أكبر ملحمةٍ إنسانيّة بعد ملحمة آلأمام ألحسين(ع), تُحتّم علينا ألوقوف عندها و تحليلها!
طلب غُلامه الذي كان يتبعه و قد رافقهُ طويلاً و هو يحثّ آلخطى خلفهُ نحو منصّة الأعدام؛ أنْ يُوصيه كآخر وصيّة من مولاه آلذي تجسّد فيه ألتواضع و آلأخلاص و ألصّدق كلّه و آلمحبة كلّها للفقراء و آلمظلومين؟
أجابهُ: [إشغل نفسك بشيئ, و إلّا ستُشغلكَ نفسك], (لاحظ مدى دقّة و عمق و تناسب ألعبارة مع مستوى غلامه)!
ثمّ سأله إبنهُ أيضاً: أوصني وصيّتك يا أبي آلحنون؟
أجاب: [بينما آلناس و كما ترى يا بُني مُنشغلين بآلأعمال ألمختلفة في هذه آلدّنيا آلحزينة, عليكَ أن تسعى في طلب علم ألحقيقة](1)!
بينما آلحلّاج في طريقه يحثّ آلخُطى مُثقلاً بقيوده وسط آلنّاس .. يُردّد بآلقول؛ [حقٌّ, حقٌّ, حقٌّ], حتّى إستقرّ به آلمقام تحتَ حبل ألمشنقة, فَمَدّ رأسهُ آلشريف و قَبّلَ آلحَبْل و قال: [معراج رجال ألعشق].
أثناء وضع ألحَبْل في عنقه أدار برأسهِ نحو آلقبلة و قال مُناجياً معشوقهٌ: [هو وحده يعرف لِمَ هؤلاء يضعون رأسي في حَبْل ألمشنقة](فآلناس في كلّ ألأزمان يجهلون حقائق ألوجود لقلة ألوعيّ, و صرف جلّ أوقاتهم للكسب ألماديّ كآلبهائم)!؟
سألهُ جمعٌ من مُريديه(طُلّابَهُ) من آلذين شاركوا آلجّموع في حفلِ ألأعدام؛ ما هو حُكْمنا نحنُ و آلناس ألّذين سكتنا أمامَ آلظُلم و لم نتّخذ موقفاً إيجابيّاً, بل و شاركنا آلجموع برمي آلحجارة عليكَ؟
أجابَ: [هؤلاء آلنّاس لهم أجران(حَسَنَتان), و أنتم لكم أجرٌ واحد(حَسَنَة), و آلسّبب هو أنّ عموم ألنّاس يرموني بقوّة توحيدهم و صلابة شريعتهم(أي إنطلاقاً من قوّة ألتّوحيد و تمسّكهم بآلشريعة ألتقليديّة) أمّا أنتُم فترموني مع آلحشر لحُسن ظنّكم (حيث تعتقدونَ أنّ ضربي أولى من آلتّرك) و آلتّوحيد في آلشّرع أصلٌ و حسن ألظّن فرعٌ!].
تَقَدّم إليهِ ألشبليّ(2) و قال للحلّاج: [أَ وَ لَمْ نُنْهِكَ عن ألعالمين؟], و أضاف مُستكبراً:
[فما آلتّصوف يا حلّاج؟]
أجاب: [أقلّ مقامٍ هو هذا آلّذي تراني فيه].
ثمَّ سألهُ آلشبليّ: [ما هو أعلى مقامٍ فيه؟]
أجاب: [أنتَ لا سبيلَ لكَ إليهِ], (أيّ أنتَ لا تستطيع وصولهُ), لِكونِ ألشّبليّ كانَ مُقرّباً من آلبلاط ألعبّاسيّ, رغم إدّعائُهُ للتّصوف و آلعرفان, لذلكَ كانَ يعلم به آلحلّاج أنّهُ كان يعيش صراعاً بينَ (آلحقّ و آلبّاطل) مع شيئ من آلنفاق و كما سَنُبيّنُ ذلك في آخرِ موقفٍ لهُ من آلحلّاج حين حاول إبراء ساحته أمام ألسّلطان ألعباسيّ برمي آلحلّاج بآلحجارة مُعلناً ألبراءة منهُ!
كان كلّ حاضرٍ يرمي آلحلّاج بحجارةٍ, لأرضاء آلحاكمين و آلتّقرب إلى آلخليفة آلعباسي أو آلتخلص من بطشهم على آلأقل و كما يفعل الناس مع الحاكمين, و كان آلحلّاج صامداً كآلجبل ألأشمّ, يتلقّى آلضربات ألمُوجعة بوجهٍ باسمٍ مُنشرح, حتّى رماهُ آلشبليّ بحجارةٍ من طين – ألبعض قال؛ رماهُ بوردة كان يحملها – فتنفّس آلحَلّاج ألصّعداء و تَنَهّدَ من آلألم أمامَ آلمَلأ!
سألهُ آلناس: [ما هذا يا حلّاج, لقد رميناكَ بمئات آلأحجار ألصخريّة و بقسوةٍ .. و لم تتألم .. و لم تَقُلْ شيئاً, بلْ و كنتَ تَبْتَسم .. لكنكَ تَنَهّدتَ و تألّمتَ من (وردةٍ) أو حجارة ألطّين ألّتي رماكَ بها آلشّبلي؟]
قال آلحلّاج: [هؤلاء آلناس لا يفهمون و معذورين على ما فعلوا, لكنيّ تألمت من هذا آلّذي يَعْرفُني و يرميني].
فصمتَ آلنّاس ساعةً يتفكّرون ..
حتّى قطع آلجُّناة ذلك آلصّمت بقطع يَدَيّه, فإبْتَسم و قال متحدياً جبروت العباسيين: [ألحمدُ لله على قطعِ يَدايَ .. ألرَّجُلُ منكُم أيّها آلجّلادون؛ هو ذلك آلّذي يَقْدَر على سلب ما في رأسي و قلبي من صفات ألمحبوب و أسراره؟].
كانت تلك آلعبارة تُمثّل قمّة ألتّحديّ ألّذي تحدّى به ألحلّاج ألطّغاة مُبَيّناً؛ أنّ هذا آلبدن ألمُمزّق ألنّحيف لا شيئ أمامَ آلقلب ألّذي في جوفي لأنّه هو آلأصل في وجود آلأنسان!
ثمّ قطعوا رجليه, و آلأبتسامة لا تُفارق شفتاه و قال:
[بِرِجلايَ هاتان سافرتُ و قطعتُ بهما آلمسافات و طويتُ آلصحاري و آلفلوات على هذه آلأرض ألتي أنتم عليها باحثاً عن الحقيقة, و إعلموا أنّ لي قدماً آخر سأسافر به لِلعالَمَيْن], و أنشدَ يقول:
إقتـلـوني يا ثقــــاتي .. إنّ في قتـلي حيـاتي
و مماتي في حياتـي .. و حيـاتي في مماتي
إنّ عندي محو ذاتي .. من أجل ألمكرمات
و بقائي في صفاتي .. من قبيح ألسّــــيئات
فأقتلوني و إحرقوني .. بعظامي آلفانيــات
ثمّ مُرّوا برفــاتي .. في آلقبور ألدارســات
تجدوا سرّ حبيبي .. في طوايا آلباقيــــات
ثمّ مَسَحَ بِيَداهُ ألمقطوعتانِ و هُما ينضحان دماً على و جههِ و جبينهِ, حتى إحْمَرّتْ وجْنَتاهُ و صورتهُ من آلدّم!
فقال لهُ آلنّاس؛ لِمَ فَعَلتَ هذا يا حلّاج؟
أجاب: [ألصّلاة آلتي يُصَلّيها آلعاشقون لا بُدّ أنْ يكون وضوءهُ بآلدّم].
ثمّ قلعُوا عينيه, فتعالتْ صيحات ألنّاس و عمّ آلضجيج و آلغوغاء بينهم, ألبعض كان يبكي,و بعضهم إستمرّ برمي آلحُصى و آلحجارة عليه, و حين قرّر ألجلّادون قطع لسانه قال:
[إمهلوني لأقول شيئا]: ثمّ وجّهَ وجههُ نحو آلسّماء و قال:
[إلهي لا تُحرمهم – أيّ ألمُتعاطفين – ثوابَ ما يتحملونهُ من أجلي, و لا تُحرمهم – أيّ ألجلادون – نصيبهم من دولتهم هذه, ألحمد لله ألّذي في سبيله قُطعتْ يَدايَ و رِجْلايَ, و لو إنّهم فصلوا رأسي عن جسدي فأنّهُ لا يكون إلّا لكوني سعيتُ لرؤية جمالِ وجهكَ آلكريم يا ربّ].
ثمّ قَطَعَ آلجّلّادون أذُنيهِ و أنفهِ, و كانَ آخر كلماتٍ قالها, هو:
[حبّ آلواحد إقرارُ آلواحد له], ثمّ قرأ آلآية: [يستعْجلُ بها آلذين لا يُؤمنون بها و آلّذين آمنوا مُشفقونَ منها و يعلمونَ أنّها آلحقّ ألاَ إنّ آلّذين يُمارون في آلسّاعة لفي ظلال بعيد](3).
يقول أبو إسحاق ألرّازي؛ عندما كانوا يُريدون شنقهُ كنتُ واقفاً على مقربة منهُ و سمعتهُ يقول: [إلهي أصبحتُ في دار ألرّغائب أنظر إلى آلعجائب, إلهي إنّك تَتَوَدّدُ إلى من يُؤذيك .. فكيف من يُؤذى فيك؟].
ألله .. ألله أكبر على هذا الكلام!
ينقل أحد مشايخ الطريقة قوله: [في آلليلة التي سبقتْ شنق الحلّاج كنتُ نائماً تحت آلشجرة ألتي عُلّق عليه, سمعتُ مُنادياً من آلغيب يقول: (أطْلعناهُ – أيّ الحلّاج – على سرٍّ من أسرارنا فأفشى سرّنا, فهذا جزاءُ منْ يُفشي سرّنا)]. و لهذا علَّقَ حافظ ألشّيرازي على هذه آلحقيقة بأبيات شعرية ترجمتها بآلقول:
حين عُلّقَ ذلك آلعاشق على آلمشنقة .. كان ذنبه أنّه أفشى أسرارنا(4).
هكذا يشتري ألعاشق ألصّادق بروحه و قلبه و كل وجوده وصال آلمعشوق .. حيث لا يكون همّهُ سوى آلوصال, فآلعارف حين يغرق في بحر جمالِ ألمعشوق؛ لا تُؤثر في وجوده كلّ أنواع ألمغريات أو ألتعذيب و آلقهر و آلقتل, و لا تستهويه كلّ ملذّات و شهوات ألدّنيا, إنّهُ كآلفرّاشة ألتي إشترتْ محبّة ألمعشوق بآلرّوح حتّى إشتعلتْ آلحرائق في وجودها.
محنة الحلّاج ألذي كان يُدافع عن ألمظلومين و آلفقراء؛ هي محنة كل المفكريين الثائرين ضد الظلم و الفساد في الأرض .. و ذنبهُ آلعظيم مع آلنّظام ألعبّاسي ألظالم كان بسبب دعوته لأهلِ آلبيت(ع) و للأمام محمد ألمهدي(عج)؛ حيث كان يقول للنّاس: [قريباً سيظهر من طالقان ألدّيلم], و هي إشارة إلى ظهور الأمام آلغائب(عج) لخلاص ألناس, لذلك أُلقي آلقبض عليه و أُقتيدَ إلى بغداد ليلقي ذلك آلمصير ألمأساوي و سط هلاهل و تأييد البغداديين بتهمة ألزندقة و آلكفر .. لتكون ذريعةً للتخلص منهُ, بينما كان هو سيّد ألعرفاء آلموحّدين في زمانه!
فأين بني آلعباس ألمُجرمين؟
و أينَ هذا آلقائد ألمفكر ألكونيّ ألعظيم ألذي رفض تكبّرهم و تسلّطهم و ظلمهم و جاهد ضدّهم في سبيل حقّ آلفقراء و أهل بيت آلله ألطاهرين(ع)!؟
و العاقبة أبداً للمُفكرين ألمُتّقين.
ملاحظة: هذه الهمسة, هي مقطع من بحثٍّ مُفصّل ورد في مؤلّفنا (أسرارٌ في أسفار الوجود), للأطلاع على التفاصيل راجعوا ذلك في الجزء الرابع ج4 ح10.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ألحقيقة في نظر ألحلّاج, هي: حقيقة الأنسان ثم حقيقة أهل ألبيت(ع) ثمّ آلله تعالى, لأنّ تلك آلمعرفة هي آلمعرفة ألوحيدة ألتي تُحقّق في وجود ألأنسان كلّ آلخير و آلسّعادة!
(2) أبو بكر ألشبليّ؛ هو أبو بكر دُلَف بن جَحْدَرْ, و قيل جعفر, كما يُقال: إسمهُ: جعفر بن يونس بحسب ما ورد في طبقات ألصّوفية لأبو عبد آلرّحمن ألسّلمي. و في وفيّات ألأعيان لأبن خلكان؛ ولد آلشبلي سنة 247هـ, و هو خراساني ألأصل, بغدادي ألمولد و آلمنشأ, و قيل إنّ مولده في سامراء, نصبهُ آلخليفة ألعباسي ألمعتصم والياً له في دماوند و هي إحدى ولايات آلرّي, صحب آلجُنيد ألبغدادي شيخ ألعرفاء و ألطريقة ألصوفيّة و غيرهُ, و سنتحدث عن أصدقهم في آلحلقات ألقادمة إنْ شاءَ الله.
(3) سورة ألشورى / 18.
(4) ألنصّ ألفارسي:[ كَفتْ آنْ يار كز أو كشت سردار بلند .. جرمش إين بود كه أسرار هويدا ميكرد].