15 نوفمبر، 2024 3:08 م
Search
Close this search box.

الفكر المتطرّف؛ كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين

الفكر المتطرّف؛ كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين

عرض/محمد الحاج سالم
يركّز جيرالد برونر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ديدرو بباريس، أعماله على المعتقدات الجماعيّة، مهتمّاً بشكل أعمّ بظواهر الإدراك الاجتماعيّة، وهو يرى وجوب اهتمام علم الاجتماع المعرفي بالحالات التي تتعلّق بالتهجين بين الثوابت المعرفيّة، وبين ارتباط الأفكار التي يحملها الفرد بالمتغيّرات الاجتماعيّة، بما في ذلك السياق الثقافي الذي تتمّ فيه.

وقد غطّت أبحاثه موضوعات متنوّعة، مثل إواليّات الانضمام إلى نِحْلة (Secte)(*)، وكيفيّات إدراك المخاطر، ودوافع التطرّف الشديد في المجال الديني أو السياسي… وهو يسعى في أعماله إلى المساهمة في إضفاء طابع شكلاني على مسألة ثبات التمثّلات والمعتقدات وحركيّتها على أساس تجريبي، وذلك من خلال محاولة الإجابة عن هذا السؤال: ما هي السيرورات التي تؤدّي بالأفراد إلى اعتناق معتقدات بعينها أو نبذها؟

وبنشره كتاب إمبراطوريّة المعتقدات (باريس، 2003)، ثمّ حياة المعتقدات الجماعيّة وموتها (باريس، 2006)، أضحى جيرالد برونر شخصيّة بارزة في علم الاجتماع المعرفي، وخاصّة من خلال مساهمته في تطوير النظريّة العامّة للعقلانيّة كما صاغها أستاذه عالم الاجتماع المعروف ريمون بودون (Raymond Boudon). وقد ركّز برونر في كتابيه المنوّه بهما بالخصوص على فكرة أنّ عقلنة المجتمعات الغربيّة لم تؤدّ – ولن تؤدّي – إلى القضاء على المعتقدات، حتّى تلك التي تبدو “مجنونة”. فالفكرة التي تنصّ على أنّ التقدّم العلمي والمعرفي يؤدّي إلى اختفاء المعتقدات الموسومة من قبل الحسّ العامّ بأنّها “بالية” أو “مجنونة”، إنّما تنبع في الواقع من رؤية قديمة خاطئة تصنّف المجتمعات بحسب تطوّر خطّي مزعوم يؤدّي إلى تصنيف المجتمعات إلى مجتمعات “بدائيّة”، تتميّز بنوع من الفكر “ما قبل المنطقي”، وأخرى “حديثة” تتميّز باختفاء تكوينات معرفيّة أو معتقدات معيّنة، أو محكوم عليها بالتلاشي. وقد كان الرأي السائد عند معظم المؤلّفين الحديثين أنّ “الجهل” آخذ في الاضمحلال والتلاشي بشكل متناظر مع تقدّم “المعرفة” وانتشارها، كما تشهد بذلك من بين الكثير، كتابات كلّ من الفيلسوف والأنّاس لوسيان ليفي بريل (Lucien Lévy-Bruhl) ورائد التحليل النفسي سيغموند فرويد (Segmund Freud)، وفيلسوف الوضعيّة أوغست كونت (Auguste Comte).

الفكر المتطرّف

ويأتي كتاب الفكر المتطرّف: كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين الصادر بالفرنسيّة في عام 2009، الذي نقدّمه هنا، مراهناً على رفع التحدّي المتمثّل في تطبيق هذا المنهج على معتقدات المتعصّبين، أولئك الذين نستسهل وصفهم عادة بـ”المجانين”، بما أنّنا نعتقد أنّ أفكارهم وسلوكيّاتهم “غير منطقيّة”.

وقد جاء الكتاب في 348 صفحة من القطع المتوسّط، وينقسم إلى مقدّمة وخاتمة وبينها ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: هل المتطرّفون مجانين؟

الفصل الثاني: كيف يصبح المرء متطرّفاً؟

الفصل الثالث: حلّ لغز التفكير المتطرّف: مفارقة انعدام القياس العقلي.

فإذا انتقلنا إلى المضمون، فإنّ أبرز ما يميّز هذا الكتاب هو صياغة مؤلّفه ترسانة مفاهيميّة تمتح من علوم إنسانيّة مختلفة، ومن ثمّة قولبتها بمهارة كبيرة، كاسراً بذلك الحدود بين الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وهو ما يجعل من هذا الكتاب عرضاً توضيحيّاً للآليّات التي تؤدّي، بطريقة منطقيّة رغم أنّها مرعبة، إلى اعتناق الناس أفكاراً متطرّفة.

إنّه كتاب يكسر الصور النمطيّة عن التطرّف السائدة عند عموم الناس، من قبيل أنّ الفقر هو الأرض الخصبة لتفشّي التطرّف، وأنّ المتطرّفين “مجانين” ومعتقداتهم غير عقلانيّة، وأنّهم يتعرّضون إلى عمليّات “غسل دماغ”، وغيرها من الأفكار الشائعة.

وهو كتاب يدفع قارئه دفعاً إلى التفكّر حول أسئلة جوهريّة تبدو في الظاهر بسيطة من قبيل: ما هو الفكر المتطرّف؟ من هم المتطرّفون؟ كيف يجعلنا الإيمان بمعتقد ننخرط بلا قيد أو شرط في نسق أفكار، يمكن أن يؤدّي بنا إلى التضحية بحياتنا؟

هذه هي جملة الأسئلة المتعلّقة بهذه القضيّة المعقّدة والمتراكبة التي يسعى جيرالد برونر للإجابة عنها، بل هو يتجاوزها لطرح سؤال مهمّ غالباً ما يتكرّر في نقاش مسألة التطرّف، ألا وهو: لماذا لا يختفي التفكير غير العقلاني مع انتشار المعرفة وتطوّر العلم والتكنولوجيا؟

إنّ أكثر معاصرينا لا يتأخّرون في نسبة الانحرافات المتطرّفة التي تملأ عناوينها الصحف العالميّة والمحليّة إمّا إلى الجنون، أو إلى الحرمان الاجتماعي والعاطفي والفكري الذي يُغرق ملايين البشر. لذا، فإنّ الكتاب ينطلق من معاينة ما ينتشر غالباً في وسائل الإعلام وما تتداوله العموم في أحاديثهم الخاصّة من اعتبار هؤلاء المتطرفّين “مجانين” أو أشخاصاً “غير عقلانيّين”، وصلوا إلى ما هم عليهم بسبب “تدنّي مستواهم التعليمي”، و”انسداد آفاقهم ألاقتصاديّة”، والحال أنّنا نجد نفس النسبة تقريباً من الناس غير المتطرّفين تشاركهم نفس هذه الخصائص. لذا جعل هذا الكتاب هدفه الأكبر البرهنة على أنّ المتطرّفين ليسوا مجانين، أو مرضى عقليّاً، أو كائنات غير عقلانيّة، أو جهلة، أو فقراء، وبيان أنّهم ينحدرون في الغالب من الطبقات العليا وعلى مستوى عالٍ من التعليم(**) إلخ… وذلك مع حذر شديد من الوقوع في ما يسمّيه الكاتب “التواطؤ الفكري” أو “النسبويّة” (وهو مفهوم أطال المؤلّف النقاش بشأنه على طول الكتاب). فواقع الحال، وهذا ما يذكّرنا به المؤلّف، يبيّن أنّ الفكر المتطرّف غالباً ما يكون منتشراً عند شريحة المتعلّمين المنحدرين من أوساط اجتماعيّة متجانسة إلى حدّ معقول ولا تعاني بشكل كبير من الفقر المدقع، أي باختصار، من نعتبرهم “أناساً عاديّين”.

ولحلّ هذا اللغز وتجاوز المفاهيم الخاطئة، يستكشف برونر المواقف المتطرّفة والمتعصّبة بجميع أنواعها، من جهاديّي تنظيم القاعدة، إلى هواة التجميع القهري للعاديّات والصور الفوتوغرافيّة والأشياء المستعملة، إلى عاشقي بعض الفنّانين المعاصرين، في عرض واضح وبسيط لمعظم المعطيات البحثيّة المعاصرة الخاصّة بهذه الظاهرة.

نحن نعيش مجتمعات اعتقاد

يرى برونر أنّه “مهما كان التقدّم المحرز في المعرفة الإنسانية، فإنّ الفرد يظلّ ما كان عليه دائماً؛ أي فرداً محدود القدرات على المعرفة بحدود لا يمكنه تجاوزها، ولا إمكانيّة لأيّة علاقة للإنسان مع العالم إلاّ بطريقتين: المعرفة أو الاعتقاد” (ص 96).

وفي الواقع، فإنّ أذهاننا محدودة، وهذا هو السبب في أنّنا لن كون أبداً كائنات عاقلة محضاً. وبعبارة أخرى، فإنّ الحدّ المفروض على تفكيرنا يمنعنا من أن نكون كلّيي العلم، ويجعل منّا بصفة آليّة كائنات مؤمنة. وهذا الحدّ المفروض هو من طبيعة ثلاثيّة مزدوجة. أوّلاً، عقولنا محدودة الأبعاد، لأنّ وعينا منحصر في مساحة محدودة وحاضر أبدي، وهو ما يمنعنا في كثير من الأحيان من الوصول إلى المعلومة الضروريّة لإصدار حكم متوازن. وعلاوة على ذلك، فهو محدود أيضاً ثقافيّا، لأنّه يفسّر المعلومات على أساس تمثّلات سابقة. وأخيراً، فهو محدود معرفيّاً لأنّ قدرتنا على معالجة المعلومات ليست لانهائيّة، ولأنّ تعقّد بعض المسائل يتجاوز إمكانيّات الحسّ السليم لدينا.

ولأنّ هذه السمات الثلاث هي خصائص إناسيّة للفكر، فإنّ “مجتمعاتنا ستظلّ مجتمعات اعتقاد، بغضّ النظر عن حالة تطوّر المعرفة الإنسانيّة” (ص 88). ولهذا السبب أيضا، فإنّ المعتقدات التي نسمّيها “متطرّفة” لن تختفي من أفق عالمنا المعاصر. فالأفراد “المتطرّفون” والجماعات “المتطرّفة” التي يشكّلونها، ليسوا وحوشاً غير عقلانيّة، بقدر ما هم منطقيّون للغاية، ما داموا – مثل جميع البشر – محكومين بحدود المعرفة واتّساع المراد إدراكه.

فمن هو المتطرّف؟

ابتداءً، يصف جيرالد برونر المتطرّفين بأنّهم أفراد قادرون على “التضحية بأثمن ما عندهم (وظائفهم، حرّيتهم…)، ولاسيّما حياتهم، وفي كثير من الحالات حيوات الآخرين أيضاً، باسم فكرة” (ص 91). وبهذا يمكن إطلاق صفة التطرّف على الأعضاء الانتحاريّين داخل نِحْلة، والانتحاريّين الإسلامويّين، والفنّانين المستعدّين للمخاطرة بحياتهم في سبيل الفنّ…

وانطلاقاً من هذه الخريطة العامّة للتطرّف، يستخرج برونر نظريّة عامّة جريئة للفكر الراديكالي، ويساعدنا بالتالي على كشف واحدة من أكثر المسائل خطورة وتعقيداً في عالمنا المعاصر. فالتطرّف لا يكون إلاّ نتيجة اعتقاد جازم في صحّة فكرة وجدارتها. والاعتقاد حسب كاتبنا، يمكننا تعريفه في ذات الوقت من خلال مضمون (فكرة) ومن خلال علاقة الشخص بذاك المضمون، أي الالتزام بفكرة بدرجة أو أخرى، ويكون ذلك – حسب الكاتب – إمّا عبر:

الانتماء بالوراثة، وهو ما يسهّل الانحباس داخل سجن معرفي أقلّوي (ص 236). ذلك أنّ الانتماء يكون أسهل حين يكون المحيط الاجتماعي مشجّعاً عليه من حيث انتماء عائلة المرء مثلاً إلى نِحْلة، وهو ما يدخل في باب التشريط الثقافي والتنشئة الاجتماعيّة، إذ من شأن العلاقات الاجتماعيّة المغلقة أن تحدّ من اختياراتنا، وتقوّي رغبتنا في الانتماء إلى جماعة، وإن كانت متخيّلة (الفرقة الناجية مثلاً).
الانتماء بالإحباط؛ أي بدافع اليأس من عالم خارجيّ معادٍ. فلئن كان الشعور بالإحباط أحياناً ذا عواقب إيجابيّة إذ يمكنه، على سبيل المثال، دفع الأفراد للتغلّب عليه وتحقيق تطلّعاتهم؛ إلاّ أنّه قد يؤدّي أيضاً إلى الشعور بالاستياء والاعتقاد بأنّهم يستحقّون أفضل ممّا هم عليه، وهو ما يمكن أن يخلق قوّة مدمرّة. وقد يغدو الأمر أكثر خطراً حين تتجمّع هذه الإحباطات الفرديّة وتلهم حركة دعويّة يمكن أن تكون عنيفة بفعل حركة المقاومة التي قد تجابهها من النظام الاجتماعي السائد (ص 251).
الانتماء بالكشف/الانكشاف، وهو نادر الحدوث قياساً بنوعيّتي الانتماء السابقين. إلاّ أنّه قد يحدث لبعض العقول المستعدّة لذلك، أن تدخل دورة الاعتقادات المتطرّفة نتيجة حادث عارض، قد يكون سعيداً أو غير سعيد، فتفسّره كما لو كان قدراً إلهيّاً حوّل مسار حياتهم، ويدعوهم إلى اعتناق فكرة تجد أساسها في تلك الإشارة الربانيّة، ومن هنا الانزلاق إلى منحدر الاعتقاد، والانعزال عن المجتمع، ومن ثمّة البحث عن انتماء لجماعة تقاسمهم ذات الفكرة (ص 268).
أمّا خصوصيّة الفكر المتطرّف، فتتمثّل في أنّه “التزام راديكالي بفكرة راديكاليّة” (ص 210). والنتيجة هي أنّ الأفكار المتطرّفة، إمّا هي ضعيفة الانتقال بين الذوات (faiblement transsubjectives)؛ أي أنّها لا تنتشر إلاّ في صفوف عدد محدود من الناس، لأنّهم يرونها غير مقنعة ولا تتماشى مع الواقع، أو لأنّها “معتلّة اجتماعيّاً” (sociopathiques). إنّها “قيم ومعتقدات ذات شحنة صراعيّة، تؤدّي إذا ما تمّ الالتزام بها في منطقها الكلّي… إلى عدم قدرة بعض الناس على العيش مع الآخرين” (ص 239)؛ أي أنّها لا تقبل رؤى أخرى للعالم مخالفة لها، أو أنّها تجمع، في أشكالها الأكثر خطورة، بين كلتا الخاصيّتين. فالتطرّف، باختصار هو “الالتزام غير المشروط بمعتقدات ضعيفة الانتقال بين الذوات و/أو تتضمّن إمكانيّة اعتلال اجتماعي” (ص 248). ومن هنا ثلاثة أنواع من المتطرّفين حسب التدرّج:

متطرفّون ذوو معتقدات منخفضة الانتقال بين الذوات ومنخفضة الاعتلال الاجتماعي (مثل هواة التجميع القهري للعاديّات، المولعون بالأطباق الطائرة، الأصوليّون الدينيّون غير التوسعيّين الذين قد تؤدّي قناعاتهم إلى تعريض حياتهم للخطر ولكن ليس حياة الآخرين).
ومتطرّفون ذوو معتقدات قابلة للانتقال بين الذوات ومعتلّة اجتماعيّاً (حركات عنيفة، ولكنّها “مفهومة” من قبل الكثيرين، مثل حركات المقاومة الوطنيّة المتطرّفة، حركة حقوق الحيوان، الخ).
وأخيراً، متطرّفون ذوو معتقدات منخفضة الانتقال بين الذوات وشديدة الاعتلال الاجتماعي (أعضاء النِّحَل الذين ينتحرون جماعيّاً، الإرهابيّون الانتحاريّون؛ أي العنيفون “غير المفهومين”).
أشكال التطرّف

بناءً على تصنيف المتطرّفين حسب نوعيّة المعتقد، يختزل الكاتب رؤيته لأشكال التطرّف في هذا الجدول (ص 208 وما بعدها):

معتقدات قليلة الانتقال بين الذوات
معتقدات قابلة نسبيّاً للانتقال بين الذوات

معتقدات قليلة الاعتلال الاجتماعي
فكر عادي

جامعو العاديّات المتطرّفون، الفنّ، الأصوليّة،

الطوائف…

معتقدات شديدة الاعتلال الاجتماعي
المساواتيّة، الإيكولوجيا العميقة، الكفاح من أجل الاستقلال…

النِّحَل، الإرهاب الإسلاموي، الصهيونيّة

المسيحانيّة…

تحدّد الخانة الأولى من الجدول الانتماءات القيميّة التي تميّز الفرد “العادي”؛ فهو لا يتبنّى دون قيد أو شرط إلاّ قيماً شديدة الانتقال بين الذوات وضعيفة الاعتلال الاجتماعي (إدانة التعذيب والاغتصاب، والاحتلال، وما إلى ذلك).

وتتعلّق الخانة الثانية بصنف من المتطرّفين ممّن يثير في الغالب الابتسام بدلاً من الرهبة، مثل “مجانين” الفنّانين ممّن يفضّل إنفاق ماله على فنّان على حساب احتياجات أسرته، أو المنتمين إلى نِحَل تروّج لأفكار تبدو بلا معنى لمعظمنا (كمن يعتقد مثلاً في قيام سكّان الكواكب الأخرى باختطاف البشر لدراستهم في مختبرات أو كشف أسرار الكون لهم).

وتتضمّن الخانة الثالثة المتطرّفين الذين يدافعون دون قيد أو شرط عن قيم قابلة نسبيّاً للانتقال بين الذوات، مثل الدفاع عن التوزيع المتساوى للثروة، والإرادة لوقف قتل أنواع معينة من الحيوانات، إلخ… ولكنّهم يستخلصون منها استنتاجات عمليّة لا تقبلها الفطرة السليمة، لأنّها معتلّة اجتماعيّاً، مثل المجازر بحقّ المدنيّين، وقتل المعارضين، وقتل أبرياء خلال عمليّات حروب التحرير. أمّا إذا تمّ الحرص على تجنيب المدنيّين ويلات القتل والتشريد، فإنّنا نخرج بذلك من إطار التطرف؛ ذلك أنّ الأفراد العاديّين يتصوّرون أنّهم سيفعلون نفس الشيء دفاعاً عن أرضهم.

أمّا الخانة الرابعة من الجدول، فتشير إلى المتطرّفين الأكثر وضوحاً، أولئك الذين غالباً ما تتصدّر أخبارهم عناوين الصحف. ويشمل هذا الصنف أعضاء النِّحَل الأكثر نشاطاً مثل طائفة أوم (Aum)، وأعضاء تنظيم القاعدة، والمنظّمة الصهيونيّة المسيحانيّة “إيال” (Eyal)، إلخ… وما يجمعهم هو تبنّي قيم ضعيفة الانتقال بين الذوات ومعتلّة اجتماعيّاً دون قيد أو شرط. ومثل هذه الجماعات هي التي نتذكّرها عادة حين يُذكر مصطلح “التطرّف”.

كيف يصبح المرء متطرّفاً؟

يرى برونر أنّ راديكاليّة الفكر المتطرّف لا تمثّل سوى نقطة الذروة القصوى- التي نادراً ما يتمّ بلوغها – ضمن عمليّة اعتناق أفكار محدّدة بطريقة تدريجيّة وعقلانيّة، حيث “كلّ خطوة تدفع الفرد إلى التفكير المتطرّف، ولكنّ كلّ خطوة منها، إذا نظرنا إليها على حدة، يمكن اعتبارها بلا شكّ معقولة” (ص 36). وبهذا، فإنّه يمكننا مثلاً فهم دوافع الناشط الصهيوني المتطرّف الذي اغتال إسحاق رابين في عام 1995، حين قدّم استدلالاً صارماً في منطقيّته في تبرير ما قام به: يخضع اليهودي التقيّ لإرادة الله؛ إرادة الله تنطق بها التوراة؛ ووفقاً للتوراة، فقد أعطى الله الأرض المقدّسة لليهود؛ وكلّ من يعارض الاستيطان إنّما يعارض مشيئة الله ويجب محاربته بجميع الوسائل، بما فيها استخدام العنف كما تبرّره التوراة. وبالمثل، يعتقد أتباع تنظيم القاعدة أنّ المسلمين يتعرّضون للاضطهاد من قبل أعداء الإسلام، وأنّ القرآن يدعو المسلمين لجهادهم، وأنّ الأعداء هم الأمريكان وحلفاؤهم (وليس فقط حكّامهم)، وبالتالي، فإنّ العنف ضدّ جميع الأمريكيّين أو الأوروبيّين يغدو مبرّراً وشرعيّاً ولا شبهة فيه.

ولئن كان الفكر العادي يقبل بوجود تناقضات بين المعتقدات المتعايشة داخل عقولنا أو في مجتمعنا، فإنّ الفكر المتطرّف لا يقبل بها وينبذها، ويبني بالمقابل عقيدة متماسكة “نقيّة”، متجانسة ومانويّة. فبالنسبة للفكر المتطرّف، فإنّه لا مجال لحلول وسطى أو لأيّ توافق.

وبما أنّ “البحث عن الاتساق والتنفيذ غير المشروط لبعض المقدّمات المنطقيّة يؤدّيان بسهولة إلى أشكال من التطرّف… فإنّ حجّة النقاء والتماسك العقائدي تتحوّل… إلى درع واقٍ يحمي المتطرّفين من عالم يعتقدون أنّ لديهم أسباب وجيهة لكرهه أو احتقاره” (ص 79)، فإنّ سعي المتطرّفين، متديّنين كانوا أم مؤمنين بسكّان الكواكب الأخرى، إنّما هو البحث عن علامات تؤكّد معتقداتهم بدلاً من تلك التي قد تدحضها، وذلك تبعاً لآليّة “التحيّز المعرفي” المعروفة في علم النفس الاجتماعي. وكما نعلم، فإنّ الطبيعة تخشى الفراغ، ولذلك يعتمد الأداء النفسي الأساسي لدينا على “انحرافات التحيّز” الفعّالة جدّاً من أجل “تنظيف” عقولنا من تناقضاتها. وهذه هي “آليّة التوضيح المعرفيّة” الكلاسيكيّة.

إلاّ أنّ هذا التبرير لعقلانيّة التفكير المتطرّف لا يعني بأيّ حال عدم الدفاع عن “العقلانيّة” في معناها المطلق، إذ يُشير المؤلّف إلى وجود ما أسماه “أسباباً وجيهة” تدعونا إلى رفض فكرة أن تكون السلوكيّات المتطرفّة عقلانيّة، معتبراً أنّ “تفهّمها يعني التواطؤ مع الإرهاب، أو الاعتراف بأنّ الخطأ كامن فينا”، ذلك أنّ تفهّمها لا يخرج في جميع الحالات من كونه دعوة إلى الاعتراف بـ”قيم” الإرهابيّين. إنّنا هنا إزاء موقف أقلّ ما يُقال فيه إنّه قيمي، إن لم نقل إنّه ناتج عن خوف ذاتي غير مبرّر من تهمة “الاصطفاف”، أو ما بات يُعرف في بعض الكتابات الصحفيّة الهزيلة بتهمة “تبييض الإرهاب”! فالكاتب لا يلبث أن يدعونا – مع ذلك، أو رغم ذلك – إلى قبول فكرة أنّ التطرّف يفي بمعايير العقلانيّة، فالفكر المتطرّف “يبسط معتقدات متماسكة… ويقترح وسائل متلائمة مع المقاصد المتوخّاة” (ص 61)، بل إنّ الكاتب يرى أنّ “الفكر المتطرّف لا يشكو من نقص في المنطق، بل في إفراط فيه”. ومن هنا، يهرب من جهد تفهمّ الشخص المتطرّف ودوافعه خشية أن يُوصم بالتعاطف معه، إلى بيان استراتيجيّات فعله، حيث يشير المؤلف إلى أنّ “المشكلة مع المتطرّف تكمن هنا، فهو يدعو من هم أقلّ منه انفعالاً ولكنّهم يشتركون معه في نفس القيم ونفس المعتقدات، من خلال أفعاله وما يوجّهه إليهم من لوم وذمّ، إلى التقيّد بها” (ص 95). فمن خلال تبنّي مقولة “الغاية تبرّر الوسيلة” التي يؤمن بها جميع المتعصّبين، فإنّ هؤلاء ينشئون تسلسلاً هرميّاً مطلقاً لقيمهم لا يجوز المساس به، فهم “لا ينكرون الشرّ، بل يعتقدون أنّه يحقّ لهم فعله” (ص 269). فإذا كان الأمر على هذا النحو، فما وجه قول الكاتب “إنّنا نضع، في التفكير العادي، قيمنا “في الميزان” حسب ما تقتضيه الوضعيّات، فيمكننا مثلاً الكذب لإنقاذ حياة، أو تناول طعام يحرّمه الدين من أجل البقاء؛ أي أنّنا بعبارة أخرى، نستخدم القيم استخداماً نسبيّاً ومشروطاً”(ص 304)؟ ألسنا نضع التفكير العادي المنطقي و”المحمود” لمنفعيّته وتناغمه مع الواقع، مقابل تفكير منطقي متطرّف “مذموم” ومأزوم، لأنّه ثائر على الواقع؟ في هذه الحالة، ألا تكون المنطقيّة المفرطة هي سبب التطرّف؟

لا يتأخّر الكاتب عن الجواب، إذ يشير بسرعة إلى أنّ المتعصّبين، على عكس ما يقتضيه التفكير العادي، يلتزمون ببعض المعتقدات دون قيد أو شرط، وهو ما يؤدّي بهم إلى حالة “انعدام قياس عقلي”؛ أي إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار أيّ نظام قيم مخالف لنظام قيمهم؛ أي أنّ المتطرّفين باختصار، يرفضون “المعتقدات التي لا يمكن أن تُسهم في تمتين روابط الحياة الاجتماعيّة” (ص 307). فالمسألة إذن، ليست مسألة منطقيّة التفكير عند المتطرّفين بقدر ما هي مسألة التزام ببعض الأفكار التي يثبت عدم تناغمها مع مقتضيات الواقع. ومن هنا، يغدو التطرّف تطرّفاً في إضفاء المنطقيّة على تفكير يُفترض ألا يتجاوز حدّاً معيّناً من التماسك المنطقي، وأن يكون ليّناً بما يكفي، كي لا يتصلّب ويغدو مستهجناً من قبل عموم الناس.

التطرّف: عقلانية أداتيّة متضخّمة

إنّ المتطرّفين متطرّفون في عقلانيّتهم، وهي عقلانيّة أداتيّة فعّالة وقويّة تؤدّي إلى اعتماد مقولة “الغاية تبرّر الوسيلة”؛ أي تلك المقولة التي نجدها في تعاليم منظّري الثورة الأمميّة أو في تعاليم الإيكولوجيا العميقة، كما عند الفنّان الياباني الذي انتحر كي يحقّق أعظم عمل فنّي في “حياته” بالقفز من مبنى عالٍ على لوحة من قماش. هنا، تبدو الفكرة غير مهمّة قدر أهميّة الغاية، سواء كانت فكرة الثورة أو الطبيعة أو الأرض أو الفنّ، فالمهمّ هو النتيجة سواء كانت جنّة الفردوس عند الإرهابي الذي يفجّر نفسه أو جنّة ديكتاتورية البروليتاريا عند اليساري المتطرّف الذي يقدّم نفسه فداءً للفكرة. إنّه محض حساب عقلاني.

لكن لسائل أن يسأل: إذا كانت الغاية تبرّر الوسلية، فهل تبرّر هذه المقولة بالمقابل التعسّف على شخص من أجل ردّه إلى مسارات المنطق العادي؟

يجيب الكاتب بأنّه توجد حالتان على الأقلّ تستحقّ التنويه؛ أولاهما “تلك التي لا يشكّل المتطرّف أيّ خطر، سواء على نفسه أو على الآخرين. فهو يعتقد دون قيد أو شرط في أشياء غريبة، لكنّه لا يؤذي أحداً. وفي هذه الحالة، لماذا نفرض عليه ما يجب أن تكون عليه رؤيته للعالم؟ فما اختاره قد لا يرضينا، ولكنّه يجعله سعيداً، وعلينا أن نتفهّم تفضيل كثير من الناس السعادة على الحقيقة” (ص 323). أمّا الحالة الثانية، فهي “تلك التي يشكّل فيها المتطرّف تهديداً”. وهنا يكون السؤال الأخلاقي مختلف جدّاً؛ فهل يمكننا مثلاً أن نسمح بالتلاعب النفسي ضدّ من يتحدّى أسس الديمقراطيّة؟ أليس في ذلك خيانة للمثل الديمقراطيّة حول حرّية الفكر؟ ألا نكون بذلك مرّة أخرى أمام سؤال: هل الغاية تبرّر الوسيلة؟

يرى الكاتب بخصوص هذه الحالة أنّه “ليس للعلم أن يحسم في هذا النوع من المسائل، وأنّ على دعاة الدفاع عن الديمقراطيّة طرحها على أنفسهم. فإلى أيّ مدى يمكنهم الدفاع عن نظامهم؟ فأن يرفض الديمقراطي التخلّي عن التطرّف الديمقراطي، فهذه هي وستظلّ دائماً، نقطة ضعف الديمقراطيّات كما يعرف ذلك المتطرّفون جيّداً” (ص 324).

الفكر المتطرّف والفنّ المعاصر

إنصافاً للكاتب، يجب التنويه بأنّه نجح في استخراج أوجه الشبه بين ظواهر متباينة مثل الفنّ المعاصر، وبعض الطوائف النحليّة، وإرهاب اليسار المتطرّف من طراز بادر ماينهوف في ألمانيا أو حركة العمل المباشر في فرنسا، أو تنظيم القاعدة…وذلك دون السقوط في تبسيط مصطنع؛ فهو يرى في جميع هذه الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة حاجة الأفراد إلى البروز والتألّق، والحال أنّهم محكوم عليهم بالرداءة أو العبث في نظام ديمقراطي غربي قائم على الجدارة الفرديّة. ولعلّ من شأن هذا التحليل أن يذكّرنا بمقولة “آخر الرجال” عند نيتشه، ذاك الضائع في خضمّ الحداثة الديمقراطيّة والاستهلاكيّة، مثيل حبّة الرمل البسيطة ضمن مليارات من حبّات الرمال الأخرى التافهة. لكنّ الأصالة الحقيقيّة لتحليل برونر تأتي من تحليله الفنّ المعاصر في ضوء طروحات الفيلسوف ألكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville). فـ “حين نفكّر في بعض الإنتاجات الأكثر راديكاليّة في الفنّ المعاصر، فإنّه لا مناص من تذكّر لوحة (القُدّاس من أجل جسد) للفرنسي ميشال جورنياك (Michel Journiac) الذي قدّم في عام 1969 للجمهور أكلة من شرائح السَّجَق المصنوعة من دمه…” (ص 193). وهنا، “يتعلّق الأمر بإفراغ العمل الفني ممّا يمكن أن يعبّر عن فردانيّة الفنان وطريقته في التعبير” (ص 195). وبهذا يتحوّل تاريخ الفنّ “إلى تاريخ تجاوزات، تجاوزات من الدرجة الثانية، تلك التي لا تتّخذ الجماليّة التقليديّة مرجعيّة لها (كما فعل الانطباعيّون)، ولا حتّى تاريخ الفنّ الحديث (مثلما فعل الرسّام الفرنسي مارسيل ديشان Marcel Duchamp بعد 1912)، بل تاريخ الفنّ المعاصر” (ص 196). وبالطّبع، فإنّ النقّاد يجدون أنفسهم في هذه الوضعيّة أمام ضرورة إدماج التعدّيات ضمن الحركة الطبيعيّة لتطوّر الفنّ المعاصر، ليكون “ثمن الإدماج هو إلغاء تأثير عدوان الطليعة الفنيّة، وضمان استيعاب ذاك العدوان ضمن الثقافة البصريّة، وهو ما يدفع الفنّانين مجدّداً وبالضرورة إلى القيام باعتداءات جديدة أكثر راديكاليّة. وبذلك، ندخل في دوّامة لعبة المراوحة بين العدوان، وردّ الفعل والإدماج، وهو ما نشهده اليوم… وفي هذا الاستكشاف المقنّن لحدود القبول الفنّي، الذي يتحدّى النقّاد ويجعلهم كلّ مرّة في وضعيّة المتأخّر، فإنّ أيّ “صدمة” طليعيّة تغدو تحديّاً للنقد الفنّي صانع الشرعيّة الذي يجد نفسه، بدوره، أمام ضرورة رفع التحدّي. وبهذا، فإنّ المتخصّصين الأكثر تقدّماً، حين يسمحون بالعدوان، فإنّهم يضطرّون الفنّانين إلى اجتراح عدوان جديد” (ص 198)… و”إذا ما وصل الفنّ المعاصر إلى هذه النقطة، فما ذاك إلاّ لأنّه تسلّق درجات سلّم غير مرئي، هو سلّم التطرّف” (ص 201).

إنّ برونر يعطينا الأدوات المفاهيميّة لفهم عدميّة الفنّ المعاصر “الطليعي” من داخله، خاصّة وأنّه فنّ مؤسّسي، نخبوي وبورجوازي، رغم ادّعائه الثوريّة والتجديد و”القطيعة”. وفي خضمّ ما نسمعه حول موت الحركات الطليعيّة، إلاّ أنّ المواقف والأعراف والشبكات ما تزال قائمة، وتبتعد يوماً بعد يوم عن الفرد العادي، بفعل ما نشهده من تطرّف متزايد في التعبيرات الفنيّة (بما في ذلك السينما وضروب الموسيقى الصاخبة بالخصوص).

التطرّف: موقف هشّ سهل الانكسار

مهما يكن من أمر، فإنّ من ميزات هذا الكتاب، أنّ مؤلّفه تساءل في فصله الأخير حول “كيفيّة تغيير وجهة نظر المتطرّف” (ص 309). وللإجابة عن هذا السؤال، يشير المؤلّف إلى أنّ الموقف المتعصّب، مهما كان متشدّداً، يبقى مع ذلك هشّاً ومؤقّتاً في الغالب: فنحن لا نولد متعصّبين، بل نغدو كذلك، ونحن لا نبقى متعصّبين طوال حياتنا. ولعلّ أحسن مثال على ذلك تراجع أعضاء جماعة بادر ماينهوف الألمانيّة، والألوية الحمراء في إيطاليا وتخلّيها عن أفكارها المتطرّفة بشأن المجتمع الرأسمالي وضرورة محاربته وكسر شوكة الامبرياليّة (نضيف إليها ما اصطلح عليه بالمراجعات في صفوف عدد من قيادات الحركات الجهاديّة في ديار الإسلام، وإن كانت تمّت في غالبها داخل زنازين السجون)، بل إنّ كاتبنا يرى أنّ المسارات التي تؤدّي بنا إلى التطرّف يمكننا سلوكها في الاتّجاه المعاكس، وذلك شرط ظهور بوادر الشكّ، أوّلاً في العناصر المحيطيّة للمعتقدات، وهي التي تسمح في الغالب بالتطرّف، ثمّ ببروز “تنافس معرفي” بين القيم المتطرّفة وغيرها من القيم، وهو ما يمهّد لاستعادة التواصل الاجتماعي بوصفه الحلّ لمواجهة السجن الطائفي، ومن هنا اختفاء مشاعر الإحباط التي كانت دافعة نحو الالتزام المتعصبّ. وقد يكفي الاطّلاع على هذا الفصل كي نتبيّن قيمة عمل جيرالد برونر في نظر المهتمّين بالمعتقدات بشكل عامّ، وخاصّة منهم المهتمّون بمسائل التطرّف الديني أو السياسي وبالانحرافات الطائفيّة وكيفيّات معالجتها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة