15 نوفمبر، 2024 1:04 م
Search
Close this search box.

تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث

تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث

عرض/  سمير سعيفان
الكتاب: تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث
تأليف: رايموند هنيبوش: كاتب سياسي إسكتلندي يساري بارز، يشغل الآن موقع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سانت أندروز في إسكتلندا ويرأس (مركز دراسات سورية) في الجامعة. له عدد من الكتب والدراسات ومقالات الرأي حول الشرق الأوسط وخصوصًا سورية، وقد أمضى هنيبوش مددًا غير قصيرة في سورية في أواسط سبعينيات القرن الماضي وهو يحضر رسالة عن سورية وتكوين السلطة البعثية فيها، وفي سورية التقى بزوجته اليابانية.

ترجمة: حازم نهار

الناشر: دار رياض نجيب الريس

مكان النشر: لندن

تاريخ النشر: تشرين الثاني/ نوفمبر 2014

المحتويات

أولًا: خلاصة نظرية

أزمة النظام التقليدي

ثانيًا: تشكل نظام البعث والاستيلاء على السلطة

طرائق مقاومة بقايا السلطة القديمة

ثالثًا: الصراعات داخل سلطة البعث

توطيد سلطة البعث

رابعًا: كيف رأى هنيبوش شخصية حافظ الأسد؟

خامسًا- أعمدة السلطة في الدولة: الجيش، الحزب، البيروقراطية

الجيش ومعه الأمن
حزب البعث
الدور السياسي للبيروقراطية
سادسًا: ربط الدولة بالمجتمع، حالة اتحاد الفلاحين

السياسات الريفية والتحدي الاجتماعي وانخراط الفلاحين

قرية جبال العلويين قرب بلدة الشيخ بدر

قرية في الرقة على ضفاف الفرات

سابعًا: تحول القرية السورية في ظل البعث

نظرة عامة إلى تجربة البعث

أولًا: خلاصة نظرية

يقدم هنيبوش في الفصل الأول من الكتاب تنظيرًا عامًا لسلطة البعث، يمثّل خلاصة الكتاب. ويستخلص من دراسته الحالة السورية، وما جرى فيها في مدى ثلاثة عقود من حكم البعث (صدر الكتاب بنسخته الإنكليزية سنة 1990)، ويرى أنه «إذا حصلت مجموعة أقلية معينة، بفضل تعبئتها السابقة على غيرها، على موقع سياسي مهيمن، واستخدمته لاستبعاد الجماعات الأخرى، فمن المحتمل أن تعود الهويات الكامنة ويتأكل التحالف الطبقي الشعبوي ويتجزأ. إن مزيج الانتفاضة الشعبوية والسياسات الطائفية في الحالة السورية يوحي بأنها من هذه الحالات المعقدة»([1]). ويرى أن (الشعبوية الاستبدادية) هي «فرعٌ مميزٌ من الاستبدادية»([2])، ويعرض سماتها العامة، ويرى أنها «تتسم بتركيز سلطة صنع القرار بأيدي نخبة صغيرة، غالبًا ما يرأسها قائدٌ عسكريٌ يحكم بدعمٍ من الجيش، من خلال البيروقراطية»، ويرى أنه «يجب تمييز الأنظمة الاستبدادية من خلال المصالح الاجتماعية المحددة التي تشكل توجههم الأيديولوجي»([3])، وعلى الرغم من أن هنيبوش يرى أن نظام البعث هو (ثورة من فوق)، وأنه مؤسسة لها أيديولوجيا، غير أنه يَصِفْ حكم البعث في سورية بأنه (حكم ملكي رئاسي).

يحدد هنيبوش الشروط التي تجعل الجمع بين انقلاب عسكري وانتفاضة فلاحية «بالتغلغل الإمبريالي الذي يمنع قيام رأسمالية وطنية مستقلة»([4]) ومشكلات التنمية المتأخرة التي تدفع الطبقات الوسطى نحو الراديكالية التي تصل إلى ضباط الجيش، وخصوصًا إن كانوا من أصول فقيرة وهامشية في المجتمع، وتدفع بالفلاحين الذين لحق بهم الظلم إلى مراكمة شعورهم بالغضب، وقد ترافق هذا مع تحريض فئاتٍ تحمل أفكارًا راديكاليةً، وتوفر قيادةً تحوّل الغضب الفلاحي إلى تعبئة سياسية، ومن جانب آخر فشل النظام السياسي الهش القائم وإخفاقه في إفساح المجال أمام التغيير.

يرى هنيبوش أنه في الحالة السورية «وعلى الرغم من تحقيق شرعية أيديولوجية معينة، إلا أن الفشل في تأسيس مركزٍ متماسكٍ أدّى إلى الاستعانةِ بتقنياتٍ إرثيةٍ أنتجتْ مَلَكيّةٍ رئاسيةٍ تتشارك السلطةَ مع القواتِ المسلحةِ والنخبِ البيروقراطيةِ ومؤسساتِ الحزب»([5]). و«يمكن القول إن سورية إذ فشلت في محاولات تأسيس نموذج لينيني، فقد تم دمج القوات العسكرية جزئيًا ضمن نظام تم تقييد دورها فيه من قبل قائد مهيمن»([6]). و «أن سورية البعثية قد أوجدت حزبًا قويًا إلى حد ما»([7])، فإنه في مكان آخر يرى أنه «إذا ما كان هناك وجود لحزب فقد يكون مجرد واجهة لا أكثر»([8]).

حول أساليب البعث للسيطرة يرى هنيبوش أنه «حتى النظام الذي يبدأ بطموحات شعبوية قد تهمل الروابط المؤسساتية مع المجتمع ويلجأ مع ذلك إلى الولاءات البدائية والزبائنية»([9])، «وعادة ما يحاول النظام في مواجهة شرعية متقلقلة ومعارضة دائمة، أن يزيد من تحالفاته إلى أقصاها خلال تركيبة معينة من الأيديولوجية والمحسوبية الشعبوية، كما يحاول السيطرة على المعارضة من خلال مزيج من القمع وعطاء الامتيازات»([10]).

«لكن حالما يصار إلى مأسسة الثورة على هذا الشكل، حالما تكون الإصلاحات قد أدت إلى تدارك الأزمة الاجتماعية وحققت إعادة التقسيم الطبقي الاجتماعي، فإن أيديولوجية النظام نحو التغيير الراديكالي سيتم استبداله تدريجيًا بالانشغال بإدارة النظام الجديد»([11]). «وأن الميزة الأولية للعملية السياسية باعتبارها صراعًا طبقيًا على اتجاه المجتمع يتم استبدالها تدريجيًا بسياسات بيروقراطية تتنافس من خلالها المؤسسات وجماعات المصالح داخل النظام على المحسوبية»([12]).

في تطور ما بعد شعبوي مبكر، يرى هنيبوش من خلال دراسته للحالة السورية «أن نخبة راديكالية بمرور الوقت تستنفذ طاقاتها الأيديولوجية. وتفسح في المجال أمام الفساد الذاتي، لا سيما في ظل عدم وجود آليات مساءلة في الأنظمة الاستبدادية»([13])، «ويميل تعظيم النخبة والتلاعب الفاسد بتفاعلات سوق الدولة إلى توليد بورجوازية دولة جديدة داخل النظام. وإعادة استيلاء البورجوازية على الدولة ونشر سلطة الدولة لمصلحة التطور الرأسمالي»([14]).

أزمة النظام التقليدي

يرصد هنيبوش حراك الشباب الريفي والتغيير الاجتماعي والتسييس في أوساط الأقليات والفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة. وقد أدى انتشار التعليم ووسائل الاتصال ودخول الأحزاب السياسية إلى نمو الوعي الطبقي لدى الفلاحين. ويرصد صعود العلويين الاجتماعي بانضمامهم إلى المدارس بعد توسع التعليم، وبانضمامهم إلى الجيش وإلى أحزاب البعث العربي الاشتراكي والقومي الاجتماعي السوري والشيوعي. ويرصد صعود الدروز في الجنوب بالطريقة نفسها (التعليم والجيش والسياسة)، إذ إن جبال العلويين في الغرب وجبال الدروز في الجنوب لا تتيح سبل العيش الكريم، وكذلك الإسماعيليون الذين ينتشرون في بعض مناطق الجبال الساحلية أو في منطقة السلمية شرقي حماة، وهي مناطق فقيرة، فكان التعليم والجيش والسياسة هي روافع صعود هذه الفئات الثلاث في المجتمع السوري. شمل الحراك الاجتماعي أيضًا منطقة حوران الفقيرة التي تتميز بانتشار الملكيات الصغيرة في منطقة قليلة الأمطار لا تتيح كثيرًا من الغلال مع سيطرة التجار الدمشقيين، فانحاز فلاحو درعا إلى السياسة، ونمت ميولهم الراديكالية.

لم تكد سورية تستقل سنة 1947، حتى برز دور الجيش فيها، وقد كان ضباطه من مساعدي الضباط الفرنسيين، وكان الفرنسيون قد جندوا الأقليات في الجيش: أكرادًا ومسيحيين وعلويين ودروزًا وإسماعيليين، بسبب ضعف حساسيتهم للقومية العربية، بحسب تعبير هنيبوش. فبدأت سلسلة انقلابات عسكرية متتالية. وقد تضافر صعود دور الجيش، ودخول الأيديولوجيا الطبقية القومية إليه (تسييس الجيش)، مع نمو طبقات وسطى متعلمة بأيديولوجيا راديكالية تتجه نحو الفئات الشعبية ضمن مناخ عربي يزداد هياجًا بفعل العوامل التي جئنا على ذكرها أعلاه. وأثّر في ذلك عامل رئيس هو توجه أبناء الفلاحين الفقراء من الأقليات إلى الجيش بوصفه مصدر عيش، بينما ابتعد أبناء الوجهاء عن الجيش واتجهوا إلى التعليم ومهن الطب والمحاماة والهندسة.

ثانيًا: تشكل نظام البعث والاستيلاء على السلطة

يرى هنيبوش أن صعود البعث كان نتيجة للتوأمة بين الوطنية والأزمات الاجتماعية، ويرى أن قائده التاريخي ميشيل عفلق كان فيلسوفًا ذا عزم، وكان خجولًا، أما زميله صلاح البيطار فقد كان عمليًا أكثر، ولكن هنيبوش يرى أن «لا واحد من الرجلين كان قائدًا فعالًا أو سياسيًا»([15]) . و«كان عفلق يجمع بين اشتراكية معتدلة والديمقراطية البرلمانية والليبرالية، وكانت صفة البعث الاشتراكي انعكاسًا حقيقيًا لمصالح البرجوازية الصغيرة وذوي الدخل المحدود من الطبقة الوسطى التي كانت قد أصبحت القوة الرئيسة في السياسة السورية مع أولئك المنحدرين من طبقة العمال والفلاحين، الذين انحدر منهم بعض المؤسسين، مع الذين كانو قد لبوا نداءهم»([16]) .

وقد تركز البعث في الريف وبين فئات الطلاب والمعلمين والفئات الوسطى. ومن ثَمّ بين الفئات المتعلمة والمهن العلمية (معلمون – محامون- مهندسون)، إذ ركز البعث في الخمسينيات نشاطه بين الضباط. وهكذا أصبح حزب البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، وخصوصًا من أصول ريفية، وقد «أصبح البعث الحزب الرئيس للبرجوازية الصغيرة المثقفة في الخمسينات». غير أن «مقاومة الطبقات المدينية التقليدية الوسطى والدنيا للبعث كانت نقطة ضعفه الرئيسة»([17])، وفي عام 1956 كان لدى البعث ستة آلاف من الناشطين، وفي عام 1957 بلغ حوالى 30 ألفًا، وقد أعطى إنشاء فروع للبعث في لبنان والأردن والعراق منزلة وهيبة قومية عربية شاملة وفريدة من نوعها.

لم يمنح هنيبوش مرحلة الوحدة سوى حيز صغير في كتابه، ولم يحلل بعمق تأثيرها في سورية ومجتمعها وتمهيدها الطريق لانقلاب البعث في 8 آذار/ مارس 1963.

بعد الانفصال تشظى حزب البعث إلى بضعة تنظيمات صغيرة ليست ذات شأن يذكر، فقد أعاد البعثيون تنظيمهم في مجموعات مستقلة متنافسة عدة وهي، حزب البعث-القيادة القومية بقيادة مؤسسيه التاريخيين عفلق وزملائه، وحزب البعث القيادة القطرية، وكان يقوده ضباط علويون، ثم الوحدويون الاشتراكيون بقيادة سامي صوفان، وكان قوامه من السنة.

شجع نجاح انقلاب البعث في العراق في 8 شباط/ فبراير 1963 مجموعات من الضباط، فتحالف العقيد زياد الحريري قائد الجبهة الجنوبية مع اللجنة العسكرية البعثية ومع ضباط ناصريين، وقاموا بانقلاب ناجح في 8 آذار/ مارس 1963. ولا يقدم هنيبوش أي تفاصيل عن الانقلاب وعوامل نجاحه، ولا عن الصراعات التي تلت الانقلاب بين أطرافه والتصفيات في ما بينهم وكيف استطاع البعثيون الاستفراد بالسلطة لوحدهم، ولكنه يلحظ «أن قيادات البعث أصبحث من الآن وبشكل متزايد ذات صبغة أقلوية – علوية، درزية، إسماعيلية، وتسودها الطبقة المتوسطة الدنيا الريفية»([18]) .

يرى هنيبوش أنه قد «نشأ نظام حكم نتيجة انقلاب 8 آذار/ مارس قوته من الجيش وقواعده في القرية ويحكم من أعلى سلطة في الدولة وسط بيئة مدنية ترفض شرعيته»([19]) ، ويرى «أن انقلاب البعث كان بطرق عدة نتيجة، لولا تأخره، للتعبئة السياسية الريفية في الخمسينيات. وقد امتلك البعث حضورًا محليًا وخبرة تنظيمية تسمح له بإعادة بناء أجزاء مهمة من ائتلافه القديم بعد استيلائه على السلطة»([20]). ويقول -نقلًا عن الجندي- بأن «فشل الشيوعية كان عاملًا مباشرًا للمساهمة في نجاح البعث: إذ فتحت الشيوعية أعين الناس على المشاكل الاجتماعية ولكن، وبما أنها تفتقر للشرعية القومية لم يكن من الممكن أن تكون مقبولة، مما جعل الناس يتحولون إلى البعث كبديل»([21]).

وعلى الرغم من صواب ما أورده هنيبوش عن العوامل التي ساعدت انقلاب 8 آذار/ مارس لتثبيت سلطته، فهو يقفز عن فكرة أن البعث في 8 آذار/ مارس 1963، لم يكن له تنظيمات تذكر، ولا جماهير، ولكن لاستيلائه على السلطة فحسب استعاد قوته مستفيدًا من محيطه السابق بحكم السيطرة العسكرية ليس غير، مثلًا انقلاب الضباط الأحرار في تموز 1952 في مصر استطاع أن يؤلف قاعدة سلطة قوية على الرغم من أنه لم يكن له أي تنظيم سياسي سابق.

طرائق مقاومة بقايا السلطة القديمة

كان من الطبيعي أن تواجَه سلطة البعث برفض اجتماعي، وخصوصًا في المدن، وتواجه بمقاومة داخلية وخارجية، بل كان من اللافت أن تلك السلطة لم تواجه مقاومة كبيرة في بداية تسلمها للسطة، بل إن استسلام المجتمع السوري للسلطة الجديدة أمر يستحق الوقوف عنده، وهو الأمر الذي لم يحلله هنيبوش، ولم يمنحه أهمية تذكر. فالبعث الذي سلب السلطة من يد قوى سورية تقليدية تحكم سورية منذ قرون، ووضعها في يد أبناء الريف من الأقليات، وجرد الطبقات الغنية من ممتلكاتها، وأزاح طبقات راسخة في حكم سورية؛ أمر يستدعي الاهتمام والتحليل.

يعرض هنيبوش طرائق مقاومة سيطرة أبناء الريف على المدينة منذ 1963 وحتى 1982 التي اتخذت صورًا مختلفة بين الإضراب ومحاولات الانقلاب والمواجهات المسلحة، وقد تعامل النظام الجديد معها بقسوة شديدة. «ولمواجهة المقاومة الصعبة لحكمهم، وجدوا في النموذج الفاشستي الوحيد لخدمة حاجاتهاهم، وكانت الماركسية اللينينية، بما شملته من أدبيات، تجسد بناء الدولة على النحو الفاشستي»([22]). ولكنهم واجهوا عقبات كثيرة أمام مأسسة حزب لينيني. وقد كان من اللافت أن يغفل هنيبوش استلهام البعثيين نموذج حكم البعث للناصرية التي وضع بذوره عبد الناصر في سورية في أثناء مرحلة حكم الوحدة.

ثالثًا: الصراعات داخل سلطة البعث

يرصد هنيبوش بإيجاز الصراعات التي دارت داخل حزب البعث وفي أروقة السلطة الجديدة. فصوغ السياسات والقرارات يتطلب أجوبه تثير كثيرًا من التناقضات ويخلق كثيرًا من الصراعات. فبعد استفراد البعثيين بالسلطة وتصفية منافسيهم، مر الصراع داخل السلطة الجديدة بمرحلتين؛ الأولى من آذار/ مارس 1963 وحتى 23 شباط/ فبراير 1966، ثم من 23 شباط/ فبراير 1966 حتى تشرين ثاني/ نوفمبر 1970.

في المرحلة الأولى كان الطابع الأبرز هو الصراع بين الريف والمدينة داخل البعث. فالقادمون من الريف بنزعة راديكالية يريدون تقويض سيطرة ملاك الأرض، ونزع ملكية وجهاء المدن، أما القيادات التاريخية المدينية لحزب البعث فقد كانت من أنصار أن يبقى النظام بتوجهه المعتدل، إذ تتعاون فيه الدولة مع القطاع الخاص مع المحافظة عليه، بدلًا من ضربه. ولكن كانت النزعة الراديكالية أقوى بحكم سيطرتها على الجيش، وصدرت قرارات التأميم والإصلاح الزراعي. واستمر الصراع يتصاعد حتى شباط/ فبراير 1966، إذ قاد صلاح جديد انقلابًا عسكريًا داخليًا في 23 شباط/ فبراير 1966 أطاح القيادة التاريخية للحزب، عفلق والبيطار والعيسمي والرزاز وغيرهم، وقد انحاز حافظ الأسد من جديد في قلب المعركة ضد عمران. وسرح جديد ضباط عفلق من الجيش، وكان معظمهم من السنة.

ويرى هينيوش أن 23 شباط/ فبراير 1966 هو تمرد ريفي لنزع آخر قلاع المدينة في السلطة، واستبدال قيادة ريفية عسكرية تعلمت في سورية بقادة البعث من أصول مدينية ومتعلمة في الغرب.

في المرحلة الثانية: بعد 23 شباط/ فبراير 1966 لم يمنح سليم حاطوم والضباط الدروز الدور المناسب، فـ «انضم عدد من الضباط الدروز الذي شاركوا في انقلاب أيلول 1966 إلى منشقين حافظوا على ولائهم لقدامى قادة الحزب وأمين الحافظ، ليقوموا بمحاولة انقلاب مسنودة من الأردن، بعد شعورهم أنهم استثنوا من دائرة السلطة الضيقة»([23])، ولكن الانقلاب فشل وكان بدعم من الأردن، فسُرح عدد كبير من الضباط الدروز، ما عزز سيطرة العلويين.

يرى هنيبوش أنه «كان من الممكن للبعث أن يستمر في مساره الثوري غير أن هزيمة 1967 أمام إسرائيل وفقدانه لمحافظة القنيطرة، صدما وقلبا مسار تطرف السياسات السورية تدريجيا»([24]). وقد انعكس هذا الوضع في داخل القيادة السورية. وبرز تياران فيها، قاد كل منهما شخصية طامحة إلى الاستفراد بالسلطة:

التيار الراديكالي الذي يقوده صلاح جديد الذي عقد العزم في الاستمرار في (المسار الثوري)، وجعل سورية عقبة في وجه تهدئة الصراع العربي – الإسرائيلي، ومعقلًا للفدائيين. ووقف ضد ميول عبد الناصر للتهدئة الذي أراد مأسسة السلطة وفق النموذج السوفياتي أو الكوري الشمالي، أي جعل (السلطة كلها للحزب) بينما يبقى الجيش أداة صامتة. وقد كان صلاح جديد قد تقاعد من الجيش، وأصبح الأمين القطري والأمين العام للحزب.
تيار يقوده حافظ الأسد الذي حرص على السيطرة على الجيش، وأراد مأسسة السلطة، وجعل مفاتيح السياسة بيد الجيش، حتى لو صدرت القرارات باسم الحزب والدولة. وتحدى الأسد القيادة الراديكالية (صلاح جديد) في المؤتمر المحلي الرابع عام 1968. وقد دعا الأسد إلى:
أن تكون عملية تأهيل الجيش النظامي لاستعادة الجولان عسكريًا على رأس أولويات النظام، وهذا سيعطية قوة وأهمية أكبر.
تخفيف حدة التوتر مع الملكيات العربية المحافظة لكونها الوحيدة القادرة على تمويل عملية تأهيل الجيش.
تخفيف حدة التوتر مع الأردن والعراق لما يمكن أن يسهم به جيشيهما في الجبهة الشرقية.
إخضاع الصراع الطبقي للوحدة الوطنية المطلوبة من أجل التعبئة الشاملة للحرب.
إنهاء التدخل السياسي في الجيش، وإعادة دمج الضباط المقالين ما يكسبه نفوذا قويًا لأنهم سيناصرونه.
تسوية مع المعارضة.
في هذا المؤتمر أُرضِيَ الأسد بمنحة بعض السلطات العسكرية التي طلبها، على الرغم مما قد يكون لهذه الصلاحيات من خطر سيطرته الشخصية على الجيش، وتحولّه إلى قوة منفصلة تهدد شرعية مؤسسات الحزب. وقد حدث هذا التخوف في أرض الواقع وتحول الأسد إلى شريك في القرار لا يمكن تجنبه، ما جعل الحزب والسلطة جسمًا برأسين وعقلين، وحصل الأسد على زيادة كبيرة في موازنة وزارة الدفاع ما منحه قوة أكبر، وأثر في الإنفاق على مشروعات الحكومة ودعم الزراعة، وبدأ هرب رؤوس الأموال، وتباطؤ عجلة الاقتصاد، وتراجع التصدير، ونمو الفساد.

انفجر الوضع بين جناحي جديد والأسد في أيلول/ سبتمبر 1970 بعد حوادث (أيلول الأسود) ورفض الأسد استعمال الطيران لحماية القوات السورية التي دفع بها الراديكاليون إلى دخول الأراضي الأردنية، وقام الأسد بسلسلة من التنقلات العسكرية التي أضعفت الراديكاليين في الجيش. فدعت قيادة الحزب إلى مؤتمر حزبي طارئ عقد في 30 تشرين أول/ أكتوبر 1970، واتخذ المؤتمر قرارًا حزبيًا بإبعاد حافظ الأسد ومصطفى طلاس من مناصبهما (وزير دفاع ورئيس أركان)، ولكن حافظ الأسد كان قد حضَّر انقلابه العسكري الذي سماه (الحركة التصحيحية). ويرى هنيبوش أن انتصار الأسد مثّل انتصار الجيش على النخبة المثقفة الراديكالية.

توطيد سلطة البعث

في مدى سنوات الستينيات وطّدَ البعثيون سلطتهم بمجموعة من السياسات.

ولتجريد النخب الحاكمة سابقًا التي جردها انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 من سلطتها السياسية، قامت سلطة البعث في مدى السنوات 1963 – 1965، بإجراءات ذات طابع اقتصادي اجتماعي جردت النخب المسيطرة السابقة من قوتها الاقتصادية أيضًا، فقامت بمصادرة أراضي كبار الملاك، ومنحت حق الانتفاع بجزء منها لعدد كبير من الفلاحين، واحتفظت بالباقي بصفة (أملاك دولة)، وأممت المصارف والشركات الصناعية والتجارية والخدمية، وقد فعلوا هذا على نحو عشوائي اعتباطي غير مدروس، وبخاصة تأميم الشركات، إذ جرى هذا الأمر بناءً على دفتر الهاتف، ولم يجرِ بخطة مدروسة، ولم يكن جهاز الدولة البيروقراطي يمتلك إمكانًا وقدرة (كمًا ونوعًا) لإدارة هذا العدد الكبير من الشركات، ولجأ إلى معلمي مدارس وموظفين انتهازيين لا يمتلكون أي خبرة .

على الصعيد السياسي صودِرت حريات التعبير والتنظيم، وحلت الأحزاب وصودرت الصحف ومُنع التظاهر لتجريد القوى السياسية القائمة ومنع نمو أي قوى جديدة تهدد السلطة البعثية الفتية، وتنمية دور أجهزة المخابرات.

فتح البعث باب الانتساب إليه على مصراعيه لتعويض قاعدته التنظيمية الهزيلة، التي لم تزد عن 500 عضو في التنظيمين القومي والقطري كليهما صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، فأصبح حوالى 35 ألف منتسب عام 1968، ثم تأسيس شبيبة الثورة واتحاد الطلبة، وتأسيس اتحاد الفلاحين والهيمنة على نقابات العمال وتأسيس الاتحاد العام النسائي، ولكن بقيت قواعده ضعيفة في المدن وبقيت المنافسة في النقابات المهنية (مهندسين – محامين – أطباء) من قوى منافسة.

قامت سلطة البعث بمجموعة من الإجراءات التي أحدثت تحولًا اجتماعيًا، واستجابت لشعارات رفعتها قوى راديكالية سورية في مدى عقود عدة سابقة. فقد توسعت في القروض الزراعية لتحرير الفلاح من ربقة المرابين، وفي عام 1966 بدأت الدولة بشراء المحصولات الزراعية من الفلاحين بسعر مرتفع واحتُكِرت تجارتها، ووسعت المدارس والجامعات. و«تضاعف تسجيل الطلاب في جامعة دمشق خلال السنوات الخمس الأولى التي تلت الانقلاب عام 1963 وحتى عام 1968 أصبح نصف الطلاب يعودون بنسبهم إلى الريف، وكانت المدن تُريّف»([25]).

لذلك كان «الأمر الملاحظ هو نفور التجار والرأي العام المحافظ عمومًا بازدياد من البعث، الذي استبدل القادة المؤسسين المدينيين المعتدلين بريفيين هراطقة غير مثقفين، لطالما اعتبرتهم المؤسسة المدينية أدنى منها»([26]). وقد بقيت المدن في مرحلة البعث الأولى خصوصًا بعيدة عن البعث بل معادية له.

«بين عامي 1964-1977 تضاعف عدد المدرسين وطلاب المدرسة الابتدائية رافعًا نسبة عدد السكان بعمر الدراسة من 58 في المئة إلى 86 في المئة وبزيادة مشابهة حدثت في المرحلتين الإعدادية والثانوية. ونما التسجيل في الجامعات من 25699 طالبًا في عام 1964 إلى 109000 في عام 1983»([27]).

خلقت سياسات السلطة الجديدة وإجراءاتها حراكًا اجتماعيًا ترك آثاره في جسم المجتمع السوري وتركيبه الطبقي.

رابعًا: كيف رأى هنيبوش شخصية حافظ الأسد؟

يرى هنيبوش أن الأسد شخصية براغماتية أكثر منه أيديولوجيًا، وقد أحب أن يرث عبد الناصر في قيادة العرب، ولكن سورية دولة صغيرة وفقيرة، وهو لايملك كاريزما عبد الناصر، ولكنه صعب المراس، وإن وعد وفى -للقوى الغربية فحسب- وإن «الأسد أعاد تشكيل دولة البعث من التجربة اللينينية الفاشلة بقيادة صلاح جديد إلى نظام رئاسي ملكي استبدادي»([28]). «وركز على توحيد الدولة بدلًا من الثورة، وتجميع المجتمع تحت قيادته الفردية، بدلًا من الصراع الطبقي، وسخر المنافسات الطائفية والحزبية العسكرية والشخصية لمصلحة سيطرته»([29]).

«عندما أسقط منافسيه عام 1970 جرى تطهير الحزب والدولة من القادة الراديكاليين، واتخذ عدة خطوات حققت بعض الانفتاح، وأعلن عن قيام جبهة وطنية تقدمية ضمن أحزاب المعارضة تحت جناح السلطة وقمع شديد لكل معارض، وأعلن عن إصدار دستور للبلاد ومجلس شعب (منتخب) وإقامة إدارات محلية (منتخبة)، واعتزم أن يكسب دعمًا دائمًا من المجتمع المدني. ولإسكات العلمانيين المتطرفين، صور نفسه مسلمًا متدينًا، وبدأ يتعمد السلوك كمسلم، وبدأ يصلي في مساجد السنة في العيدين الفطر والأضحى، وأعاد إدخال صيغة دينية ملمعة في الشعائر العامة، وكرّم علماء الدين بمراتب شرف ورواتب أعلى وأنعش تحرير الاقتصاد أمام القطاع الخاص»([30]). «وقد جعل الأسد ظاهرة الفساد مبدًا لربط كل عناصر النخبة به وإعطائهم حصة من النظام»([31])، وقد عمل على تخفيف السيطرة الريفية الظاهرة وجعلها مستترة نسبيًا وقدم شخصيات قيادية سنية إلى واجهة النظام.

بعد سيطرته نزع الأسد الطابع الأيديولوجي للحزب والجيش، وأصبح أي صراع فكري غير مقبول، وعاد من غير المهم اتباع نهج أيديولوجي، وأصبح بإمكان البعثي أن يكون ذا ميول يساريةٍ أو معتدلةٍ أو يمينيةٍ أو متدينٍ؛ لا يهم، والمهم أن يتحول إلى تكنوقراط يهتم بعمله، ويبرهن دومًا ولاءه للنظام والأسد. وهذا ما دفع بالناس إلى العودة إلى طوائفهم ومذاهبهم وعشائرهم في مناخ من قمع الحريات. ونظم الأسد الجيش والأمن بطريقة تمنع نجاح أي انقلاب عسكري، وقد نجح في هذه المهمة أيما نجاح، فقد فشلت محاولات الانقلاب المتعددة وكُشفت قبل قيامها.

في عقب حرب تشرين، اتبع الأسد سياستين متناقضتين: التحرر الاقتصادي وتعزيز السيطرة العسكرية، وبناء دولة أمن قومي. وفي السياسة الاقتصادية أخضع الأيديولوجيا الاشتراكية للبراغماتية الاقتصادية، وسعى لاسترضاء البرجوازية والطبقة المتوسطة، وخفض سيطرة الدولة على الاقتصاد، وبدأ بتأجير أراضي الدولة للمستثمرين، مع المحافظة على قدرة النظام على السيطرة على الاقتصاد. وبنتيجة هذه السياسة بدأت النخبة السياسية تتحول إلى بورجوازية، وبدأت مرحلة نمو غياب مساواة جديدة تأخذ مكان تلك التي هيمنت في الستينيات.

لم يعد الصراع الأيديولوجي على الاشتراكية والرأسمالية والعدالة والقضايا الاجتماعية والطبقية الداخلية، بل سيطر توجه لتوحيد الجميع بمسمى الوطن والوطنية، ووُجهت الأنظار إلى الخارج، نحو الصراع مع إسرائيل، ولم يعد الاصطفاف على أساس المواقف الطبقية، بل أصبح الاصطفاف شخصيًا وفرديًا لكسب رضى الأسد. وقد أصبح تسلسل السلطة كالآتي: 1- الأسد وعائلته. 2- كبار ضباط الجيش العلويين. 3- السياسيون في الحزب ووجهاء الدولة، 4- رجال الأعمال وبخاصة من الدمشقيين السنة.

وعلى صعيد السياسة الخارجية سعى لانفراج العلاقات مع دول الخليج المحافظة والغنية بالنفط، وتحسين العلاقات مع مصر لأنها شريك ضروري في أي مواجهة قادمة مع إسرائيل، وأعلن موقفًا إيجابيًا تجاه الوحدة معها، واستمر في التحالف مع الاتحاد السوفياتي، وسعى لاستكشاف إمكان تحسين العلاقات مع أميركا، ثم خاض حرب تشرين التي كانت نصف نصر، فعادت إليه بنتائج إيجابية منحته شرعية محلية وعربية ودولية، وتدفقت أموال المساعدات من دول النفط، وفُتحت أسواقها أمام العمالة السورية.

«مالت الهوية الطائفية لتحل محل الهوية الطبقية، … وهيمنة النمو العلوي في الوسط السياسي عملت على تحسين تضامنهم الطائفي. وفي مراكز القوى، غالبًا ما اتبع العلويون مبدأ القرابة وذلك بتفضيل أحد الأقارب في التوظيف بطبقة النخبة، وبشكل ملحوظ سهولة قبولهم في سلك الضباط، والتركيز على إملاء القوة، دفع الأسد إلى الاعتماد على أقاربه وأبناء طائفته، ليضفي صفة علوية قوية على جوهر طبقة النخبة التي شكلّها هو …… عمل العلويون على نقل الامتيازات لهم، فهؤلاء الذين كانوا مهملين أصبحوا مدركين لوجودهم. والتضامن العلوي دفع الوجود السني للدفاع عن امتيازاته بشكل كثيف، ……. لكن من الخطأ أن نعتقد أن سياسة الرعاية تأخذ منحى التنافس الطائفي بشكل حصري. شبكة المحسوبية غالبا ما تتقاطع مع الخطوط الطائفية، وبوجود سماسرة علويين متنافسين لديهم حلفاء وأتباع من الزبائن السنة»([32]) .

يعرض هينوس تأرجح الأسد بين ميله لاسترضاء الطبقات البرجوازية لكسب المدينة وفئات السنة، وتحقيق مصالح النخب العسكرية والسياسية؛ وخوفه من الإجراءات التي تمس مصالح الطبقات الشعبية والريفية خصوصًا مع محدودية إمكانات الدولة السورية التي تجعل التوفيق بين السياستين أمرًا عسيرًا، وبخاصة في مرحلة ثمانينيات القرن العشرين، عندما توقفت دول الخليج عن تقديم مساعدات إلى سورية بعد موقف سورية المؤيد لإيران في حرب الخليج الأولى.

بعد فشل الأسد في استعادة الجولان في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ثم تدخله في لبنان 1976 ضد القوى الوطنية اللبنانية، وقصف تل الزعتر الفلسطيني، ازداد الطابع الطائفي لنظام الأسد، وازداد طابعه الأمني، وتوسع الفساد، وبدأت شعبية الأسد بالتراجع وشرعيته التي حققها حتى 1975 بدأت بالتأكل، ولكن جاء تمرد الإخوان المسلمين لينقذ النظام. وقد أدت الإجراءات القمعية إلى القضاء على ما تبقى من الحياة السياسية. وفي أوائل الثمانينيات هبطت شعبية الأسد والنظام عمومًا إلى حد بعيد، ولكن القبضة الأمنية التي اشتدت خلال مدة الصراع مع الإخوان، وهي ما كان يُبْقي النظام متماسكًا، وقد برز ضعف النظام بصورة جلية عندما مرض حافظ الأسد في أواخر 1983 وأوائل 1984.

خامسًا- أعمدة السلطة في الدولة: الجيش، الحزب، البيروقراطية

يتناول هنيبوش دعامات سلطة الأسد الثلاث بعد استيلائه منفردًا على حكم سورية بدءًا من 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهي الجيش، الحزب، البيروقراطية. ويناقش هنيبوش هذه الأذرع الثلاث لسيطرة الأسد ونظامه:

أ‌. الجيش ومعه الأمن

يرى هنيبوش أن دور الجيش في نظام الأسد هو استمرار لصعود دوره منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، وقد جاء صعود الدور العسكري بسبب فشل النخبة القديمة في بناء مؤسسات سياسية متينة بعد خروج فرنسا، وعدم قيام طبقة وسطى جديدة تنشئ روابط بين طبقة العاملين والفلاحين والمدينة والطبقات العليا والنخب الحاكمة بل بقي النظام القائم –حينذاك- يتسم بسيطرة فئات إقطاعية تجارية مدينية صغيرة معزولة عن المجتمع، بينما كان الجيش هو المؤسسة الأكثر تنظيمًا ويمتلك السلاح، وقد نما دور أبناء الريف فيه بسبب عزوف أبناء العائلات المدينية الغنية عن الانخراط في سلك الضباط، وبسبب السياسة المنفتحة للقيادات المدينية السنية تجاه الأقليات.

بين عامي 1963 و1970 سيطر العسكريون البعثيون على الأدوار الرئيسة في جهازي الدولة والحزب، بعد 1970 أصبح الجيش أداة هائلة للسيطرة على السلطة، أكثر من أي وقت مضى، ومنذ عام 1963 الجيش قمع سبعة اضطرابات مدنية مقاومة للنظام على الأقل «1963- 1964- 1965- 1966 – 1967- 1973- 1980- 1982»([33]). يرى هنيبوش أن «الجيش الضخم الذي شكل نحو 20 في المئة من القوى البشرية في سورية في منتصف الثمانينيات وقد كان هناك حوالي 500 ألف جندي مسلح»([34]) ، وأنه قد «أصبح الضباط المسيسون عقبة محافظة في وجه الإصلاح وعبئًا على التطور، وقد استنزفو الخزينة وأحبطو الإدارة العقلانية للاقتصاد، ويمنعون كلا من الاستثمار الخاص وتحسين القطاع العام».

ب. حزب البعث

لا يرى هنيبوش في حزب البعث أكثر من «أداة السيطرة التابعة لسلطة الأسد، ولم يكن إلّا نسخة باهتة عن النموذج اللينيني. وأصبح مجرد تابع للسلطة، ومجرد شبكة للمحسوبية. وقد جعله الأسد تابعًا لرئاسةٍ مهيمنةٍ تهتم بالانصباط الهرمي أكثر من اهتمامها بالحيوية الأيديولوجية، وامتلأت صفوفه بالوصوليين الذين تم اجتذابهم للاستفادة من حزب حاكم، ولكن على الرغم من هذا كله احتفظ الحزب بالميزات الهيكلية الأساسية للحزب الحديث الذي ينفذ الوظائف السياسية المركزية للنظام السياسي. وقد تم تصميم جهاز الحزب ليوازي البيروقراطية الحكومية ونسق المنظمات الشعبية»([35])، كي يسهل السيطرة عليها.

وبحسب دراسة لهنيبوش سنة 1974 لعينة من قيادات الحزب، كان 50 في المئة منهم ينتمون إلى عائلات فلاحية تملك أراضٍ صغيرة أو متوسطة، و40 في المئة منهم من عائلات المزارعين و10 في المئة كانوا من الطبقة الريفية التي تملك عملها الخاص من مثل الخباز أو اللحام([36]).

«كان الأسد يستخدم قضايا الفساد بين مرؤوسيه ليبرر التحول الدوري في صفوف القيادات لمنع اكتساب أي منهم شعبية وقواعد مستقلة لسلطته»([37]). ولم تكن فسحة الرأي والانتقاد التي أرادها الأسد في مؤتمرات منظمات الحزب (شعبة – فرع – مؤتمر) أكثر من تحريك الصراعات بين مجموعات الحزب لتصبح متنافسة في ما بينها، وتعري كل منها فساد الأخرى، فيصبح الجميع ضعيفين في مرمى نار الأسد الذي يبقى فوق الصراعات، ومرجعية حلها، وقراره لا راد عليها.

لم يعط هنيبوش أهمية كافية للعلاقات الزبنية في الحزب والمنافع التي تحققها قيادات الحزب من الفرقة وحتى القيادة القطرية والمزيات التي تمنح للحزبين عمومًا، واشتراط عضوية الحزب في مفاصل الدولة معظمها، فإن لم تكن بعثيًا لن تصعد سلم بيروقراطية الدولة مهما امتلكت من جدارة. ولم يحلل تأثير ذلك في الأداء الحكومي مجمله، وصوغ السياسات والبرامج وتنفيذها، وأثر ذلك في النواحي الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع السوري.

ينظر هنيبوش بإيجابية إلى الدور الذي أداه البعث، وأن النظام قد «جسر الهوة بين المدينة والريف» «وقام ببناء ائتلاف شعبي معتبر»([38])، ولكنه لا يحلل أثر سيطرة قوى ريفية وفلاحين على السلطة وعقليتها، وأثرها في إدارة البلاد السورية واقتصادها وسياستها وعلاقتها، وبالمجمل ترييف الإدارة وترييف المدينة بقدر ما جرى تمدين الريف. ويقدم هنيبوش تحليلًا لاستخدام الأسد للدين الإسلامي، فقد أدرك الأسد أهمية تقرّبهِ من الشارع الإسلامي في بلد سكانه معظمهم مسلمون، ولكن هنيبوش لم يفصل في عرض سياسات استخدام الأسد للدين الإسلامي وتحليلها، إذ كان الأسد يخشى دائما من نمو الإسلام السياسي.

يرى هنيبوش أن الحزب قد «تحول على نحو متسارع من حزب طليعة إلى حزب رعاية»([39]). وتحّول «من نواة للقيادة والتغيير إلى مافيا للحماية المتبادلة، تستخدم صلات الحزب في سبيل تضخيم الذات وكدرع في وجه المحاسبة والانضباط البيروقراطي والرعاية المالية، ولكن الانتقال المتنامي للعلويين إلى مجموعة ذات امتيازات خاصة ضمن الحزب نفسه قد يضيّق سبل الوصول والفرص للعناصر الأخرى في قواعد الحزب، فضعف بذلك تضامنه، خصوصًا ولاء النشطاء السنة»([40]).

أدى الحزب دورًا في ترسيخ سلطة النخبة الحاكمة، ونجح في «بناء تجمعات سياسية من الحجم الكبير»([41])، وقام «بربط النظام بالجماهير، وبإشراك الأطراف الريفية، ووسع البعث الميدان السياسي إلى ما وراء الميدان المحصور سابقا في المدينة، وجسر الثغرة التاريخية بين المدينة والريف السوري»([42]).

ج. الدور السياسي للبيروقراطية

أسست البيروقراطية الحكومية، وعلى رأسها مجلس الوزراء، مؤسسة ثالثة للسلطة، وظيفتها تنفيذ السياسة العامة المحددة من رئيس الجمهورية وقيادة الحزب، وقد تضاعف حجم بيروقراطية الدولة مع عمليات التأميم والإصلاح الزراعي وسيطرة الدولة على الاقتصاد وزيادة عدد أفراد الجيش والأمن. ويذكر هنيبوش أن «الموظفين العامين كانوا في بداية الخمسينيات 24000 موظف أما في عام 1983فقد أصبحوا،473285 وبدون العدد الهائل من العسكر»([43]).

يشير هنيبوش إلى اهتمام الاتجاهات المدينية الدينية، ومعظمهم من الطبقة الوسطى السنية، بالتعليم، إذ «استمر المتدينون في إنتاج أفضل المتخرجين المتعلمين، وذلك لمقابلة صعود العلويين في الجيش، ولكن هذه الفئة المتعلمة عانت من ركود في الثمانينيات حيث تدهورت القوة الشرائية لرواتبهم التي أصبحت لا تكفي لحياة كريمة ولا لشراء المساكن، لذلك عانى الكثير من إحباط شديد، وأدى لخضوعهم إلى الأقل تعلمًا من سياسيين وضباط جيش علويين، والتفضيل الدائم للعلويين في النواحي الشخصية، وأدى إلى تأجيج النقمة بينهم، ومع ذلك أحجم القسم الأكبر من البيروقراطيين عن التحدي المباشر للنظام وظلو أدوات إدارية طيعة»([44]).

سادسًا: ربط الدولة بالمجتمع، حالة اتحاد الفلاحين

يقوم هنيبوش تجربة الإصلاح الزراعي للبعث بالناجح، إذ أصبح القطاع الزراعي أكثر دينامية من الإقطاع الزراعي الإقطاعي القديم، ويقوم السياسة الزراعية للبعث بوصفها أعطت نتائج أفضل في بدايتها، ولكنها انتهت إلى الفشل. وقد «أظهر البعث مقدرة أكبر على إدخال تغييرات إيجابية في القرية أكثر من معظم الأنظمة الاستبدادية، لكنه يبدو الآن قد وصل إلى نهايات مقدراته الهندسية الاجتماعية. لقد أنهك البعث مقدراته التعبوية للريف دون أن يخلق مؤسسات زراعية قابلة للحياة، والتي تستطيع أن تكون بديلًا للرأسمالية، وقد فشل التصنيع الزراعي في تعبئة رأس المال من أجل إعادة إنتاج نفسه بدون الاعتماد المكلف على الموارد الخارجية، كما لم يصبح نظام التسويق الزراعي محركا فعالًا للتراكم الرأسمالي للدولة»([45]).

يعترف هنيبوش أن «الحركة التعاونية كانت ميتة بسبب العوائق البيروقراطية والثقافة الغاشمة التي تواجهها. أما تعاونيات الخدمة فكانت فعالة إلى حد ما في تأمين القروض والمدخلات وفي القيام ببعض الخدمات التسويقية.. ولكنها فشلت في أن تتطور إلى مؤسسات للزراعة التعاونية أو لدورة المحاصيل أو للاستثمار القادر على التغلب على تفتيت الملكيات، أو في تجميع الموارد المتواضعة للفلاحين الأفراد، أما أداؤها الممرض أحيانًا فكان فشلًا ذريعًا»([46]).

مقلدًا الأنظمة الشمولية في العالم، شكل البعث (منظماتٍ جماهريةٍ) مهمتها المساعدة في السيطرة المهنية على قطاعاتها بما يعزز السيطرة السياسية والأمنية، ومنع أي تنظيمات أخرى مماثلة أو مشابهة، فأقام اتحاد الفلاحين واتحاد للنساء، ووضع النقابات العمالية والنقابات المهنية (محامين – أطباء – معلمين – مهندسين – زراعيين) تحت سيطرته كما وضع اتحاد الحرفيين أيضًا.

يدرس هنيبوش حالة اتحاد الفلاحين بوصفها نموذجًا لهذه السيطرة، ولا يدرس أي منظمة أخرى، ومن ثَمّ فإن كتاب هنيبوش ينظر إلى البعث وسيطرته بوصفه حزبًا ريفيًا فلاحيًا زراعيًا بالدرجة الأولى.

ألّف البعث اتحاد الفلاحين الذي تأسس سنة 1964 بوصفه أداة سيطرة على الريف في وجه السيطرة التقليدية للأعيان وملاك الأرض وشيوخ العشائر ورجال الدين وأعيان الريف، ومنحه أدوات للتغلغل في الريف عبر الجمعيات الفلاحية وقروض المصرف الزراعي وشراء المحاصيل الزراعية بأسعار مجزية، إذ لم يعتمد البعث على البيروقراطية الحكومية التي بالكاد تغلغلت إلى القرية، وتملك طاقة قليلة للتغلب على الظنون السلبية للفلاحين بالحكومات، فكانت منظمات اتحاد الفلاحين وقياداتها المنتخبة وفق مشيئة السلطة أكثر قدرة على نيل ثقة الفلاحين من البيروقراطية الحكومية، فقيادات الاتحاد اختيرت من فلاحين محليين ومعروفين بالوجه، وما زالوا يعملون بأيديهم في أراضيهم، أسوة ببقية أبناء الريف. وبحلول 1974 كان هناك 12984 اتحادا فرعيًا يضم حوالى218000 عضو. تضاعفت عضوية الاتحاد لتصل عام 1985 إلى 466172 عضوًا يمثلون 80 في المئة من العاملين بالزراعة كلهم (مالكين ومستأجرين ومرابعين)، وكان ثلثا الأعضاء فلاحين بملكيات صغيرة، أما الباقون فكانوا إما مرابعين أو عمالًا زراعيين.

أتاح الاتحاد للفلاحين الوصول إلى الدولة، ودافع عن حقوقهم في وجه الإقطاعيين والتجار. وعلى الرغم من أن الاتحاد يمتع بحكم ذاتي رسميًا، لكن في الممارسة العملية ظل خاضعًا لهيمنة الحزب. وحتى لو أعطت عملية رسم السياسات الداخلية للاتحاد بعض التعبير عن مطالب الفلاحين ومصالحهم، فلم يكن للاتحاد السلطة لجعل صانعي قرارات الحكومة يقبلون ببرنامجه، وكانت محدودية سلطات الاتحاد جلية جدًا، و«لم يتحول اتحاد الفلاحين إلى ناقل لمشاركة الفلاحين العريضة، لا في الحياة السياسية ولا في التطور الاجتماعي – الاقتصادي. وكصنيعة للنظام من الأعلى، فغالبًا ما كان عرضة للبقرطة، وقد ظل محكومًا بعدوى المحسوبية والنزعة الشخصانية»([47]). في الخلاصة، اتحاد الفلاحين كغيره مما يعرف بالمنظمات الشعبية، هو جهاز يمثل الدولة بين الفلاحين، أكثر مما يمثل الفلاحين لدى الدولة.

السياسات الريفية والتحدي الاجتماعي وانخراط الفلاحين

يدرس هنيبوش في هذا الفصل عددًا من القرى والبلدات وتغلغل حزب البعث فيها منذ خمسينيات القرن العشرين، ويقدمها حالات مشخصة ما يعطي البحث والكتاب قيمة علمية أكبر، ويظهر أن معرفته بالريف السوري هي معرفة عميقة.

قرية مسيحية على بعد 25 كم من مدينة حمص في منطقة تلكخ.
قرية القلمون، ويبدو أنها دير عطية.
قرية في جبال العلويين قرب الشيخ بدر في محافظة طرطوس.
القرية العلوية الساحلية على أطراف مدينة اللاذقية.
قرية حوران إلى الشمال من مدينة درعا.
قرية الدروز تقع على بعد 5 كم من مدينة السويداء.
قرى الغوطة الثلاث.
قرية على أطراف الغوطة قرب مرج السلطان.
قرية حلب تقع على بعد 20 كم إلى الجنوب الغربي من حلب.
قرية الرقة مستوطنة على ضفاف نهر الفرات.
اعتمد هنيبوش في عرضه لهذه القرى على زيارات ميدانية قام بها إلى هذه القرى، ومقابلات مع أشخاص منها، واعتمد دراسات أجراها آخرون، وقدم صورة حيّة لأوضاع هذه القرى، ودخول البعث إليها في خمسينيات القرن العشرين، والتغيرات التي طرأت عليها بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته.

يطلق هنيبوش حكمًا عامًا مفاده «أن البعث قد اخترق المجتمع الريفي بنيويًا»([48]). ولكني أظن أن هنيبوش قد جانب الصواب بهذا الحكم الذي يعززه بأمثلة من 13 قرية سورية، فصعود البعث جاء خلال بضع سنوات من سنة 1954 إلى 1958 فقط ثم خبا دوره. بذلك يصعب إطلاق حكم عام بأن البعث (اخترق المجتمع السوري بنيويًا)، ويعطي هينيبوش انطباعًا خاطئًا، وكأن للبعث جذوره القوية العميقة في المجتمع السوري، وبخاصة الريف، وأن انقلاب آذار/ مارس 1963 قد نجح استنادًا إلى هذه الجذور.

وهنا خلاصة لقريتين منهما:

قرية جبال العلويين قرب بلدة الشيخ بدر

يقدم هنيبوش هذه القرية نموذجًا عن قرى العلويين الذين «كانوا فعليًا منفصلين عن باقي سورية»([49])، وكانت تخضع لمشايخهم في تنظيم حياتهم في جبالهم النائيات الخاليات من المدارس والطرقات والخدمات. «وقد أضيف إلى الفقر الطبيعي لهذا المجتمع، الاضطهاد السياسي والاستغلال الاقتصادي»([50]). وقد دفعهم فقرهم إلى الانتساب إلى الجيش الفرنسي أيام الانتداب. وقد دخل التسييس إلى القرية مبكرًا منذ الخمسينيات، إذ أخذ شبابها بالانتساب إلى الأحزاب السياسية الراديكالية بما فيها البعث.

بعد 1963 بدأت أحوال القرية تتغير مع دخول المدارس والتعليم وشق الطرقات. وفي عام 1970 كان ثمانية عشر من أبناء القرية يدرسون في الجامعة، وقد خلق التعليم ودخول الحكومة «طبقة متوسطة جديدة من الموظفين، خارج الإطار التقليدي للمشايخ. ثم نما القطاع النقدي الرأسمالي الصغير في القرية، ونشأت محلات بيع سلع استهلاكية، وبدأت حافلة لنقل الركاب ودرّاسة للحبوب ومعصرة للزيتون ومجزرة ومخبز يزود طبقة الموظفين الجدد بالخبز، وتفككت الروابط العائلية القديمة في القرية العلوية، وأصبح الزواج من غير الأقارب شائعًا، وتراجع الشعور بالانتماء للعشيرة خلال الستينيات، ولكنه عاد للنمو بعد 1970 إذ إن السياسات العلوية الداخلية في ظل الأسد قد قلبت الميل باتجاه ذبول العشائرية إلى نموها»([51])، وصار الزوج المفضل لفتيات القرية ضابطًا في الجيش «والحقيقة أنه من خلال الحزب والجيش قد أصبح الجبل، بما فيه هذه القرية، شيئًا يشبه حوض التفريخ لأصحاب الامتياز الذين سيكونون من النخبة»([52]).

يطلق هنيبوش تقويمًا لوضع هذه القرية هو بمنزلة تقويم للريف العلوي عمومًا، «فقد كان الفلاحون ناجحين بصورة فريدة في ترجمة التعليم إلى دخول مهن في الدولة كما في للجيش. ومن حالها كإحدى المناطق شديدة التخلف، انتقلت إلى منطقة شديدة التعبئة الاجتماعية، ومن كونها في أسفل الهيكل التنظيمي إلى معقلٍ للحزب الحاكم وحوض تفريخ النخبة على المستوى الوطني، وقد كانت التكاليف إهمالًا للزراعة وتعطيلًا لحياة المجتمع»([53]).

قرية في الرقة على ضفاف الفرات

دُمِّر النظام القبلي القديم بدخول الرأسمالية وتدخل الدولة في السنوات اللاحقات للاستقلال مباشرة، والسبب دخول زراعة القطن ودخول مضخات الماء وقنواتها والجرارات والتجار والمستثمرين من حلب، وحلت السيارة محل الجمل، وبدأ قدوم عمالة من خارج المنطقة من غرب سورية. ونما مزارعو القطن، ونمت ثرواتهم، فتحدوا سلطة شيخ القبيلة أو العشيرة، واستخدموا أموالهم للتظاهر لمنح أنفسهم منزلة في مواجهة شيوخ العشائر وأصبح أغنياء القطن يشترون البيوت في حلب والسيارات الفاخرة، وينفقون ببذخ.

في عهد البعث جرّد الإصلاح الزراعي شيوخ القبائل والعشائر وأغنياء القطن من الجزء الأكبر من ملكياتهم وقوتهم الاقتصادية والسياسية وقطع علاقاتهم السابقة بالدولة. واستطاع البعثيون إبعاد عائلة المشرف من العفادلة إلى خارج القرية، وأصبح في القرية منظمة للحزب واتحاد للفلاحين ومنظمة للنساء وتعليم أفضل وطرق أفضل، وشُقّت قناة من الفرات لري أراضي الجمعية، واقتنيت مضخة ماء للجمعية وجراران عن طريق المصرف الزراعي. وركز البعث -خصوصًا بين 1966 و1970- على الشريحة الدنيا الأكثر فقرًا، وقد انتهى ابن بائع الخضار المتجول في الرقة سكرتيرًا للحزب، وابن الخادم السابق لدى شيوخ الفدعان رئيسًا لمكتب الفلاحين في الحزب. ولكن على الرغم من أن العائلات المسيطرة السابقة فقدت سلطتها المحلية، إلا أن هذه العائلات استعادت علاقاتها مع البيروقراطية الجديدة، وبخاصة بعد 1970.

«جلب عهد الأسد انفتاحًا للنخبة القديمة، وتم انتخاب أفراد النخب القديمة في مجالس المحافظات»([54])، مثلًا فيصل الهويدي رئيس العفادلة، انتخب نائبًا في البرلمان عام 1978، ودخل أبناء المشرف المتعلمين إلى حزب البعث، وقد سعوا لامتطاء البعث لتحقيق مصالحهم. ويقدم هنيبوش مثالين عن شخصين من عائلة المشرف الذين امتطو الحزب، من مثل الرفيق حسين والرفيق عمر من عائلة المشرف، وكان لعمر دور في تعبيد الطرق في القرية، وتخصيص باص للنقل، وإنشاء جمعية استهلاكية، وتعويض عن الأراضي التي صادرتها إدارة حوض الفرات. «دمجت البيروقراطية وتوسع الخدمات القرية بالدولة والسوق أكثر من أي وقت مضى»([55])، وبخاصة في منطقة الرقة والطبقة وسد الفرات وإنشاء هيئات ومصانع ومزارع حكومية من مشروع تطوير حوض الفرات. ووصلت الكهرباء إلى القرية ومياه الأنابيب النظيفة ودخلت الثلاجات والتلفزيونات إلى البيوت، وانتشرت دكاكين فيها سلع استهلاكية كثيرة، وحلّت المساكن الإسمنتية بدلًا من الطينية، وحلّت السيارة محل الجمل والحمار والحصان.

لكن ربط القرية بالدولة جعلها تبتلى بالبيروقراطية الحكومية غير الكفية، و«اقترن تنامي حضور الدولة بنشاطات فاسدة، حيث يسعى الموظفون الحكوميون إلى استخدام الملكية العامة للمصلحة الخاصة». ويقدم هنيبوش مثالًا عن شخص يدعى (نهار كحالة) يوضح أن الرأسمالية استمرت تزدهر في فجوات الدولة.

سابعًا: تحول القرية السورية في ظل البعث

«إن البعثية، بغض النظر عن فرضها من العاصمة، كان لها جذور قوية في القرى حتى قبل أن تتسلم السلطة، وكان حضور البعث أسبق وأعمق في قرى الأقليات منه من القرى السنية. ولهذا ليس من المستغرب أن النخبة القومية تألفت بشكل غير متناسب من رجال تلك المنطقة»([56]). ويطرح هنيبوش السؤال: ما الذي يفسر قدرة البعث على ارتباطه بالقرويين؟ ويقدم مجموعة العوامل التي تفسر هذه القدرة، ويجملها بالأوضاع الاجتماعية وصراع الفلاح والإقطاع وأحوال الاستغلال والاضطهاد الذي عانوه، وسيطرة المدينة على الريف، ودعم صراع الفلاحين الفقراء ضد النخب التقليدية والاعتماد على الشباب، وتنفيذ الإصلاح الزراعي، وتقديم القروض وإنشاء الطرق والمدارس ومد الماء والكهرباء للريف، وقد جعلت إجراءات البعث القرية بحاجة أقل إلى المدينة والقروض والتجار وخدماتهم لتسويق المحصولات وربطهم بالدولة، والأسلوب اللينيني الذي استخدمه البعث لفرض سيطرته، وقد استخدم البعث -وبخاصة منذ جاء حافظ الأسد- وسائل أقل تطرفًا في تكريس نفسه، وقد استطاعت العائلات التقليدية إعادة التكيّف مع نظام الأسد. وأقام البعث منظمات للحزب واتحاد الفلاحين واتحاد النساء وتعاونيات خدمية في كل قرية، كلها ساعدت سلطته في منع القوى التقليدية والإخوان المسلمين من تأسيس قوة لها في الريف السوري. لذا انطلقت احتجاجات الإخوان حتى 1982 من المدن.

«كانت فترة السبعينيات بمعنى ما فترة تمدين القرية حيث وصل العديد من ميزات المدينة إلى القرية»([57]) . فقد أسهمت الإصلاحات الاجتماعية وسياسة الدولة في الستينيات والسبعينيات في تطوير الريف ودمجه بالمدينة وربطه بالدولة ومؤسساتها، ولكنه جعل الريف يعتمد على الدولة وبيروقراطيتها ويعاني –من ثَمَّ- فسادها وخصوصًا منذ الثمانينيات، إذ أصبحت الدولة تمثّل عبئًا متزايدًا على كاهل الفلاح، فتحول من داعم للسلطة إلى معادٍ لها، إذ لم تقدم الدولة أي جديد للريف منذ الثمانينيات.

وفي تقويم إجمالي لسياسة سلطة البعث، يرى هنيبوش أنه «لم تؤد إصلاحات النظام إلى تحوّل جذري في التركيب الاجتماعي»([58])، وبقيت الملكيات المتوسطة وبقيت التعاونيات التي أنشأها النظام هشة، والقيم التعاونية لم تغرس في أهل الريف، ولم تصبح التعاونيات أداة لتراكم رأسمالي، وقد افتقر القطاع التعاوني الدينامي إلى دفع تراكم رأس المال والنمو، ورُوّج مفهوم سطحي للأيديولوجية الاشتراكية على أنها تعني محض حق شعبي في الوصول إلى الموارد الحكومية. وأدى تدخل دولة بيروقراطية ومجتمع تختلط فيه ثقافة القرابة ما قبل الرأسمالية والأخلاقيات الرأسمالية إلى نمو الفساد ومبادلة القادة السياسيين سلع القطاع العام وخدماته بالدعم. وقد أدى اندماج الريف بالمدينة إلى هجرة واسعة من الريف إلى حواضر المدن وإلى هجرات خارجية وبخاصة إلى الخليج للعمل.

علىى الرغم من غنى ما قدمه هنيبوش من تحليل لسياسات الدولة الشمولية البعثية، فلم يدرس على نحو وافٍ جملة من السياسات والإجراءات والمؤسسات التي أسهمت إسهامات رئيسة في بناء الدولة الشمولية. فلم يحلل دور ما سمي بالمؤسسات الجماهيرية مثل دور نقابات العمال والنقابات المهنية ومنظمات النساء. وتطرق على نحو عاجل إلى تأسيس التعاونيات ومؤسسات الإقراض والبذار ومنح السماد وتسويق المنتجات في بناء الدولة الشمولية، ولم يدرسها على نحو وافٍ. ولم يدرس التعاونيات وتجربتها في سورية، ومر عليها مرورًا سريعًا. وبدا أنه يخلط بين التعاونيات الخدمية واسعة الانتشار ومحدودة الدور والتأثير، وتعاونيات الدولة الإنتاجية التي كانت ثانوية لا تمثل سوى أقل من 1 في المئة من القطاع الزراعي وكانت فاشلة بامتياز. ولم يحلل على نحو كافٍ الأصول الريفية لقيادات البعث في مستوى المركز والمحافظات والمناطق. لم يحلل الأصول الريفية للجيش والأمن، ولم يحلل على نحو وافٍ التركيبة الطائفية للنظام واستخدامه لها، وهي سمة رئيسة، ولم يحلل استخدامه للدين وللعشائرية، ولم يحلل سياساته الاقتصادية لإعادة بناء رأسمالية سورية ريعية جديدة محل الرأسمالية القديمة الأكثر إنتاجية. وهذه كلها سياسات أدّت دورًا حاسمًا في تأسيس الدولة الشمولية. بل كيف يمكن فهم الدولة الشمولية من دون تحليل عميق لدور الأمن، ومن دون تحليل سياسة مصادرة الحريات العامة، وهي السمة الأهم للدولة الشمولية. ولكن لا بد من الاعتراف بأن تناول هذه الموضوعات الواسعة التي تكمل صورة البعث الشمولي تتطلب كتابًا آخر.

بدا لي أن هنيبوش قد بالغ في عدّ سلطة البعث سلطة الريف وسلطة فلاحين، وأنه يعكس مصالح الفلاحين بحكم الأصول الريفية للنخبة الحاكمة، وحتى لو عكس هذه المصالح حتى السبعينات، فمنذ الثمانينيات تحولت سلطة البعث التي أصبحت منذ 1970 سلطة الأسد منفردًا، تحولت واتخذت منحىً آخر محابيًا لرأسمالية مدينية ريعية كوّنت النخبة الحاكمة الجزء الأقوى فيها، وأدت سياسات البعث إلى إفقار الريف وتخريب مصادر المياه، فتزايدت هجرة الريف إلى المدينة وإلى خارج سورية للعمل أو الهجرة الدائمة. وعلى الرغم من أن الأسد سعى لاستدراك ذلك بداية التسعينيات وطبق سياسات تدعم الريف، ولكن سرعان ما تأكلت هذه السياسات، وسرعان ما تحول الريف إلى معاد لسلطة البعث. وقد كان من اللافت أن تنطلق انتفاضة 2011 من الريف، بينما وقفت المدينة والطبقات الوسطى والغنية إلى جانب نظام الأسد، بعكس صدام سبعينيات القرن العشرين، إذ انطلقت الاحتجاجات من المدينة، وبخاصة حماة وحمص وحلب، بينما وقف الريف إلى جانب نظام الأسد. وعلى الرغم من أن هنيبوش قد مر على هذه الفكرة، ولكنها كانت تستحق منه تحليلًا أعمق.

نظرة عامة إلى تجربة البعث

يقوّم هنيبوش حكم حافظ أسد بأنه «حكم ملكي رئاسي قامت سلطته على فريق طائفي من رفاق السلاح المقربين، وتشكيل شبكة من العلويين التابعين والموالين شخصيًا في مراكز قمة الدولة، بحيث أصبح كل منهم مدعومًا بتوزيع الرعاية والتسامح مع الفساد بين الصفوة»([59])، ويرى أن سياسات الأسد «لم تكن مسألة زبائنية فئوية وطائفية حصرًا. ولم تستند سلطة فريق الأسد على المجتمع ببساطة على تضامن الأقلية وشبكات الزبائنية، بل على حكمه على ثلاث مؤسسات رئيسية في الدولة وهي الجيش وبيروقراطية الدولة وآلة الحزب التي دمج من خلالها النظام دائرة جماهيرية وسيطر عليها»([60]). ففي «ظل الأسد، صاغ الجيش جهاز الأمن القومي الذي حول سورية من ضحية لمحيطها الدولي إلى لاعب كبير»([61]).

«ينبغي عدم النظر إلى صعود البعث على أنه مجرد تجل للديكتاتورية العسكرية والصراع الطائفي، أو حتى اختراق الطبقة المتوسطة، رغم أن جميع هذه العناصر مكونات في المزيج المعقد للقوى التي أنتجته. إذ لا يمكن فهمه إلا كنتيجة لأزمة اجتماعية تمتد جذورها في التركيبة الاجتماعية لسورية قبل الحداثة واندماجها في النظام العالمي الجديد.. لقد فتح فشل النخبة التقليدية الباب لحزب البعث، فلم تبن سورية أرستقراطية راسخة أصيلة قادرة على دمج الدولة والمجتمع: إذ فشلت نخب دول الاستعمار الموروثة إلى حد كبير، في ترسيخ أسس محلية قوية في الريف»([62]).

فقد كانت سورية تعاني انقسامًا كبيرًا بين النخبة السائدة ذات الثروة والسلطة في المدن، وطبقة الفلاحين ورجال القبائل في مجتمعاتهم الأبوية. وقد فشلت النخب المسيطرة في وضع قاعدة للتحديث المستدام، وقد تواجهت النخب المسيطرة من طبقة متوسطة جديدة التي أصبحت راديكالية بسبب إخفاقات النظام المتمركز في المدينة، ويستنزف خيرات الريف ونمو نخبة ريفية راديكالية منذ الخمسينيات يسارية توجهت للتحالف مع الفلاحين، ولكن لم يحدث في سورية ثورة فلاحية بل ثورة من فوق.

يحلل هنيبوش هشاشة المجتمع وهشاشة مؤسسات السلطة، وضعف الطبقات التقليدية، ما جعل خسارتها أمرًا محتملًا، ثم إنه يحلل حزب البعث إلى حزب له جذور ووجود وقوة وتنظيم، وأنه اخترق المجتمع قبل 1963، وبخاصة المجتمع الريفي، ما مكنه بعد انقلاب 1963 من الاستفادة من تلك الجذور، ومن اختراقه للمجتمع. وأن «آذار 1963 كان أكثر بكثير من مجرد انقلاب عسكري، أو استيلاء طائفي على السلطة»([63])، و «كان الهدف من النظام الجديد أبعد بكثير من التفخيم الطائفي أو العسكري. وفي الحقيقة كانت أيديولوجية القومية الشعبوية المتطرفة انعكاسًا حقيقيًا لجذوره في شرائح كبيرة من المجتمع»([64]). فقد تألّفت سلطة البعث من «تحالف الضباط والمثقفين الثوريين والفلاحين، أي البنادق والعقول والأرقام»([65])، وإن «التعبئة المناهضة للنظام في الخمسينات شكلت شرطًا عضويًا لانقلاب 1963»([66]). وإن انقلاب الاستيلاء على السلطة كان ثمرة للثورة من الأسفل، فالقوى التي ولدتها هذه الثورة دمجت في ما بعد النظام عن طريق «الثورة من فوق التي تلتها»([67]).

إن نقطة ضعف النظام (كعب آخيل) تكمن في الفشل في مأسسة تعاقب القيادة، فكل حالة حتى الآن أحبطت بعنف عسكري، وتنذر بفعل ذلك ثانية بعد الأسد. وقد تحققت مخاوف هنيبوش، فقد رتّب الأسد التوريث لولده بعد وفاته سنة 2000 ما وضع أساس انتفاضة 2011. «إجمالًا، أظهر النظام القليل من القدرة على احتواء المجتمع الحضري سياسيًا، وبقيت الطبقات القديمة العليا والوسطى وجماهير الأحياء التقليدية تشعر بالحرمان من الحقوق السياسية»([68]).

«في عهد البعث، أصبحت الزبائنية السبيل إلى الدخول في أنظمة الدولة ومنافعها. لأن التهديد الأخطر لبقاء النظام هو احتمال انقلاب عسكري فالأولوية الأولى للنظام هي إرضاء الجيش محولًا هذا الأخير إلى قوة ذات امتياز»([69])، و«أصبح القطاع العام وسيلة لسيطرة الدولة على الاقتصاد وتحويل جزء كبير من الاستتمار إلى البنية التحتية والصناعة، الأمر الذي أطلق شرارة التوسع الاقتصادي، وكذلك أداة للانتخاب السياسي واحتواء الآلاف من أفراد الطبقة المتوسطة العاملة الذين اكتسبوا بذلك حصة معينة من نظام الدولة»([70]). و«التجربة الاشتراكية وصلت في آخر المطاف إلى نهايتها واستنفد النظام طاقاته الأيديولوجية دون أن يخلق مؤسسة اقتصادية قادرة على البقاء ويمكن أن تكون بديلة للرأسمالية»([71]) . و«ارتبط عبء دولة الأمن الوطني بالرعاية والفساد الذي يبدد الموارد اللازمة للاستثمار»([72]).

يلخص هنيبوش مراحل تطور دولة البعث السوري كما يأتي:
بعد 1963 استيلاء على السلطة عن طريق انقلاب استخدم الأيديولوجيا (صراعات مع العسكريين).
1965-7019 تحول باتجاه استبداد شعبي ونظام لينيني وإجراءات اجتماعية عميقة.
1970-1975 رئاسة استبدادية مستندة إلى نواة نخبة تكونت من الحزب والبنى البيروقراطية.
1976-1989 تنظيم الملكية الرئاسية ونواة علوية حولها على حساب الحزب ومؤسسات الدولة.
بعد 1970 توجه محافظ، توقف التحول الاشتراكي، بناء نظام أمني -إحياء الاقتصاد الخاص- التسامح مع نمو تفاوت توزيع الثروة، والتسامح مع الفساد، وتزايد قمع اليمين واليسار -وتحول الدولة لخدمة البرجوازية الجديدة- والعودة إلى التطور الرأسمالي مع استمرار التوجه الشعبي.
في الثمانينيات نظام ملكي رئاسي قومي يدعمه الجيش والبيروقراطية مع حزب جماهيري، نمو نظام طبقي جديد يحتوي على برجوازية دولة جديدة.
في آخر الأمر أصبح النظام غير قادر على إعادة تكوين نفسه.
المصدر/ مركز حرمون للدراسات المعاصرة

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة