بين الحين والاخر اطلع على اخبار علمية من هنا وهناك وهي من الاخبار التي أصبحت شغفي بعد أن قللت من تتبع الاخبار السياسية لأنها نادراً ما تحمل الجديد.
وكعادتي التشكيكية قبل أن اصدق بمضمون الخبر ابحث عن مصدره الاصلي لعلمي إن هناك من يؤدلج هذه الاخبار لمصلحته ويعيد صياغتها وربما يخترعها. وسأذكر أمثلة على ذلك
المثال الأول:
مرة قرأت خبراً مفاده إن “الملحدون أكثر ذكاءً من المتدينين” وقد انتشر الخبر بسرعة كبيرة وتمت إعادة صياغته أكثر من مرة والبعض يقول إنه اثبتت دراسة علمية كذا والبعض يقول اثبت العلم كذا، بل إنه حتى موقع سي أن أن العربي أورد الخبر بطريقة خاطئة حيث تم اعتبار صاحب الدراسة في الموقع أنثى ولو كتبت اسم “ساتوشي كانازاوا” في محرك البحث غوغل لاكتشفت بسهولة إنه رجل!!!!
إين المشكلة في الموضوع؟
المشكلة:
1-إن اصل الموضوع دراسة سلوكية ضمن ابحاث علم النفس التطوري أجريت على عينة محددة (اكثر من 20 الف بقليل)، لم يكن بينهم مسلم واحد ،في وقت ومكان محدد ، وهي ليست حقيقة علمية.
واسم الدراسة بالضبط هو “Why Liberals and Atheists Are More Intelligent” أي “لماذا الليبراليين والملحدين أكثر ذكاءً؟” فتقديم الملحدين على الليبراليين تزوير في الترجمة لأن صاحب الدراسة لم يكن غبياً حينما ذكر الليبراليين أولاً.
وهذا رابط الدراسة بنصها الاصلي
http://spq.sagepub.com/content/early/2010/02/16/0190272510361602.abstract
وهذا رابط الخبر من موقع سي أن أن العربي
http://arabic.cnn.com/2010/scitech/3/1/smart.liberal/index.html
2-إن من قام بالدراسة “ساتوشي كانازاوا” ليس مختصاً بعلم النفس التطوري لأنه ببساطة خريج كلية لندن للاقتصاد واستاذ فيها، وإنما هو يكتب في مجال علم النفس التطوري، ولا ننسى التذكير بأنه رجل لا امرأة!!!
فهو كاتب في علم النفس التطوري وليس خبيراً فيه كما ذكر موقع سي أن أن ونقله عنه آخرون، مع العلم إنه حتى اسم العلم تم ترجمته بالخطأ في هذا الموقع إذ تم ترجمته إلى “علم التطور النفسي”.
وهذا رابط موضوع علم النفس التطوري من ويكيبيديا
http://en.wikipedia.org/wiki/Evolutionary_psychology
وهذا رابط يتضمن اسماء اغلب علماء النفس التطوريين من ويكيبيديا وليس من ضمنهم صاحب الدراسة رغم إنه مشهور كما تنقل بعض المواقع التي اوردت الخبر!!!
http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_evolutionary_psychologists
وهذا رابط صفحة صاحب الدراسة في ويكيبيديا
http://en.wikipedia.org/wiki/Satoshi_Kanazawa
3-هناك انتقادات كبيرة لكتابات هذا الرجل في مجال علم النفس التطوري، منها على سبيل المثال انتقادات “سكوت باري هوفمان” عالم النفس الامريكي المتخصص، حيث كتب في احد انتقاداته يقول “ساتوشي كانازاوا لا يتحدث عن كل علم النفس التطوري” أي إنه ينتقي، وكتب في مقاله أيضاً إن رأيه لا يمثل الرأي الوحيد في علم النفس التطوري.
واليكم رابط الانتقاد
http://www.huffingtonpost.com/scott-barry-kaufman/satoshi-kanazawa-does-not_b_863359.html
وكذلك رابط التعريف بسكوت باري هوفمان من ويكيبيديا
http://en.wikipedia.org/wiki/Scott_Barry_Kaufman
4-كثيراً ما اثارت كتابات “ساتوشي كانازاوا” مشاكل, منها على سبيل المثال دراسته تحت عنوان “لماذا النساء السود أقل جذباً” والتي منع على اثرها من تدريس الفصول الالزامية مدة سنة كاملة في كلية لندن للاقتصاد بناء على قرار من لجنة تحكيمية واضطر لتقديم الاعتذار عن هذه الدراسة.
وهذا رابط الموضوع
http://www.bbc.co.uk/news/uk-england-london-14945110
5-اختبارات الذكاء موضع جدل كبير وتعطي نتائج تقريبية ويمكن الحصول على أي نتائج منها اذا ما تم انتقاء العينة بما يتناسب والمطلوب.
6-ان الدراسة تعرضت للانتقاد وبسخرية في بعض الاحيان مثلاً تكلم عنها استاذ علم النفس في جامعة ولاية اريزونا الامريكية “دوغلاس تي كنريك” منتقداً في عدة مقالات منها مقال بعنوان “الملحدين والليبراليين أكثر ذكاءً ولكن لسبب مضحك”.
وهذا رابط المقال
http://www.psychologytoday.com/blog/sex-murder-and-the-meaning-life/201004/atheistic-liberals-are-smarter-funny-reason
ورابط صفحة “دوغلاس تي كنريك” في ويكيبيديا
http://en.wikipedia.org/wiki/Douglas_T._Kenrick
المثال الثاني:
اثار موضوع تدريس نظرية التطور أو التصميم الذكي في الولايات المتحدة الامريكية جدلاً في سنة 2006 ، وموضوع التطور عموماً موضوع جدل كبير هناك ويدخل حتى في موضوع الانتخابات!!!!
ما يهمنا إن الجمعية الامريكية لتقدم العلوم والتي يرمز لها اختصاراً “AAAS” نشرت بياناً تؤيد فيه تدريس نظرية التطور وترفض فيه تدريس نظرية التصميم الذكي المدعومة مسيحياً بعنوان “بيان حول تعليم (نظرية) التطور”
وهذا رابط البيان
http://www.google.iq/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=1&cad=rja&ved=0CCUQFjAA&url=http%3A%2F%2Fwww.aaas.org%2Fnews%2Freleases%2F2006%2Fpdf%2F0219boardstatement.pdf&ei=1Q6MUIupDvT54QTR64Fw&usg=AFQjCNGa1TXOhbhSdYeTwiF2MMz6d52tOw
ما المشكلة في الموضوع؟
المشكلة:
1-تم الترويج لهذا البيان على إنه اقرار بصحة نظرية التطور وإنه ينهي الجدال حولها في حين إن الجدال لا زال قائماً وفقاً للبيان نفسه.
2-تم تسويق نظرية التطور من خلال ترويج هذا البيان على إنها حقيقة علمية ثابتة في حين إنها فرضية علمية تصلح لتفسير ظواهر معينة تم القبول بها لأنها أكثر انسجاماً من غيرها. ولا يقول البيان إنها حقيقة علمية ثابتة.
3-اعتبر البعض إن البيان دليل على الاقرار بصحة اثبات نظرية التطور تجريبياً ، في حين إنها لم تثبت تجريبياً والبيان لا يتطرق لذلك، مع العلم إن البعض يخلط أو يتعمد الخلط بين المشاهدات والادلة التي تنسجم مع نظرية التطور وبين اثباتها تجريبياً في حين إنهما موضوعين مختلفين.
وابسط دليل على إنها ليست مثبتة تجريبياً سعي البعض المستمر لإثباتها تجريبياً كما في تجربة إي كولاي طويلة الامد لريتشارد لنسكي وفريقه من جامعة ميشيغان والتي بدأت منذ سنة 1988 ولم تنتهي لحد الآن وهدفها اثبات الانتخاب الطبيعي في البكتريا!!!
وهذا رابط موقع التجربة
http://myxo.css.msu.edu/
4-اطلعت على ترجمة للبيان نقلها لي أحدهم على اثر حوار بيني وبينه وآخرين في احدى مجاميع الفيس بوك حول امكانية اثبات نظرية التطور تجريبياً، ولكني للأسف وجدت الترجمة مما ينطبق عليها القول بأنها ترجمة محرفة لأغراض خاصة.
وهذا رابط الترجمة
http://real-sciences.com/?p=2132
وسأذكر مثالين على التحريف الموجود في الترجمة:
أ-يقول المترجم في مقدمة الكلام ما نصه “التطوّر هو واحد من أهم وأقوى المبادئ التي تلقى قبولاً راسخاً في العلم الحديث” في حين النص الاصلي للبيان يقول “Evolution is one of the most robust and widely accepted principles of modern science” وترجمته “التطور واحدة من مبادئ العلم الحديثة المتينة والمقبولة بشكل واسع”
فتحولت كلمة “widely” من “واسع” إلى “راسخ” بقدرة قادر لتعطي انطباعاً يوهم القارئ.
ب-يقول المترجم ما نصه “لكن لا يُوجد اي جدل داخل المجتمع العلمي على صحة نظريّة التطوّر”في حين ان النص الاصلي يقول “But there is no significant controversy within the scientific community about the validity of the theory of evolution” وترجمته “لا يوجد جدل علمي كبير (أو خلاف هام) حول صلاحية نظرية التطور”. يعني الجدل موجود لكنه ليس بكبير وفقاً للبيان فكيف اصبح الأمر لا يوجد أي جدل؟!! وكيف ترجمت “validity” الى صحة في حين انها تعني صلاحية والفرق بينهما كبير؟!!
المثال الثالث:
ما يتم تناقله بين الحين والاخر من اخبار اكتشافات الاعجاز العلمي، كما في كتابات زغلول النجار وهيئة الاعجاز العلمي السعودية، حيث يتم في الغالب نقل أخبار علمية كاذبة ونسبة أقوال لأشخاص وهميين أو لأشخاص حقيقيين دون دليل والتحكم في صياغة الخبر والمعلومة العلمية هذا فضلاً عن تأويل النص الديني كيفما اتفق لجعل ملائم للخبر أو المعلومة العلمية. ولست بحاجة لذكر الامثلة هنا لأنها كثيرة، ولأني سأتحدث عن موضوع الاعجاز العلمي في مقال موسع سأنشره قريباً بإذن الله.
المثال الرابع:
نقل الاستنتاج من الخبر العلمي على إنه جزء منه وتسويقه على اساس ذلك، والخبر العلمي شيء والاستنتاج منه شيء آخر. فحتى لو كان الشخص متخصصاً في مجال ما وافادنا بتجربة علمية فلا يعني ذلك أن يحظى استنتاجه منها هو أو غيره بنفس درجة قبول التجربة. وينبغي تقييم الاستنتاج بضوابط مختلفة.
فكم من استنتاج من خبر علمي سوق على إنه خبر علمي هو الآخر؟ والخلط عادة ما يكون متعمد وإن كان في حالات يكون غير مقصود .
هذه أمثلة على تزوير الاخبار والنصوص العلمية فضلاً عن أمثلة النقل الانتقائي حيث يتم نقل رأي علمي في قضية معينة على إنه الرأي السائد أو الغالب وعند التدقيق تجد إنه هناك آراء معارضة بنفس قوته وربما أقوى، ونقل معلومة علمية دون ذكر مصدرها وغير ذلك.
وهذا الاسلوب في النقل يربك كثيراً ويدعو لعدم الثقة ويدخل المجتمع في مشاكل كثيرة. فينبغي نقل الاخبار والنصوص العلمية كما هي دون تزوير واضافات من أي نوع والفصل بين الخبر وما يستنتج منه. وينبغي لنا أن ندقق فيما نقرأ ولا نقبل أي معلومة دون دليل.