لا أعتقد بعفوية الكلمة التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بتاريخ 27 نوفمبر 2017 في دعوته إلى محاربة الإرهاب الفكري إلى جانب محاربة الفساد، حين أشار في كلمة أمام جمع من طلبة خريجي الجامعات العراقية بقوله إن “العراق اليوم أمام تحدي الإرهاب الفكري إلى جانب معركة الفساد وهي أخطر من معركة الإرهاب” حسب وصفه.ومن دون شك فالمهمتان اللتان وضعهما في أجندته السياسية كمنهج له يستكملان ما أعلنه عند وصوله للسلطة عام 2014 في دعوته للإصلاح بمختلف وجوهه، لكن مهمته الإصلاحية ظلت حبراً على ورق بعد دخوله معركة تحرير العراق من تنظيم داعش، وهي معركة أثبت فيها نجاحه حتى وإن قيل إن ذلك النجاح يتقاسمه كثر وفي مقدمتهم داخليا قوات الحشد الشعبي وقادته الذين يدخلون اليوم المنافسة الانتخابية بعد ارتدائهم البدلة المدنية لكن تحت عنوان “المجاهدين” وهو عنوان عقائدي إسلامي، وخارجيا كل من واشنطن وطهران.لكن العبادي تحمل جميع المسؤوليات ولم يتخاذل أو يتردد في الوصول إلى النتيجة النهائية في الانتصار العسكري على داعش. لكنه اكتشف الآن وهو يعلم كمسؤول سياسي قبل أن يكون رئيساً للوزراء بالفرضية المنطقية البسيطة القائلة بأن طرد داعش عسكرياً لا تعني نهايته، وهذا ما تحدثنا به وغيرنا كثر منذ وقت طويل. وإذا كان ما قاله العبادي في الدعوة لمواجهة الفكر الإرهابي المتطرف يتجاوز الشعار السياسي العابر، ونتمنى ذلك فإن هذا ليس عنواناً لشعار انتخابي قد يضعه في موقع المزايدات السياسية، لأن الآخرين من رفاقه داخل البيت السياسي الشيعي لا يقتربون من هذه القضية المحورية الشائكة، فهم يعرضون لافتات لمشاريع سياسية تحت عناوين أكثر جاذبية للجمهور تمهيداً مبكرا للجولة الانتخابية المقبلة مثلما أعلنه قبل أيام السيد عمار الحكيم بالدعوة لمشروع “الجبهة الوطنية” بعد فشل مشروع “التسوية التاريخية” الذي طرحه العام الماضي.إن مواجهة تحدي الإرهاب الفكري ليست عملية سهلة بل تتطلب إستراتيجية كبيرة فيها رؤية واضحة تؤهل لمثل هذه المواجهة وبرنامج شامل وليست نظرة ذات بعد حزبي أو مذهبي محدود. وهذه الرؤية تتطلب مستلزمات وشروط وفق حملة وطنية كبرى على مستويات الثقافة والمعرفة والإعلام ومؤسسات أكاديمية وبحثية كالجامعات ومراكز البحوث وفضاء الحرية الواسع لعرض الأفكار الخاصة بأدوات وأساليب مثل هذه المعركة الكبيرة، وتتضافر فيها جهود دولية لأنها فوق طاقة وإمكانيات دولة واحدة، وهي إمكانيات أكبر بكثير من تلك التي سخرت من جميع دول العالم الكبرى، وما زالت، لهزيمة داعش عسكرياً، وليس مثلما هو حال العراق حالياً.ومع ذلك فإن هذا البلد مؤهل لخوض المعركة الفكرية ضد الإرهاب والتطرف وليس تحت اسم داعش مثلما قصده العبادي في خطابه، لأن هذا التنظيم إذا ما انتهى سيولد عنه جيل آخر من التطرف والإرهاب إذا ما توفرت له التربة الصالحة للنمو.كما إن مثل هذه الحرب الفكرية والسياسية المطلوبة ستقود قادة البلد إلى العودة للمعادلة التي تحدثنا حولها كثيرا وهي إرساء دعائم نظام سياسي ديمقراطي منفتح وعادل لا ديني ولا مذهبي ولا عنصري منغلق، نظام يعطي الحقوق لجميع المواطنين بلا فوارق مذهبية.إن الانطلاق بالمشروع اللاطائفي هو الذي سيفتح الأبواب الواسعة للمواجهة الفكرية الجادة والحقيقية ضد الإرهاب والتطرف. وهو ما يمكن للعبادي القيام به إذا ما وثّق شعاراته السياسية بخطوات عملية سريعة وليست وعود انتخابية، إن هو أراد ذلك، وإذا ما بنيت أسس النظام السياسي على أساس التخلص من سطوة الإسلام السياسي المؤدلج فسيكون خط الشروع لهذه المعركة متيسراً ولا يحتاج العراقيون ونخبهم إلى كثير من عناصر المعرفة عبر الندوات والمؤتمرات على أهميتها لإعطاء تفسيرات لمصطلحات جاهزة لتحديد مفهوم الإرهاب الفكري، فتجربتهم مع داعش دليل واقعي على هذه الهجمة الفكرية والعسكرية الشاذة حيث احتلت مجموعة متطرفة استخدمت شعارات الإسلام التكفيرية غطاء للهيمنة واحتلال أرض وطنية لدولة كانت لها مكانتها بين دول العالم، فاحتلت الأرض لمدة ثلاث سنوات واستوطنت في البيئة البشرية التي تحدثت بمظلوميتها، لكن هذا التنظيم البشع قتل أبناء تلك المدن الذين رفضوا دعواته ودمّر بيوتهم، كما واجه العراقيون بصورة متواصلة وتعرفوا ميدانياً على عملياته الانتحارية بالأحزمة الناسفة وغيرها التي أكدت بأن الإقدام على الانتحار وفقدان الحياة ليس تلبية لإيمان إسلامي مثلما أكدت الإحصائيات الميدانية بأن الأفراد الذين يقومون بتفجير أنفسهم عادة ما يأتون من بيئات مقهورة ونتيجة للحاجة والعوز، كما إنهم خضعوا لعمليات غسل دماغ وحقن آيديولوجي متطرف.
وقبل تحديد مستلزمات المواجهة الإستراتيجية الجادة للإرهاب الفكري يجب أن يكون معلوما بأن منطلقات الإرهاب الفكري تنتج من حالتي الغلو ونفي الآخر، وليست من طرف واحد وهو المستهدف فقط، كما في الحالة الداعشية، وقد تبرر الحرب على الإرهاب لممارسة الإرهاب الفكري ضد كل ما هو مخالف.
أثبتت وقائع التاريخ الفكري والسياسي الإسلامي بأن الطائفية المذهبية تقود إلى التطرف وهو المناخ الحيوي للإرهاب الفكري، وهذا حصل في جدلية “التكفير والتبديع” وفي النزعة الأحادية بالتفكير وإلغاء الآخر كما حصل هذا في التاريخ المعاصر حين عظم النازيون العرق الآري بأنه فوق البشر، كما حصل في فرضيات سياسية للإرهاب الفكري مثل القانون الأميركي حول اللاسامية الذي حرّم كل من يتوجه لليهود بالنقد بوصفه إرهابيا وكارها لليهود.كما حصلت حالة ذات مدلول قريب من ذلك بعد عام 2003 في العراق حيث سنّت قيادة الاحتلال الأميركي قانونا لاجتثاث المنتسبين لحزب البعث تم تضمينه في الدستور، ومنعهم من ممارسة حق الوظائف العليا في الحكومة أو ممارسة النشاط الفكري والسياسي إلى جانب وقائع ومظاهر سياسية كثيرة سادت فيها لغة التطرف وإلغاء الآخر وتحميل طائفة معيّنة ما حصل لطائفة أخرى من مظالم سياسية تم تغليفها ظلماً وجوراً بأغلفة طائفية قادت إلى خيبات متتالية هيأت الظروف للنزعات المتطرفة وأتاحت لقوى الإرهاب الدخيل على العراق التمكن من الأرض.
إن أولى متطلبات المعركة ضد الإرهاب الفكري في منطقتنا، وفي العراق بصورة خاصة، هي توحيد النظرة إلى الإرهاب والإرهابيين وكذلك لمخاطر الإرهاب الفكري. فالإرهاب الفكري قد يحصل داخل البيئات السياسية التي تحمل فكراً طائفياً منغلقاً ونظريات أيديولوجية جاهزة تجد أنها تمتلك الحقيقة دون غيرها، وكذلك حين يصل الاستبداد بالحزب أو الحاكم درجة التشكيك أو تخوين الآخرين وغلق جميع نوافذ الحوار الفكري والسياسي معهم. والعبادي يحاول في رسالته الإعلامية أن يفتح المعركة ضد الإرهاب الفكري لكنه يحصره بالإرهاب الداعشي، رغم أن الإرهاب لا ينحصر في هذا التنظيم كما أنها تسمية مرحلية ولا بد من تخفيف وزنها الإعلامي بعد اندحار التنظيم عسكرياً في العراق.كما أن الفكر الداعشي هو وليد نظريات التطرف في الفكر الإسلامي التي قد لا تنحصر بما يسمون السلفيون، والتي قد تتجدد بأشكال مختلفة، ولا بد من عدم إبعاد شبح الإرهاب الفكري عن التنظيمات والأحزاب والمنظمات الأخرى والتي تتغلف بغطاء الإسلام بجميع مذاهبه.وإذا كانت المعركة العسكرية ضد تنظيم داعش الإرهابي قد بدأت وانتهت بزمن قصير ومعلوم، فإن المعركة ضد الإرهاب الفكري طويلة وقد تحقق نتائجها الإيجابية على مستوى المجتمع والأفراد بفترة قصيرة، ويمكن عزل الفكر الإرهابي، وهي معركة تعتمد على تحفيز ثقافة الحوار والسلم الاجتماعي ودعمها بإجراءات سياسية واضحة وملموسة، وخلق بيئة اجتماعية عراقية متجانسة يكون للشباب فيها دور البناة، ويقضى نهائياً على ثقافة التشظي الطائفي وتجديد محركاتها ودعمها في وسائل الإعلام المحلية الطائفية، وحين تحرّم الطائفية كثقافة وسلوك عند السياسيين، والثابت أن ليس كل من يطلق شعار محاربة الإرهاب الفكري قادرا على ذلك. فمن يحارب هذا النوع من الإرهاب يجب أن يستند على نظام سياسي نظيف وعادل، وحين تذوب حالة التهميش السياسي والخوف من المظاهر المسلحة غير الحكومية، وحين لا يخاف المعارض الوطني من التهم الملفقة التي تنتظره إن قال رأيا لا يعجب ذلك القائد الحزبي أو الحاكم. المعركة ضد الإرهاب الفكري ليست نزهة أو شعاراً سياسياً عابرا.