15 نوفمبر، 2024 10:44 ص
Search
Close this search box.

ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي

ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي

عرض/ محمد مسعد العربي
على الرغم من أن موجات الثورات العربية قد مثَّلت تحديًا للأسس الفكرية التي تقوم عليها المدرسة الاستشراقية، إلا أن الاستشراق أثبت قدرته على البقاء باعتباره المنظور التحليلي الأوسع والأرسخ الذي تنظر به مدارس التحليل الغربية للمجتمعات الإسلامية ككل والظاهرة الإسلاموية على وجه الخصوص. فمن ناحية، ساد في التحليل الغربي القول بأن خيار الديمقراطية الذي نادت به الثورات هو الأبعد عن متناول الشعوب العربية، كما أشار لذلك برنارد لويس في حوار صحفي له في أعقاب الثورة المصرية. ومن ناحية، نظرت هذه المدرسة لصعود حركات الإسلام السياسي إلى سُدَّة الحكم في أعقاب الثورات خاصة في مصر وتونس على أنه تعبير عن جوهر إسلاموي متمكن في ثقافتها، وتنسحب هذه النظرة الجوهرانية الاستاتيكية على الحركات الإسلامية؛ حيث تسود منظورات تنفي عنها إمكانية التغير أو التحول، وتُرجع هذا إلى ركود الثقافة الأصيلة التي تعبِّر عنها هذه الحركات على تنوعها واختلاف سياقات فاعليتها. حتى تلك التوجهات التي تحاول رصد التحولات الطارئة على بنية وسلوك هذه الحركات تفتقد في تحليلها البحث عن منطق التحولات وأسبابها الكامنة وسياقاتها ومساراتها.

يمثِّل هذا العمل المهم، (ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي)، الصادر في أواخر العام الثالث للثورات العربية محاولة لنقض هذا الاتجاه السائد من خلال إعادة قراءة تاريخ الحركات الإسلامية في عدد من بلدان العالم الإسلامي من خلال مفهوم ما بعد الإسلاموية باعتباره منظورًا لإعادة تقييم هذه الحركات، والأهم قراءة القوى الكامنة وراء تحولاتها وتغيراتها في سياقاتها الاجتماعية والسياسية.

شارك في مشروع هذا الكتاب عدد من المختصين في حركات الإسلام السياسي من ذوي الخلفيات والمشارب البحثية المتنوعة، وحرره آصف بيات، عالم الاجتماع البارز الأميركي إيراني الأصل، أحد أبرز خبراء الشرق الأوسط في الدوائر الأكاديمية الغربية، اشتُهر بيات بدراسته لديناميكيات مجتمعات الشرق الأوسط التي أبرزها في كتابيْه:

سياسات الشارع: حركة المستضفين في إيران “Street Politics: Poor Peoples Movements in Iran (1997)”.
والحياة كسياسات: كيف غير الناس العاديون الشرق الأوسط “Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East (2010) “.
ويُعتبر أهم منظِّري مفهوم ما بعد الإسلاموية الذي أسَّس له في كتابه: إنشاء الديمقراطية الاسلامية: الحركات الإجتماعية ومنعطف ما بعد الاسلاموية “Making Islam
Democratic: Social Movements and the Post-Islamist Turn (2007)”.

يعمل بيات حاليًا أستاذًا لعلم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط بجامعة إلينوي-إربانا شامبين بالولايات المتحدة. اقترب بيات من ظاهرة الربيع العربي عبر مفهوم “اللاحركات الاجتماعية غير السائدة”، حيث ينظر إلى ديناميكات الحركة الداخلية لمجتمعات الشرق الأوسط غير المنضبطة في حركات منظمة باعتبارها الأساس الذي ينبني عليه التغيرات الاجتماعية الكبرى، مثل الثورات، عبر التراكم. وقد تواكبت هذه اللاحركات في شكل انتفاضات الشارع العربي السياسي التي أطاحت بنظم سياسية كاملة، في هذه المرحلة التاريخية التي تسود فيها ما بعديات السرديات الكبرى التي هيمنت على المنطقة وهي القومية والإسلاموية (1)، ومن هنا اعتبر أن الربيع العربي تعبير عن لا حركات ما بعد إسلاموية.

الإسلاموية وما بعدها: المفاهيم

لا يمكن فهم تحولات الإسلام السياسي المشار إليها إجمالاً بما بعد الإسلاموية، دونما تحديد لنقيضها المنطقي، وهي أيديولوجيا الإسلاموية التقليدية، ويرى بيات أن اهتمام الإسلاموية الرئيسي يتمثل في بناء مجتمع أيديولوجي تتحقق فيه مُثُل الإسلام المتصورة وأن السيطرة على الدولة هي الطريق الرئيس لتحقيق هذه الغاية “لأنهم يعتبرون الدولة هي المؤسسة الأقوى والأقدر على إقامة “الخير” ومحو “الشر” من مجتمع المسلمين. وبالتالي يؤكد معيار الإسلاميين ومنظورهم التشريعي على التزامات الناس أكثر من حقوقهم، وفي هذا الإطار، يُنظر للناس على أنهم “رعايا مطيعون أكثر من كونهم مواطنين ذوي حقوق”. وبالطبع يتنوع الإسلاميون في أدواتهم وسبل تحقيق هذه الدولة وذلك المجتمع بين الإصلاحي السلمي والثوري العنيف، وبعد انكسار أغلب الحركات الإسلامية المسلحة، مثل جماعات الجهاد في بلادها، توجه الإسلاميون لتكوين إسلاموية انتخابية تعلن إيمانها بالديمقراطية كأداة للمشاركة السياسية. وعلى الرغم من أن التحليل الحداثي للظاهرة الإسلاموية يربطها بالتعبير عن التقليدية والسلفية الفكرية، نجد أغلب المنتمين إلى هذه الحركات من ذوي مشارب وخلفيات مهنية حداثية؛ حيث تغلغلت هذه الحركات في بنية الطبقات الوسطى المدينية، ووقفت على التضاد من المؤسسات الدينية التقليدية خاصة فيما يتعلق بتفسيرها للرؤية السياسية للدين. ولعل جماعة الإخوان المسلمين المصرية خير تعبير عن هذه الإسلاموية التقليدية.

أما ما بعد الإسلاموية، فهي ككل مصطلح “ما بعدي” تتسم بالسيولة الشديدة من حيث تعريفها، فقد اصطُلح فلسفيًّا، على أن الــ”ما بعد” تشير إلى انتهاء توجهات معينة دونما النجاح في تأسيس غيرها، أو إلى تحولات عميقة داخل ظاهرة فكرية واجتماعية تنبئ بتطورها على نحو مغاير لأصول تكوينها. استخدم المحللون الغربيون المصطلح للإشارة إلى نهاية مرحلة الإسلام المقاتل وبداية مرحلة جديدة اتجه فيه الإسلامويون إلى تبني الانتخابات بديلاً عن الرصاص كما أوضح أوليفيه روا عالم الاجتماع الديني الفرنسي الشهير في كتابه “فشل الإسلام السياسي” (2)، وبالتالي استخدم المفهوم على نحو تاريخي لا تحليلي.

التقط بيات المفهوم مبكرًا، ليحلل به التحولات التي لحقت بالجمهورية الإسلامية في إيران في مرحلة ما بعد الخميني في دراسته The coming of Post-Islamism Society (1996) وانصبَّت حول التحولات الاجتماعية الطافية على المشهد الإيراني وحده دون أن تتناول غيره. في هذا العمل يتناول بيات ما بعد الإسلاموية باعتبارها “حالة” و”مشروعًا”. والمفهوم الأول يشير إلى الوضعية التي تتآكل فيها شرعية وجود الحركات الإسلاموية سواء كانت في المعارضة أو في السلطة، بما يدفعها إلى تجديد نفسها ومراجعة أصولها الفكرية وبنية مشروعها الفكري والسياسي. أما بالمفهوم الثاني فهي محاولة واعية لوضع “استراتيجية ومفاهيم لتخطي الإسلاموية في المجالات الفكرية والسياسية، فما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلامية أو غير إسلامية أو علمانية، إنها تمثل جهدًا لدمج التدين بثقافة الحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالحرية الفردية. إنها محاولة لقلب مبادئ الإسلاموية رأسًا على عقب بالتأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، والتعددية بدلاً من الأحادية، والتاريخانية بدلاً من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلاً من الماضي. وعلى الرغم من تفضيلها للدولة المدنية غير الدينية، فإنها تسعى لإدراج دور للدين في المجال العام. وتحاول دراسات الكتاب التي تناولت عشر دول إسلامية كبرى استكشاف هذه الحالة وذلك المشروع على أنحاء متباينة.

ما بعد الإسلاموية: نقد من داخل الحركة

ركزت دراسة بيات “the making of Post-Islamism in Iran” على تفسير التحولات التي ألمت بالمجتمع الإيراني في مرحلة ما بعد الخمينية، وأنتجت ما بعد إسلاموية مغايرة لأيديولوجيا الدولة المؤسسة على ثيوقراطية الولي الفقيه، قوامها “سلسلة من الحركات الاجتماعية والفكرية يقودها الشباب والطلبة الذين اخترقوا هيمنة الأجهزة الثورية على اتحاداتهم، والنساء اللائي طالبن بإعادة تقييم القوانين التي تحد من حقوقهن الشخصية وحركتهن في المجال العام، والمفكرون الدينيون الذين قاموا بجهد لإعادة تأويل النصوص الدينية على ضوء الواقع المعاصر للمجتمع والعصر ودعوا إلى تجاوز التفسير الواحد للمقدس”. عبَّرت هذه الحركات عن نفسها سياسيًّا مع انتخاب الإصلاحي محمد خاتمي رئيسًا 1997 عقب الانفتاح الذي صنعته مرحلة هاشمي رفسنجاني البراجماتي. استعان خاتمي بكثير من المفكرين الذين مثَّلوا انقطاعًا عن المحافظية الخمينية التقليدية. غير أن هذا الانتصار السياسي جابهته تحديات من داخل النظام وأجهزته الأيديولوجية المتغلغلة في المجتمع فصبَّت في الاتجاه المضاد لإصلاح الفكر والمجتمع، وبعد سيادة هذا الاتجاه المضاد (المحافظ) في فترة رئاسة أحمدي نجاد، عبَّرت الحركة الخضراء 2009، عن استمرار التحولات الاجتماعية المعبِّرة عن انحسار شرعية النظام وأيديولوجيته عقب الصراع في الانتخابات الرئاسية بين نجاد ومير حسين موسوي ومهدي كروبي.

يسود اعتقاد في مدارس التحليل الغربية أن حالة حزب العدالة والتنمية التركي تجسد تطورًا ما بعد إسلامويٍّ نموذجيًّا يعمل الإسلاميون على احتذائه في صناعة نموذج الديمقراطية، غير أن الكتاب يتناول هذه الحالة التركية من وجهتي نظر مختلفتيْن؛ تمثل دراسة إحسان داغي: النسخة التركية لما بعد الإسلاموية ” Post-Islamism a la Turca” وجهة النظر القائلة بأن تجربة العدالة والتنمية هي نموذج ما بعد إسلاموي، قام فيها الإسلاميون الأتراك باستبدال “الخلق/الناس” بـ”الخالق/الحق” فقد خاضوا السياسة باسم الشعب لا الإسلام وزاوجوا بين خدمة الناس وخدمة الله، وفي انفصالٍ عن الإسلاموية التقليدية أعلنوا أن “الإسلام ليس أيديولوجية والقرآن ليس دستورًا”، هذا التحول يحاول داغي أن يستكشف جذوره التاريخية في إطار ردَّة الفعل المجتمعية والفكرية على سياسات الجمهورية الكمالية؛ حيث حاولت حركة الميلي جورش في السبعينات أن تعيد طرح الإسلام في المجال العام، وعكست أحزاب نجم الدين أربكان “السلامة ثم الفضيلة ثم السعادة” النسخة التقليدية من الإسلاموية الحزبية المحافظة التي اصطدمت بالدولة الكمالية فأقصتها الأخيرة عن السلطة في انقلاب 1996. وعمل شباب حزب الفضيلة وعلى رأسهم عبدالله جول وطيب أردوغان على تجديد استراتيجة الحركة وإعادة طرحها في المجال العام وفي السياسة على أسس جديدة “ما بعد إسلاموية”. يقول داغي: “إن حزب العدالة والتنمية يعكس بالتأكيد حركة ما بعد إسلاموية تحافظ على روابطها بالإسلام في المجال الاجتماعي فيما ترفضه كبرنامج سياسي، إنها ترمي إلى بناء مجتمع تقي في إطار دولة علمانية ديمقراطية”.

غير أن جيهان توجال في دراسته: الإسلام وتخندق النزعة المحافظة التركية ” Islam and Retrenchment of Turkish Conservatism” يخالف هذا الطرح. يرى داغي أن العدالة والتنمية ليس إلا تعبيرًا عن “المحافظية التركية” التي يعرِّفها بأنها “مؤسَّسة على قبول التحديث، وجزئيًّا التغريب، غير أنها تقف بالتضاد مع التحديث من أعلى الذي قامت به النخب العلمانية. إن المحافظين الأتراك يقدمون الديمقراطية باعتبارها صوت الأمة الحقيقي في مواجهة النخب المغتربة والمغرَّبة. هذه الأمة المتجانسة هي حاملة القيم التركية والإسلامية الحقة، ومن هنا يعتبرون الأقليات مثل (العلويين الشيعة) مصدر شكٍ وهم حلفاء للنخب العلمانية”. تعول المحافظية على تقوى الأفراد دون حاجة إلى أسلمة المؤسسات. وهي كنظيراتها الغربية “تناصر الملكية الفردية ومعادية للاشتراكية، وترى أن محو الاختلافات الداخلية شرط مسبق للتنمية”؛ ومن ثم هي سلطوية منافية لتعددية ما بعد الإسلاموية. تطورت هذه المحافظية ذات القاعدة الأناضولية الفلاحية في مواجهة كماليِّي واشتراكيِّي الحواضر مع تطور الإسلاموية التقليدية وإن كانت أبعد منها في جذورها. وحزب العدالة والتنمية هو المعبِّر عن عودة هذه المحافظية بقوة، رفض الحزب أن يقف على قاعدة إسلاموية لكنه دعا إلى ديمقراطية محافظة، اجتذبت كل روافد المحافظية خاصة الريفية ورجال الأعمال والإسلاميين. وتعتبر شخصية أردوغان زعيم الحزب خير تعبير عن هذه المحافظية في ثوبها السلطوي، ويقول توجول: “إن أردوغان المعروف بشخصيته السلطوية داخل الحزب يلجأ إلى ثلاثة أسلحة في مواجهة الاحتجاج الاجتماعي: المسؤولية الفردية، النمط السلطوي المشخصن، واستخدام الدين كأداة، وإن هذا الخليط من الفردانية والسلطوية والدين التقليدي هو أبعد ما يكون عن ما بعد الإسلاموية التي تعوِّل على إعادة تأويل الدين في ضوء الحرية بدلاً من الواجب الفردي”.

في دراسته: ما بعد الإسلاموية المغربية: معانقة الإتجاه أو السراب؟ “Moroccan Post-Islamism: Embracing Trend or Chimera?”، يتناول سامي زميني حالة الحركات الإسلامية المغربية بتاريخها منذ ما بعد الاستقلال حتى وصولها إلى السلطة في أعقاب الربيع العربي وموقع ما بعد الإسلاموية من تحولاتها، ويرى ضرورة الفصل بين هذه الظاهرة باعتبارها مفهومًا سياسيًّا والفهم الاجتماعي لها خاصة عند تناول حالة حزب العدالة والتنمية المغربي، وموقعه منها فيستخلص أن “ما بعد الإسلاموية تصبح حقيقة في المجتمع المغربي اليوم، ذلك مع التوسع في التفسير الفرداني للإسلام بعيدًا عن التقاليد. ولا تعبِّر ما بعد الإسلاموية بحق عن حالة حزب العدالة والتنمية ولا يمكن استخدمها لفهم سلوكه السياسي أو التنبؤ به، والأفضل تركيز المفهوم على التغيرات الكائنة في الواقع الاجتماعي من حيث تحول مفاهيم التدين وطبيعته”.

في إندونيسيا، أدى إسقاط حكم الديكتاتور سوهارتو إلى إطلاق الحكم الديمقراطي والحركة الجهادية المقاتلة على حد سواء، كما يجادل بـهذا نور هادي حسن في دراسته: ما بعد الإسلاموية السياسية بأندونيسيا ” Post-Islamist Politics in Indonesia”.

لقد أعلنت الحركة الجهادية عزمها تحقيق مجتمع إسلاميٍّ، بإسقاط الدولة الحالية؛ وأدى هذا إلى إدارك النخب الفكرية الإسلامية خطورة مثل هذا التوجه على الدين والمجتمع والسياسة، فنشطت حركة فكرية، يصف حسن أجندتها بما بعد الإسلاموية سعت إلى نشر فهم صحيح للإسلام يقوم على نشر “التعددية الثقافة والمساواة بين الجنسيْن والعدالة والحريات المدنية والقيم العالمية المتضمَّنة في الإسلام باعتباره رحمة للعالمين”، وعبَّر حزب العدالة PKS عن هذه الحركة الفكرية وخاض الحياة السياسية رافضًا الحديث عن تطبيق الشريعة ومعلنًا السعي نحو تطبيق مقاصدها.

ما بعد الإسلاموية المترددة

ويعود بيات ليركز على الحالة المصرية في دراسته: مصر وإسلامويتها غير المؤكدة ” Egypt and its unsettled Islamism” وفيها يركز على الحالة الإسلامية العامة التي طغت على المشهد السياسي والاجتماعي المصري منذ الثمانينات وما تلاها من ربع قرن من التصارع بين الدولة والحركة الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، على شرعية تمثيل الدين. ويرصد بيات حالة أسلمة المجال العام التي جعلت من الدولة المصرية دولة علمانية شبه دينية، وتأثيرات هذا على المجال العام ومجالات التدين. ويركز بيات بمنهج أنثربولوجي نافذ على ظواهر اجتماعية أشَّرت على صعود ما بعد إسلاموية جنينية ارتبطت بالنضال من أجل الديمقراطية بعيدًا عن ثنائية الصراع بين الجماعة والدولة.

ويتساءل جوزيف الآغا في دراسته: انفتاح حزب الله: منعطف ما بعد إسلاموي؟ ” Hizbullah’s Infitah: A post-Islamist Turn?” عما إذا كانت تحولات الحزب الشيعي الأكبر في لبنان منذ نشأته العسكرية حتى الآن يمكن أن تكون ما بعد إسلاموية. هنا يرصد الآغا تحولات في السلوك السياسي للحزب يمكن رؤيتها بوضوح على أنها انفتاحية تعددية فيما ظل خطابه إسلاميًّا ثوريًّا لا يفتأ التأكيد على سعيه نحو دولة إسلامية خمينية تقوم على ولاية الفقيه. يقول الآغا: “إن الواقع الموضوعي السياسي والاجتماعي للبنان، قد دفع الحزب الإسلاموي الخميني إلى طريق ما بعد إسلاموية غير أنها ما بعد إسلاموية براجماتية وانتقائية وغير متسقة”.

ما بعد الإسلاموية: نقد من خارج الحركة

نشأت في باكستان قبل استقلالها أقدم حركات الإسلام السياسي وهي جماعتِ إسلام، وتوضح حميراء اقتدار في دراستها: بقايا ما بعد الإسلاموية بباكستان: تفرعات الإسلاميين ومساراتهم المتعارضة ” Post-Islamist Strands in Pakistan: Islamist Spin-Offs and Their Contradictory Trajectories”، أن الجماعة على الرغم من قوة تأسيسها تعرضت لانشقاقات في اتجاه الجهاد كـ”عسكر طيبة”، واتجاه الدعوة والخدمة العامة كـ”جماعة التبليغ”، ثم نمت على سطح المشهد توجهات فكرية تسفر عن رفضها لإسلاموية الجماعة وتدعو إلى اجتهادات علمانية حداثية التقطها مشروع برويز مشرف لعلمنة الدولة. غير أن هذا المشروع ارتبط بتحالف نظام مشرف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب مما أدى إلى اتساع قاعدة المحافظية في المجتمع ووصم مشروع العلمنة “ما بعد الإسلاموية” بالتحالف مع الغرب الذي يشنُّ حربًا على أفغانستان المجاورة، وامتدت حربه إلى داخل الباكستان.

كانت هذه المحافظية أيضًا هي السبب الرئيس لعرقلة تطور ما بعد الإسلاموية في السعودية العربية، كما يحلل ستيفان لاكروا في دراسته: العربية السعودية وحدود ما بعد الإسلاموية ” Saudi Arabia and the Limits of Post-Islamism”.

لقد تطورت حركة الصحوة (3) من مزيج وهَّابي وإخواني، وأنتج في مرحلته الأخيرة حركة فكرية إسلامية ليبرالية ذات نزعة إصلاحية ترمي إلى انفتاح المجتمع وإصلاح النظام السياسي. ولقد فشل الإسلاميون الليبراليون، وفقًا للاكروا، في تجاوز الخلافات بين الإسلاميين والمفكرين العلمانيين، والأهم من هذا أنهم “فشلوا في كسب ثقة المجتمع الذي توجهوا إليه، وفشلوا في الحصول على دعم العلماء ذوي النزعة المحافظة، بل خلقوا عداء تجاههم. وللتغلب على هذا، كان على ما بعد الإسلامويين أن يبحثوا عن مصادر بديلة للشرعية”. ويتنبأ لاكروا بأن ما بعد الإسلاموية السعودية ستبقى محدودة التأثير والانتشار وأن مستقبلها سيعتمد على الشباب الناشط إلكترونيًّا أكثر من المفكرين الليبراليين.

تعبِّر الحالتان السودانية والسورية عن ما بعد إسلاموية مبكرة وسابقة على التحولات الشاملة التي شهدتها مجتمعات المنطقة منذ السبعينات. يرى عبد الوهاب الأفندي في دراسته: الإسلاموية في السودان: قبل، وبعد ومابينهما ” Islamism in Sudan: Before, after in Between”، أن الثورة المهدية في سودان القرن التاسع عشر أسست لأول نظام إسلامي شامل في المنطقة، ثم عادت بعد هزيمتها في ثوب جديد يراه الأفندي ما بعد إسلامويٍّ بامتياز. وبعد استقلال السودان تشكَّلت حركة إسلامية جديدة قوامها “الإسلاميون الاشتراكيون والإسلاميون الجمهوريون” وخطابها تمتزج فيه “مبادئ التصوف بالحريات السياسية والعدالة الاقتصادية والمساواة الاجتماعية”. هذا المزيج عبَّرت عنه أفكار محمود طه التقدمية في قراءتها للإسلام المناهضة لنظام جعفر النميري الساعي إلى تطبيق الشريعة وأدَّت إلى إعدامه. غير أن التأويل المتحرر للنصوص عبَّر عن نفسه مرة أخرى في شخص حسن الترابي ذي التكوين الإخواني السابق في صراعه مع نظام البشير.

وأخيرًا، يتناول توماس بيريه في دراسته: التوجه الإسلامي السوري غير الإعتيادي: الإصلاحيون السياسيون، العلماء والديمقراطية ” Syria’s Unusual “Islamic Trend”: Political Reformists, the Ulema and Democracy”، حركة الإخوان المسلمين في سوريا باعتبارها تعبيرًا مبكرًا عن ما بعد الإسلاموية، فمنذ تأسيس الجماعة في الأربعينات، قبلت بمبادئ الدولة الليبرالية الحديثة مثل الانتخابات الحرة ومواطنة غير المسلمين “لقد نتجت مرونة الإخوان السوريين نتيجة نمو كوادرهم ضمن النظام الديمقراطي (في مرحلة ما قبل الانقلابات)، فكساسةٍ محترفين، كان عليهم التكيف مع ضرورات مثل جذب الناخبين والتحالف مع أحزاب علمانية” غير أن الحركة لم تكن بالتماسك المتوقع، فإلى جانب الكوادر الحديثة كان هناك العلماء الذين سيطروا على الحركة في مواجهة سياسة القمع البعثية، حتى وصل الصراع إلى مرحلة اللاعودة (1979-1982) عندما سيطرت أيديولوجية المفاصلة والجهاد على الحركة، وعزم نظام الأسد على سحقها كما حدث في حماه.

تتميز دراسات الكتاب بقدرتها على طرح رؤى مركبة للظاهرة الإسلاموية وما بعدها، على نحو يبعدها عن التفسيرات الواحدية الساذجة، فهي تتناول شبكة من العوامل الاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية المسببة لتحولات الظاهرة. كما أن الكتاب غطى تواريخ وحالات عديدة على امتداد العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، غير أن مشروع الكتاب أغفل تحولات الاجتماع والسياسة الطارئة على الجاليات الإسلامية في الغرب، كحالة تسهم في تغطية أشمل للظاهرة ما بعد الإسلاموية، وقد عمل أوليفييه روا في كتابه (4) الإسلام المعولم Globalized Islam.

على رصد هذه التحولات التي يجسدها بزوغ الإسلام الأوروبي، ودعاته من المفكرين المسلمين الداعين إلى دمج الجاليات الإسلامية في محيطها الأوروبي.

يمكن القول: إن وجه القصور في الكتاب يعود إلى الموضوع، أي: ما بعد الإسلاموية نفسها، فالمفهوم كما أشرنا سابقًا يتسم بقدر كبير من السيولة من حيث تعريفه وحدوده، لهذا، نجد أن هناك ما بعد إسلامويات متعددة في كل من دراسات الكتاب، تحيل بعض هذه الدراسات إلى مفهوم بيات عن الظاهرة، فيما يتبنى بعضها الآخر تعريفات مغايرة وإن كانت تقترب من المفهوم الذي حاول بيات تثبيته، أي: إن طبيعة الظاهرة حالت دون إيجاد إطار نظري موحد يسير عليه مشروع الدراسات. من ناحية أخرى يتسم بعض الدراسات بالقدم قياسًا على ما حملته الأيام من أحداث وتحولات ذات دلالات عميقة على الظاهرة التي يعالجها الكتاب (5) ، لقد ارتكزت دراسة بيات مثلاً على تحولات التسعينات ولم تتناول الحركة الخضراء في نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي إلا بالإشارة. وكذلك دراسته عن مصر التي توقفت عند فشل الحراك الديمقراطي في عهد مبارك، ولم تشر لتحولات الثورة إلا لمامًا. ويرتبط بهذا النقد، أن دراسات الكتاب تفتقد البعد المستقبلي في تحليلها للظاهرة، فلم يُجب أيٌّ منها عن سؤال مستقبل ما بعد الإسلاموية وهل ستكون هي البديل أمام إخفاق الإسلاموية أم أن هذا الإخفاق سيودي إلى العودة إلى الفهم الراديكالي للدين؟ وبشكل عام لا يجب أن تؤدي بنا الأحداث إلى أحكام سريعة كما يؤكد بيات في مقدمته، ويُحسَب للكتاب قدرته على تقديم أطر مغايرة ومركبة في فهم واقع الإسلام السياسي وربما مستقبله أيضًا.

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي
المؤلف: تأليف جماعي، تحرير: آصف بيات Asef Bayat
الناشر: Oxford University Press, New York
عدد الصفحات: 351
____________________________________
محمد مسعد العربي – باحث علوم سياسية بمكتبة الإسكندرية

الهوامش
1- انظر:
Asef Bayat, Revolution in bad times, New Left Review. 80, March-April 2013
http://newleftreview.org/II/80/asef-bayat-revolution-in-bad-times
2- Olivier Roy. The Failure of Political Islam, Harvard University Press, 1996
3- أرَّخ لا كروا للحركة الإسلامية السعودية في كتابه: زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2012.
4- Olivier Roy, Globalized Islam: The Search for a New Ummah, New York: Columbia University Press, 2004
5- أبرز الأمثلة على هذه التحولات حالة حزب الله اللبناني، الذي أكد انخراطه في حرب سوريا إلى جانب نظام الأسد على أساس طائفي، فإن ممارسات الحزب قد ارتدت إلى منطق إسلاموي طائفي، وهو الأمر الذي سيعوق تطوره حتى مع نهاية الحرب.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة