إذا كنا سنتحدث في هذا المقال عن الثورة الصناعية الرابعة فلا بد من التعرض ولو بإيجاز لما سبق هذه الثورة من مراحل، فالثورة الصناعية الأولى استندت إلى طاقة الماء والمحركات البخارية لإنتاج الميكانيكا، إذ ساهم اختراع جيمس واط، العام 1775، في امتداد الصناعة في القرن الـ19 من إنجلترا إلى أوروبا والولايات المتحدة، أما الثورة الصناعية الثانية فاستندت إلى الطاقة الكهربائية لخلق الإنتاج الضخم، وكان ذلك أهم سماتها، وقد بدأت في أوائل القرن العشرين، مع إبداعات هنري فورد، في خط الإنتاج الشامل، ومع نهاية القرن الماضي بدأت الثورة الصناعية الثالثة، حيث ظهرت الإلكترونيات الدقيقة، وقوة الكمبيوتر في مجال التصنيع، فاستخدمت الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لأتمتة الإنتاج، والآن بدأت الثورة الصناعية الرابعة، مستندة إلى الثورة الصناعية الثالثة، وذلك منذ منتصف القرن الماضي، وتتميز بمزيج من التقنيات التي تتداخل فيها الخطوط بين المجالات الفيزيائية والرقمية والبيولوجية، حيث اتخذت الروبوتات على عاتقها المهام الجسدية الصعبة والخطيرة، من أجل الحفاظ على سلامة المصنع وراحة العمال وجودة المنتج.
وثمة ميزات رئيسة يمكن أن نلمسها، وهي لا تمثل مجرد إطالة للثورة الصناعية الثالثة، أو تعبر عن امتداد لها، ولكنها تمثل وصولاً رابعاً، ومتميزاً، لا ينفصل عما سبقه، لكنه في الوقت ذاته، مكتفٍ بنفسه أيضاً، فمن الصحيح أن الثورات الصناعية السابقة أدت إلى تحرير البشرية من الطاقة الحيوانية، وجعلت الإنتاج الضخم ممكناً، وحققت قدرات رقمية لمليارات البشر، إلا أن الثورة الصناعية الرابعة تختلف اختلافاً جوهرياً، فهي تتميز بمجموعة من التكنولوجيات الجديدة التي تجمع بين العالم المادي والعالم الرقمي والعالم البيولوجي، مما يؤثر في جميع التخصصات والاقتصادات والصناعات، وحتى الأفكار الصعبة حول ما يعنيه أن تكون إنسانية، وتلك المميزات الثلاثة لهذه الثورة تتمثل في السرعة ومستوى التعقيد، والنطاق الذي يتسع ليشمل كل مناحي الحياة ومجالاتها، ثم تأثير الأنظمة وتعددها، إذ يمكن لهذه الثورة إحداث تغيير جذري في العلاقات بين الدول والشركات والمجتمعات، داخل كل منها، وفي ما بينها، وكذلك فإن سرعة الاختراقات الحالية ليست لها سابقة تاريخية، وبالمقارنة مع الثورات الصناعية السابقة، فإن الثورة الصناعية الرابعة تتطور بسرعة هائلة، وليس خطية، وعلاوة على ذلك فإن تطوراتها المتلاحقة تعطل كل صناعة، تقريباً، في كل بلد، وتشهد اتساع وعمق هذه التغيرات على تحول نظم الإنتاج بأكملها، والإدارة، والحكم.
وعلى غرار الثورات السابقة فإن الثورة الصناعية الرابعة ستتميز بالقدرة على رفع مستويات الدخل العالمي، وتحسين نوعية الحياة للسكان في جميع أنحاء العالم، إذ إن منتجات التكنولوجيا ستتمكن من تقديم خدمات ومزايا جديدة للناس، بمعنى أنها لا تغير ما يقوم به الناس، ولكنها تغيرهم هم، وسيقدم الابتكار التكنولوجي، مستقبلاً، حلولاً وسبلاً جديدة تمكن من تحقيق مكاسب طويلة الأجل في الكفاءة والإنتاجية، وفي الوقت ذاته، سوف تنخفض تكاليف النقل والاتصالات، وستصبح الخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد العالمية أكثر فعالية، وستقل تكلفة التجارة، وكلها ستفتح أسواقاً جديدة، وتحفز النمو الاقتصادي، مثلما قد حدث فعلاً في عالم الاقتصاد الرقمي، الذي فتح آفاقاً جديدة، بما وفّره من عملات رقمية وعمليات التعدين، كالبيتكوين، والخدمات الاقتصادية للبلوكتشين، ولا ننسى تطبيقات وأجهزة الذكاء الاصطناعي، التي شكل ظهورها وتطورها علامة فارقة في تاريخ البشرية، وجعلت الإنسان يطرح السؤال على نفسه، أو كما قال تيم دنلوب: «إذا لم يعد البشر أذكى المخلوقات على هذا الكوكب إشارة إلى أجهزة الذكاء الاصطناعي – فبإمكانهم أن يعيدوا تخيل حياتهم..!!».
إن ثمة فرصاً كبيرة مصاحبة للثورة الصناعية الرابعة – بالضرورة – ستنشأ عنها، وستلعب دوراً حيوياً في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فظهور قطاعات جديدة بالكامل، سيوفر الآلاف من الفرص للقوى العاملة، لكن استهداف هذه القطاعات مبكراً على المستوى المحلي والدولي وتعزيزها استباقياً، سيعمل على استقطاب المستثمرين مبكراً، ويضخ موارد مالية إضافية في الاقتصاد العالمي والعربي، على وجه الخصوص، وهو ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة.
ولعل أهم ما يمكن أن تفرضه الثورة الرابعة على الحكومات، عموماً، المطالبة بسن تشريعات تتلاءم مع الثورة الصناعية الرابعة، فيما يقع العبء الأكبر في جانب الابتكار على الشركات والمؤسسات والمعاهد البحثية، وأما الأفراد فيمكن أن يساهموا في تطوير النظم، من خلال تقاريرهم الراجعة عن الاستخدام، ومقترحات التطوير، وفي النهاية ستكون هذه الثورة نتاج تعاون وثيق بين جميع الأطراف، لا لشيء إلا لأن الثورة الصناعية الرابعة ستفرض واقعاً جديداً، مليئاً بالفرص والتحديات، فمن جهة، ستوفر فئات جديدة من الوظائف، لم تكن موجودة في السابق، مثل المجالات الجديدة التي تتيحها الطابعات ثلاثية الأبعاد للتصميم والإنتاج، وبرمجة الروبوتات والأنظمة الذكية، لكنها في الوقت نفسه ستقضي على الملايين من الوظائف التقليدية القائمة حول العالم، مثل السائقين الذين ستحل مكانهم السيارات ذاتية القيادة، والعمال ذوي المهارات المنخفضة الذين ستحل الروبوتات بديلاً عنهم، ويتطلب هذا إحداث موازنة دقيقة بين الجانبين. وللحديث بقية