كل الذي جرى في 16 أكتوبر الماضي، وما بعد ذلك اليوم، كان تجاوزاً على القانون والدستور بإسم القانون والدستور، وإستغلالاً للظروف، واستمراراً في التزمت الفكري والمجاهرة ببيع العواطف وتثوير الروح الفوضوية وسلب التوازن العقلي، وزرعا للإرباك والفتنة، وتراجعاً عن تعهدات وإلغاءً لإتفاقات سابقة بسبب الرؤى المتعنتة، والتوقيع على أخرى جديدة أكبر من إتفاقات وأقرب إلى تحالفات، ولعباً بالنارعلى أوتار مصالحية لتحديد المسارات من خلال ممارسة الازدواجية في السياسة والثقافة والخطاب والولاء والإنتماء، وإفتعالا لأزمات خطرة تحيط بها ظروف شاذة تحتاج مواجهات فعالة وإعادة ترتيب الأمور بين المواطنين الكوردستانيين والأحزاب السياسية الكوردستانية، وفي الحكومة والبرلمان الكوردستانيين وفقا للمستجدات والخيارات الممكنة والإمكانيات المتوفرة .
في ذلك اليوم، أصبنا بصدمة وضعت أمامنا علامات إستفهام كبيرة وكثيرة وكم هائل من العموميات الواضحة، وجميعها فرضت نفسها لبيان النيات التي تتحكم بالعقول والأفكار من خلال التعامل مع المستجدات والمتغيرات وتحليل المعادلات، واستدعت استقراء الظروف والاختيار السليم لزمان ومكان وآلية الفرز بين الازمات السياسية والإقتصادية والأمنية، وبين المتخبطين وغيرهم، لإبعاد المشهد عن التعميم أولاً، والتكفل بعدم زيادة التهابه ثانياً، والدفع به نحو زاوية المواجهة الشجاعة وحصره، والسعي وراء المسببات السلبية التي أفرزت الازمات والتي ساهم فيها البعض من خلال تضليل الرأي العام، وتكريس فكرة الانقسام على أسس سياسية ومناطقية، وهذه الصبغة السياسية – الاعلامية خدمت الآخرين وكل البضائع الكاسدة في سوق المزايدات السياسية التي تم الترويج لها رعاية لمصالح حزبية، وتلبية لرغبات شخصية ومصالح وأهداف مرحلية مدفوعة بدوافع ذاتية ونظرات ضيقة تعتمد على الخيال والتمنيات، وأنذرت تلك الممارسات الخاطئة بمخاطر مستقبلية في حال عدم التوصل الى حلول سياسية وقانونية تتوافق مع التطلعات والمصالح العامة وتنسجم مع الواقع ومع منظور ما يفرضه العصر وما تفرضه الخصوصيات التاريخية والقومية والوطنية الكوردية.
الإشكاليات المستحدثة لم تعد مجرد تنظيرات أو تهويمات ورؤى وتمنيات، أوتمسكاً بالخيال والأحلام، بل باتت حقائق مقلقة ومكلفة تستوجب معالجتها ومنحها وزنا واعتبارا، لأن الخسائر المتوقعة ستصيب الجميع لو انحدرت الاوضاع نحو الاسوأ، لذلك يسعى رئيس حكومة إقليم كوردستان، نيجيرفان بارزاني، بحكمة وتعقل وحرص شديد، وبخطى ثابتة لإعادة المياه الى مجاريها، ليكون المشهد بداية لمرحلة جديدة ويبذل محاولاته الجادة في البحث عن طريق آمن للخروج من المتاهات والمطبات وضبط آلية المبادرة، كي يتم منع التصدعات والانغماس في خلافات وتناحرات وصراعات بينية تنهك الجميع حتى النخاع، ويبدي إصرارا كبيرا على مواصلة الحوار مع كافة الاطراف السياسية، ويحرص على استمراره، ويبدى المرونة خلال اجتماعاته، ويبتعد عن الاثارة في تصريحاته من أجل تصحيح الأوضاع وتعديل مساراتها والخروج من الازمات بأقل الخسائر، والتفاعل الهادىء والمسؤول مع المشكلات وعوامل الاضطراب بصورة موضوعية وواقعية وبشكل يناسب مجريات الاحداث ومراجعة الاتفاقات السابقة وإلغاء بعضها وتمتين وتوقيع غيرها، لتجنب ترك الاقليم تحت رحمة المزايدات السياسية وإعطاء انطباع بأن لغة العقل والمنطق تركت الساحة السياسية.
قرار تمديد عمر برلمان كوردستان الحالي لثمانية أشهر، يعني تمديد عمر الحكومة الحالية لثمانية أشهر أيضاً، ويعني أن الحكومة الحالية مؤقتة تنتهي عمرها مع إجراء الإنتخابات القادمة وإعلان نتائجها، ولكن ما نسمعه هذه الأيام من أصوات تدعو الى حل الحكومة الحالية لتحل محلها حكومة مؤقتة، يدعونا الى التساؤل : بما أن الحكومة الحالية مؤقتة، لماذ نغيرها بأخرى مؤقتة أيضاً؟ كما يدعونا الى البحث عن الذي يجرى على الساحة السياسية الكوردستانية، ونحن نعرف أن الحكومة الحالية، من أهم الكابينات الحكومية في اقليم كوردستان، حيث إشتركت فيها غالبية الأحزاب الكوردستانية، ومثلت المجتمع الكوردستاني وفعالياته السياسية والاجتماعية في مرحلة دقيقة ومعقدة من مراحل إقليمنا سياسياً واقتصادياً، بدأت عهدها، في ظروف صعبة ومعقدة، وجدول أعمال رئيسها كان ثقيلاً، وأجندتها كانت مليئة بالأولويات السياسية، والاقتصادية، والتنموية، والعدالة الاجتماعية، فضلا عن أولويات أخرى إقليمية ودولية، إنتظرتها ملفات مليئة بمشكلات تحتاج الى معالجات، وملفات عالقة مع الحكومة الاتحادية بخصوص المادة 140 من الدستور العراقي والموازنة التي أستغلت سياسياً ضدنا، والنفط والغاز وقوات البيشمركه. وجاء رئيسها بغالبية مريحة كادت أن تكون مطلقة في البرلمان، وسط دلالات ومؤشرات أكدت أن ممثلي الشعب أرادوا رئيساً قوياً يقود حكومة قوية ذات قاعدة عريضة، تضمن إستمرار الاستقرار السياسي والإقتصادي والأمني، ولكن الحرب على داعش وإستقبال ما يقارب مليوني لاجىء ونازح وقطع حصة الإقليم من الموازنة الإتحادية، أثرت بشكل واضح على أداءها وحياة المواطنين الكوردستانيين ودوران عجلة التقدم.
الدعوة الى حل الحكومة الحالية تؤدي الى الإنقسام، وسوء التفاهم وعدم الثقة بين الكوردستانيين، وهذا ما يتمناه الكثيرون. خاصة وإننا نواجه قائمة طويلة من التهديدات والمخاطر وأطماع الآخرين ورغباتهم في الهيمنة والتدخل في شؤوننا الداخلية، والعاقل يعلم أن المعاندة والاصرار على أمور غير معقولة وغير مقبولة تسبب الانقسام وتضيع مكتسباتنا المتبقية.