18 نوفمبر، 2024 1:39 ص
Search
Close this search box.

قبو الذات المظلم

قبو الذات المظلم

إن تعريف الشيء يعني .. أما  وضعه في إطاره المحدود المناسب ، أو  نحت تابوته معا .. وفي هذا إشكال بيّن .. فمن هو الشيء القابل للتعريف ؟؟ هل هو شيء ما ، مادي مخصوص … أم هو الإنسان ؟
هذا سؤال في غاية التعقيد .. ويحتاج الى عمق ورؤيا في توضيح الإلتباس  المشاع في حقل  التعريف  والتخصيص   …
فإذا ما فرضنا أن  الماء الذي نشربه وهو أصل الحياة كلها ،  يتوافر على تحديد كيمياوي بحصره بين ” ذرتين هايدروجين وذرة أوكسجين  ”  ويعضده  التعريف الإخر بوصف الماء  “خالي من الطعم واللون والرائحة”   وبهذين التعريفين  وضعنا الماء في مكانه المناسب لوظيفة واحده وهي ” شرب ماء صافٍ” لادامة الحياة الانسانية .. وبهذا  يمكن أن نحدّ  الماء بسجن ما ، لكن  الماء يتعدى  حدوده الكيمياوية  والمختبرية .. لوجوده في الطبيعة وبنسبة تصل الى حوالي  75%  من حياة الكون بأسره .. فللماء سيرته الذاتية  التي ُيدوّنها المختبر  والأفق معا ..  وللماء صيرورتة  في ” المطر،  وهو زرقة البحر وزرقة الموت.. وهو ساحل  للعاشقين، ورؤى  المتصوفة .. بالماء كلّ شيء كان وبه  نكون  ..  وللماء نتائج في الأرض .. طوفانا  ، وفي السماء قوس قزح .. فمن يستطيع تحجيم الماء  بتعريف !!!
اذا كان هذا حال الماء ، فما بالنا بالانسان الذي هو سيد الماء  .. وسيد  الخليقة  ومبرر وجودها .. فالحياة كم تساوي دون وجود البشر ..؟؟
يذهب الإنسان  بعيدا في تخريفاته  للوصول الى تحديده وتحجيمه   بتجربته الذاتية  فقط، وهي أقصر حلقة وأضيق فضاء  من الوصول به الى التحديد .. والى التعريف  .. لأن الإنسان مجبول  على الطيران بجناحين ، اولهما التجربة الذاتية ومدخلاتها،  والتجربة العامة بوصفها  وعاءً إجتماعيا تفاعيلا ، يتميز عن غيره من الكائنات بعقله التوافقي  والمتشكل من مكونين ، الذات  والموضوع .. الانا وما تفرزه  والآخر  وما يقوله  ..
لايمكن للانسان أن يتمدّد على وسادة الذات  وحدها لينام ويحلم ..
في هكذا إمتحان  وفرز،  نرى الذات المتورمة   تدور على  نيرها  وتستمرأ  صوتها ، مغلقة أذنيها وقلبها الى  صوت العالم  الموضوعي .. فالأسطورة تطير بجناحين ، الإيديولوجي  واليوتوبي .. والانسان هو محصلة لإسطورته الخاصة  ولا يريد الطيران حتى بجناح واحد .. لا يريد ان يتوافر على أذنين  للسمع .. تراه مجبولا على  حياة ” الكهف الصالح”   و” كهف ذاته” ، وبهذا يفقد الانسان خاصيته  بوصفه منمط على تجربة عرجاء تسير في حقول الغام الحياة وفضائها اللانهائي .
  يضع الإنسان  تجربته الذاتية كَحلّ  وحيد لرسم خارطة الطريق لحياته .. متناسيا  وعن عمد  التجربة  الانسانية بكليتها لصياغة إنسان متوازن ..  يدخل  الى جوف نفسه  مذعنا الى  صوته القادم  من منظمومة مغلقة  ، لأن التجربة الذاتية لا يمكن لها أن تحدد الأفق،   بل هي تسير بالكائن الى متاهات،  بسبب قصرها  وعجزها على أن تكون حكمة أو  دليلا ..وبوصلة معصومة .. بل تكون سجنا  قاتلا   .
لذا  ستكون التجربة الذاتية وَهمٌ  وسراب  لانها لا تنمو  وتتصالب  في تفاعلها مع الذوات الآخرى ، العالم الموضوعي .. لإنتاح معرفة تامة الجناحين والأذنين .. ذات… لها القدرة على الإبداع الذاتي وَتقبّل  الاختلاف المثمر الفعّال  ، نتيجة لتلاقح الانسان بذاته  والآخر بحقوقه وعقوقه .
………………………….
الإنسان  الموسوم  بذاته الخاوية يقع دائما في إشكال الاسئلة .. لأنه لا ينمو بها … لا يريد سماع الأجوبة .. إلا  تلك التي تأتي من ” قبو ذاته ”   أو من  صدى باهت له  . وهنا   لا يفوح عبير  الأسئلة  بالجدل  والحوار  .. بل رائحة البصل المنبعث  من  ” قبو البصل ” ذاته  !!
حيث النسوة يقلّمن أصابعهن  بمرور ” يوسف ”  الجميل حدّ اللعنة .
وتكون  الذات مؤولة  لأحلامها  ومنعزلة عن الحلم الجمعي ..
؟…………………………………………………………….
بهذا السياق فشلت التجربة الذاتية للإنسان  وخصوصا الذي يعيش في مجتمعات العقد الإجتماعي والديمقراطيات  وانفتاح الأفق وسيولة المعلومة وحرية الإستنتاج  ، فشلت،  في أن تقدّم   الذات  فاعليتها الانسانية المبدعة  لانها لا تقاوم  الحد المشروع للتفاعل مع الآخر ، الشريك  ، المندغم ، الحبيب… الخ ..
ذات صفراء تخاف من المشاركة  والتفاعل .. تريد الإنطلاق من ذاتها وهي عاجزة عن تعريف ذاتها  أصلا وتسويق نموذجها ..
في الحقل الاجتماعي يحصل هذا النوع السلبي  بمؤازرة جيوش من ” الخدم ، المطيعين ، المريدين ، الإمعات  السلبيّين في الإستجابة والتحدي..” .. وليت خطورة هذا النمط السلبي  بقيت عند حدودها الإجتماعية  وطقوسها المحصورة في التعريف .. ولكننا نجدها وللأسف قد  تحولت الى  نمط  يراد له ان يشاع في حياتنا   العامة بثرائها وتنوعها .. حياتنا التي  تبدأ بالذات ولا تنتهي بها .
………………………………
إذا كان الماء مجرد  مادة  لإدامة الحياة فقط   بوجودها الشكلي  وبهذا يكتفي الماء في حصر تجربته  الخالية من اللون والطعم والرائحة للمشاركة الإنسانية في تجارب ذواتها  .. فأن الانسان لا يكن وسمه  بسيمياء  ” تاتو” معينة  لانه ليس حاصل جمع وليس نتاج قسمة وليس   تناقض ضرب الأعداد .. لايمكن للانسان بتجربته الذاتية أن ينتج قوانينَ  أبعد من أرنبة أنفه .. وبهذا يحفر قبره بيده ..  هذا الانسان الدعيّ   يريد أن يطير بتجربتة  الذاتية وحدها .. وتلك  بشارة سيئة  لوصول الإنسان الى المجانية .
……………………..
وإذا ما نقلنا  التجربة الإنسانية بوصفها شرطا  لوجود الإنسان في محيطين ” ذاتي وموضوعي”  وسيكون الشعر  أيضا بحاجة الى الطيران .. وليس الى التعريف  والتحديد ..
 الشاعر الاسباني لوركا رغم عدم ادعائه الحكمة،   قال : إن الشكل والمضمون وحدهما لا يصنعان شعرا لأن الشكل هو اللحم والمضمون هو العظم ..أما الابداع فهو هاجع وراءهما في النخا ع ….
أين نخاع  التجربة  الكليّة  .، هل في التجربة الذاتية ونتائجها، أم في  نخاع  الكيان الكلي للتجربة بفضائها  الواسع ، المتعدد ، المختلف ، المؤتلف …، بوصفها أفقا وليس سجنا.
النخاع يعني الخلاصة النوعية  لوجود  تجربة إنسانية ناضجة  .. ليست مبنية على الجر والفتح  والكسر  بمقتضى ذات  متورمة  .. بل بمحمول أفق شامل ..
تلك هي حكاية النائم في ”  صومعة ” الذات .. وحكاية الذي لا يشم غير  رائحة أبطيه ، وهو يعني  العفن السائل من   تجربته الذاتية  كمعطى أولا وأخيرا  ..!!!!!

………………………………………………………………………………

أحدث المقالات