– يهلُّ شهر ربيع الأول من كل عام يحمل في رياضه ذكرى تجيش لها مشاعر المسلمين في أصقاع الأرض وهم يحيون ذكرى مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يحيون هذه الذكرى وهم يستذكرون تاريخاً مضى ويعيشون واقعاً، ويتطلعون إلى مستقبل.
فأما التاريخ الذي يستذكرونه فقد بدأ قبيل مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية باصطفائه صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام من كنانة، من قريش، من بني هاشم، فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، من اشرف القبائل العربية وخيرهم نسباً.
وأما مسرح تاريخهم فكان في الجزيرة العربية بمن فيها من العرب والتي لم تكن ذات أثر يذكر في مسرح الحياة الإنسانية، فقد كانت حضارة الفرس والرومان تشكل قطبي الحضارة الإنسانية، ثم حضارة اليونان وحضارة الهند في الدرجة الثانية، وقد كان لهذه الحضارات نتاجات علمية وثقافية وفلسفية ذات أثر كبير في صناعة الحضارة الإنسانية بكل مقوماتها، بينما كانت هي غارقة في صراعات قبائلها وحروب ضروس تأكل أخضرهم وتأتي على يابسهم.
في هذه الظروف وفي الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، جاء ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أن رأت أمه آمنة حين وضعته نوراً أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فكانت الإشارة بذلك إلى النور الذي انتشر بعد في أمة الجزيرة الأمية، نور العلم، ونور الحضارة، ونور الرحمة، ونور الخلق، ونور العدل، فإن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق) لبث الحياة في الأمة الأمّية والجزيرة العربية، إيذاناً بنقلة نوعية لها، من الأمّية إلى العلم، والحضارة، والمدنية، والخلق الحسن، والقيم العالمية، فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم نوراً اهتدى به العرب فانتقلوا إلى مصاف حضارة عالمية فاقت حضارة الفرس والرومان والهند واليونان، فوضعت الأسس والمبادئ العامة للحضارة الإنسانية، بدءا بحرية الإنسان بعد أن عانى من ويلات العبودية والاستبداد، وتلخصت بخطاب خليفة المسلمين لأحد أمرائه بقوله: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
كما عُني بالأسرة بوضع نظام لها، وأرسى في الإنسانية قواعد العدل، والإخاء والمساواة بين الناس، والتسامح الديني والخلقي.
ويشهد لواقع المسلمين ما تركته حضارتهم من علوم وفن وأدب وفلسفة أثرى تاريخ الحضارة الإنسانية وشهد لأهميته القاصي والداني، وحتى غير المسلمين الذين سطروا الكتب والمؤلفات في أثر الحضارة الإسلامية وأهميتها، كالمستشرقة الألمانية سيغريد هونكة (شمس العرب تسطع على الغرب)، كما نجد هذا في كتاب (قصة الحضارة) لـ ويل ديورانت وغيرهم الكثير ممن شهد بعظمة هذه الحضارة وأثرها في الحضارة العالمية.
كما يقول جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) حيث يقول: «وكلما أمعنا في دراسة حضارة العرب والمسلمين وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأيتَهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدّنُوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الإبداع الفني».
فقد عالجت الحضارة الإسلامية التي وضع قواعدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حاجات الحياة بمختلف جوانبها الفكرية والنفسية والروحية والجسدية والمادية.
لقد بنيت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على العلم، مما أنتج جهابذة من العلماء في شتى مجالات العلم والمعرفة أمثال الخوارزمي والإدريسي وابن الهيثم والرازي، وابن سينا، والفارابي، والكندي، وابن بطوطة، والمسعودي، وابن البيطار، وابن النفيس، وجابر بن حيان، وغيرهم الكثير ممن أفادوا الإنسانية وقدموا لحضارة العالم أصول العلم وقواعد المعرفة، وهو ما أفاد منه الأوربيون في بناء حضارتهم.
وقد شهد بهذا التميز والتفوق الحضاري كذلك المستشرق جورج سارتون في كتابه (مقدمة في تاريخ العلم)، فقال: «إن الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون، فالفارابي أعظم الفلاسفة، والمسعودي أعظم الجغرافيين،والطبري أعظم المؤرخين».
نعم، في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم يستذكر المسلمون هذا التاريخ التليد مستشعرين نشوة الظفر والعزة التي عاشوها ذات يوم، ثم يفيقون على واقع مؤلم من التفرقة الضعف والتشرذم والصراع والاقتتال الداخلي، مما ينتج عنه ضعف التحصين الداخلي فأصبحوا غثاء كغثاء السيل، فنزع الله تعالى المهابة منهم من صدور أعدائهم فتطاولوا عليهم، واعتلوا أسوارهم، أضف إلى ذلك أنهم أصبحوا في ذيل الحضارة الإنسانية، وهم أمة (اقرأ) وأمة خاتم الأنبياء والمرسلين.
وفي ظل هذا الواقع المؤلم، يستذكر المسلمون مولد نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيتذكرون مآثر وشمائله ونهضته بالأمة وتوحيدها، وبنائها، فيستشرفون مستقبلهم ويتطلعون إلى غد مشرق بإذن الله،