26 نوفمبر، 2024 10:26 ص
Search
Close this search box.

دوريس ليسينج ..المتمردة

دوريس ليسينج ..المتمردة

عندما فازت بجائزة نوبل للاداب عام 2007 قالت لمراسلي الصحف الذين كانوا ينتظرونها امام بيتها ،وهي تجلس على عتبة الدار مثل اي امرأة عجوز : ربما تمزحون ..كيف تسنى لهم منحي الجائزة ..انهم لايحبونني
فهذه العجوز التي كانت في الثامنة والثمانين من عمرها حين تذكرتها نوبل ، عاشت حياتها امراة جريئة لدرجة كبيرة ، وكانت تسخر من السياسة والانظمة الديمقراطية وتصفها بالغبية وتردد انها لاتستطيع ان تجبر نفسها الاستماع الى الخطب الغبية ، دون ان تقول لاصحابها إلى أي درجة انتم اغبياء ، قالت عن رئيس الوزراء توني بلير عندما سالت عن رايها فيه انه رجل صغير جدا بمعنى الكلمة
دوريس ليسينج التي رحلت عام 2013 ظلت خلال الـ 94 عاما التي عاشتها شاهدة على العصر الحديث بكل تناقضاته وتقلباته.. حياة ابتدأت من الحرب العالمية الاولى وامتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين لترى أفول نجم الشيوعية التي امنت بها في بداية حياتها لتشاهد على شاشات التلفاز كيف انهار جدار برلين.. سنوات طويلة من زمن الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس الى زمن غوردن براون .
امرأة كتبت ضد العنصرية والاستعمار وناضلت في سبيل فضح جرائم التعرض العنصري واضطهاد المراة ، عاشت لاتعرف سوى الادب طريقا للحياة كتبت بقسوة ضد الاستعمار والراسمالية والجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية وخاضت معارك لاتنتهي في سبيل الحركة النسوية تاتيها نوبل بعد ان سأمت من كل شيء وقررت ان تعتزل الكتابة رافضة عرض الملكة البريطانية بمنحها لقب سيدة الامبراطورية البريطانية حين ردت على صاحبة العرض بان الامبراطورية لم تعد موجودة.. عاشت حياة اشبه برواية من رواياتها فما بين مولدها بأيران سنة 1919 من ابوين بريطانيين لأب كان يعمل نقيبا في الجيش وام تمارس مهنة التمريض فتحت عينها لتجد الاب وقد اصيب في الحرب العالمية الاولى فخرج منها مبتور الساق.. لايحظى بحب امها وانما بعطفها.. يعشق المغامرة وينتظر ان يرحل باسرته ليبحث عن الثروة والحياة الجديدة..في جنوب افريقيا عاشت دوريس حياة شاقة جعلتها تقول عنها في مذكراتها بانها كانت سنوات الخيبة لكنها تحملتها بشجاعة وكبرياء كانت طفولتها كما تصفها جرحا مفتوحا يسير على قدمين مما دفعها ان تجعل معظم ابطال روايتها يعيشون حكايات صعبة وذكريات اليمة مع سنوات الطفولة.. تعترف ان وعيها تفتح حين قررت ان لاتكون مثل والديها الرجل المقعد والمراة المريضة بالوساوس.. الا تقع في شرك النمطية غذت في داخلها روح الثورة والتمرد على الاوضاع وتعترف:لقد صنعت لنفسي يوتوبيا خاصة كان الادب جزءاً منها اردت ان اقول للعالم ماذا لو جعلنا الظلم والفقر والحرب امورا مستحيلة بالتاكيد ان الحياة سوف تكون اجمل وتمتلىء بالناس الرائعين.. تقرر ان تعيش حياة التمرد على سلطة الام المهووسة بالنظام واحترام التقاليد فتهجر مدرسة الراهبات في الثانية عشرة من عمرها ثم بيت اهلها وهي في الخامسة عشرة من عمرها لتعمل مساعدة ممرضة. تقرأ الكتب التي تستعيرها من الاصدقاء.. انها سنوات الضياع والحرية والحب. في بداية الثامنة عشرة من عمرها تتزوج من احد زملائها في العمل. وفي الحياة الجديدة سوف تجد مجتمعا متغايرا تواصل من خلاله السعي لتجد ذاتها تنضم الى الدوائر السياسية وتعتنق الافكار اليسارية ويدفعها حبها للحياة الى مغادرة مجتمع جنوب افريقيا لتبحر صوب لندن فتصلها في العام 1949 وهي تحمل معها طفلا رضيعا ومسودة اولى روايتها ” العشب يغني” التي تروي فيها حكايات عن التمييز العنصري في جنوب افريقيا.. وتنشر الرواية عام 1950 لكن كان على دوريس ان تنتظر دزينة من السنوات حتى يحتفي بها الوسط الثقافي في لندن بعد ان تقدم روايتها ” الدفتر الذهبي ” التي صنعت شهرتها الادبية وقدمتها كواحدة من المناضلات في سبيل حرية المراة من خلال تقديم شخصية امرأة عصرية بعمق وتفصيل وقد راى فيها البعض سيمون دي بوفوار بنسخة انكليزية
والكتاب هو مجموعة من المفكرات التي تُعرفها بطلة الرواية بالألوان، الأسود والأحمر والأصفر والأزرق ومن مجموعها تحاول الشخصية الرئيسية في الرواية آنا وولف انتاج دفتر يوميات بلون ذهبي، فالسوداء هو لون المفكرة التي تتحدث فيها آنا عن طفولتها وزواجها وابنتها جانيت اثناء وجودها ‘في روديسيا ، والحمراء، سياسية الطابع، وفيها تعري الحزب الشيوعي وتكشف نفاقه وعجزه، وفي الصفراء روايتها التي تحاول كتابتها، أما الزرقاء ففيها تسجل يومياتها وأحلامها وعواطفها، ومن بين المفكرات التي تسجل تكتبها تعتقد آنا أن هذه الأخيرة هي الأصدق والأٌقرب لنفسها. وتعود الكاتبة في سياق الرواية لكل مفكرة مرتين حيث يقطع بين كل مفكرة وأخرى فصل عن المرأة المتحررة.
تكتب في سؤال حول نظرتها لقضايا المرأة :” ما أتمناه هو حصول المرأة على الاستقلال، بحيث لا تكون عبدة للرجل ولا للمرأة المسترجلة. حاولت في روايتي الزيجات بين المناطق الثالثة والرابعة والخامسة أن أخلق امرأة تقترب من هذا النموذج: حرة، ومستقلة، وأما حنونة، إنسانية دون أن تكون عاطفية، وذكية دون أن تكون متعجرفة. ”
مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثلت تطورا جديدا بالنسبة لدوريس حيث تحولت كتاباتها الى مرحلة النضوج والتامل عبرت عنها رواياتها ” بيان مجز وخماسية العنف ومذكرات من نجا والحب مرة اخرى وتقرير عن الجحيم ” حكوائية للتجربة النسائية من الطراز الرفيع روتها بدقة وشفافية بدءا من الارهابية عن امرأة برجوازية ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف الجيش الايرلندي ، الى ” الجدات” عن سيدتين كل منهما تعيش قصة حب مع ابن الاخرى وصولا الى اعذب الاحلام التي تقدم لنا فيها نفسها بانها المراة القادرة على تصوير اوضاع العالم بلغة شفافة. انها المرأة التي تركت كل شيء..الاهل والمدن والايديولوجيات لتكتشف الحياة بصورة اكثر نقاء ولتؤكد لنا وهي في الثامنة والثمانين من عمرها ان الابداع لايشيخ وان الموهبة الحقيقية تظل ساطعة طوال السنين.
*
ظل القراء العرب يجهلون ادب ليسينج حتى لحظة حصولها على نوبل ، فصاحبة الخمسين كتاباً لم يترجم من اعمالها قبل عام 2007 سوى القليل وقد اصدرت دار المامون في منتصف الثمانينيات ترجمة لروايتها ” مذكرات من نجا ” وفي نهاية التسعينيات نشرت دار الهلال ترجمة لروايتها الاولى ” العشب يغني” وبالفترة نفسها تقدم احدى دور النشر على نشر ترجمة لروايتها الشهيرة ” الدفتر الذهبي ” الا ان الغريب في الامر ان القارىء العربي تعرف على دوريس الكاتبة المسرحية قبل ان يتعرف على الروائية فقد نشرت سلسلة المسرح العالمي عام 1966 ترجمة لمسرحيتها الشهيرة ” التيه” وهي المسرحية التي قدمتها للمسرح عام 1958 لتنظم من خلالها الى جيل مسرح الغضب الذي اطلق صرخته ” جون اوزوبورن” صاحب المسرحية الشهيرة ” انظر الى الماضي بغضب” والتي عبر فيها عن الضياع لجيل ما بعد الحرب في بريطانيا. هذا الجيل الذي شهد بشاعات الحرب وخلوها من أي نوازع إنسانية في هذا المناخ تتقدم دوريس للمسرح لتقدم مسرحيتها الاولى والتي عبرت فيها عن الصراع الذي يقوم في المجتمع بين جيل الغضب وجيل السياسيين المتزمتين وهي لاتفقد معاني طرف لكنها تقدم صورة حية ونابضة لهذا الصراع. فالام ” ماريا ” عضو في كثير من الهيئات التي تناضل لنصرة قضايا الدفاع عن السلام تجد نفسها في المواجهة مع ابنها ” توني” الذي يقرر الذهاب الى الحرب من اللحظة الاولى نرى ملامح الصراع فالام تشكر الظروف التي لم تجعل ابنها يذهب الى الحرب وتقول: ” ربما كنت قتلت من اجل قضية لاتؤمن بها فيرد الابن:- ان يقتل الانسان من اجل شيء يؤمن به هذا بالتاكيد نوع من الترف في هذه الايام. شيء كان يتمتع به جيلك ام الان فالانسان يقتل فحسب.هكذا يعبر جيل توني عن خيبة الامل في كل شيء.
تنشدونها.. يا الهي نحن ننجب جيلا حقيرا يحسب معاشه قبل ان يتخرج من المدرسة.
جيل من صغار البرجوازيين الفقراء نعم انا ابكي لقد عشت خمسين عاما اليس هذا وحده سببا كافيا للبكاء.
توني: افترضي اننا قلنا للسياسيين نحن نرفض ان نكون ابطالا لقد سئمنا كل القضايا النبيلة فماذا سيحدث يا امي؟
ماري: لاشيء.. الحياة العادية والامان
توني: اتركونا وشأننا هذا ماسنقوله.. اتركونا نعيش لانريد الا ان تتركوننا وشاننا
وكان العجوز البريطانية تتحدث بلسان العراقيين حين صرخت في وجه توني بلير: اتركوهم وشأنهم يعيشون لانريد سوى ان تتركوهم وشأنهم.
في اخر حوار معها قالت للمحرر الادبي لصحيفة الغارديان انها لاتجد اجابات شافية حول وظيفة الكاتب في هذا الزمن لكنها تعتقد ان :” من واجب الكتّاب، إذا تعاملوا مع مهنتهم بصورة جادة، أن يضعوا أصابعهم على مواطن جروح زماننا، ولكن هذا ليس كافيا. كل منهم يستطيع إيجاد العيوب في الظروف السائدة ومن السهل أن يغدو مثل هذا العمل صرعة. في رأيي، يتحتَّم على المؤلِّف أن يصبح، بعض الشيء، شبيها بالنبي، يقتفي الخلل قبل أن يغدو ماثلا للعيان، ويفقه الموضوع قبل أن يصبح نزعة سائدة، شاحذا حسه وحواسه لاستشعار أدق ذبذباته ” .

أحدث المقالات