عند استعراضنا لتاريخ وحالة الجيش “السابق” حاولنا جاهدين ان نكون منصفين تاريخيا .. ذلك ان التاريخ هو ذاكرة الامة الحية وركن اساسي من اركان بنائها ، وعليه وجب ان نحافظ على هذه الذاكرة نقية صافية باتباع الحقيقة والانصاف في تناول مواضيع دراستنا . ولا نغالي بقولنا ان ركن اساسي من أزماتنا وخلافاتنا ناتج عن النظرة المتحيزة او المتحزبة او المؤدلجة للتاريخ والانتقائية المتبعة في تفسير احداثه وحركته حسب الاهواء والمصالح والاهداف المسبقة . لذا سنحاول بذات الموضوعية تناول موضوع الجيش العراقي الحالي .
لا يخفى على أحد ان موضوع خطير كموضوع تأسيس وبناء قوات مسلحة لاي بلد يخضع لدراسة معمقة لجملة من العوامل ذات الصلة الخاصة بظروف ذلك البلد : الوضع الجيوسياسي للبلد / علاقاته مع دول الجوار والمحيط الاقليمي ومستوى النزاع او التناغم القائم معها حول مختلف القضايا المشتركة ومن هو العدو او الاعداء المحتملين / طبيعة وحجم ودرجة خطورة التهديدات الخارجية والداخلية التي تجابه البلد سواء القائمة منها او المحتملة واهم الخطوط العامة لمواجهتها / الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية المتيسرة القادرة على اسناد البناء الامني – العسكري / مصادر الدعم الخارجي المحتملة ودرجة الانفتاح السياسي الذي يسهل مهمة التسليح والتجهيز الخارجي .. ثم والاهم من ذلك كله : ماهي طبيعة النظام السياسي القائم في البلد والمصالح والاهداف الوطنية العليا التي يسعى الى المحافظة عليها او تحقيقها . وبعد تحديد كل هذه الامور يصار الى صياغة العقيدة العسكرية التي تسترشد بها القوات المسلحة في بناء ذاتها وعملها من حيث حجم وعدد ونوع الوحدات والتشكيلات العسكرية وتنظيمها وتسليحها وتجهيزها وكيفية تدريبها وانتشارها واساليب استخدامها ( مهام الردع والهجوم والدفاع والامن الداخلي… الخ ) اي عقيدة القتال الملائمة لها .
وهنا يبرز سؤال طبيعي هل يمكن لنظام سياسي غير مستقر وفي ظروف استثنائية في البلد ( احتلال اجنبي وفراغ امني نتيجة حل الجيش والاجهزة الامنية واتشار العنف والارهاب ) ان يكون في موقع يسمح له بادراك ناهيك عن دراسة ما تقدم عند قراره على تاسيس جيش جديد ؟ وهنا يحضرني موقف طريف بقدر ما هو مؤلم : في سنة 2003 وجهت لنا – نحن بعض الضباط من الرتب العالية – دعوة من قبل عسكريين كانوا في الخارج وعادوا بعد الغزو لتقديم دراسات حول كيفية تأمين امن العراق داخليا وخارجيا للسنوات المقبلة . وبعد النقاش المستفيض تم التفاق على انشاء مركز دراسات ستراتيجي لرفد الحكومة الناشئة بمقترحاتنا وتقييماتنا ، ولما جاء الحديث عن نظام المركز وكيفية تمويله .. اذا باحد الاخوان يهمس في أذني ( لا تشيل هم للتمويل فأعمامنا – ويقصد الاميركيين – هم الممولون ) فعرفنا ان كل هذا المؤتمر ما هو الا خديعة من المحتل لنجنيد ضباط كبار لخدمته بعد ان بدأت اعمال المقاومة التي لم يتوقعها تشتد ضده ، فقرر معظمنا الانسحاب من المؤتمر لاننا كعراقيين نعرف من هم اعمامنا وهم معروفو الهوية والتاريخ وليس القادمون الينا مع رهطهم عبر المحيطات ، لكن للاسف هناك من رضي لنفسه التعاون مع المحتل طمعا في جاه زائل ودولارات ملوثة لا اقول بالخيانة بل بالعار .
في سنة 2004 وبعد تشكيل الحكومة الاولى تم الالتقاء بمسؤول كبير في وزارة الدفاع انئذ للاستأناس براينا في المشاكل التي بدات تواجههم في بناء الجيش الجديد ولما ناقشناه في الاسس التي تتحكم في البناء العسكري واهمها وجود الرؤية الستراتيجية لدى القيادة السياسية لمجمل وضع البلد الداخلي والخارجي وللاهداف التي تسعى لتحقيقها واولها تعريفها لماهية المصالح الوطنية العليا التي تسعى الى حمايتها ليتم بالتالي القرار على نوع وحجم وشكل البناء العسكري .. فرأينا الرجل قد تبلد وتجهم لان كل هذه الامور لم تكن لا في باله ولا في بال قيادته … فهم شريحة جاءوا للحكم بلا رؤية عقائدية او نظرية لما يجب ان يتنع الغزو .. فلا نتعجب ان جرى البناء بعدها ، وللاسف عشوائيا في غياب الرؤية الستراتيجية الواضحة واملت البناء الجديد الظروف الانية التي هي الى زوال ولا يجب البناء وفقها لكن تأثيراتها السلبية ستبقى الى أمد بعيد .
بالاجمال نقول تحكمت في تاسيس الجيش الجديد الامور الاتية :
1. خضوع البلد للاحتلال الاميركي المتحكم في كل مفاصل الامور ، وهذا امر يمكن مناقشته من جانبين : ايجابي وسلبي ( من ناحية بناء القوة العسكرية الجديدة طبعا ) . الجانب الايجابي يتمثل بأن المحتل هو القوة الاعظم عسكريا في العالم وهو أمر يمكن تجييره للاستفادة من خبراته التدريبيةوالتنظيمية ومن السلاح والتجهيزات خاصة ان قواتنا المسلحة حرمت من اي سلاح جديد او خبرات تدريبية منذ عام 1990 وهذا الامر تحقق جزئيا اذ ان الاميركان سعوا لانشاء وحدات قلبلة العددعالية الكفاءة مرتبطة بهم حصريا فيما قدمو الدعم التدريبي واللوجستي لباقي الوحدات . أما الجانب السلبي فكان في تخوف سلطة الاحتلال من تجاوز عملية البناء سقفا محظورا من حيث التسليح والتجهيز بشكل متعمد ليكون العراق دائما بحاجة الى قوة المحتل العسكرية وللضغط على القيادة السياسية لتكون ايضا بحاجة للقوات الاميركية في حفظ الامن ومكافحة الارهاب وحتى في اسناد عمليات الجيش العراقي لانه يفتقد اسلحة الاسناد الاساسية ( مدفعية وطيران ومعلومات استخبارية على سبيل المثال ) . وهكذا كان بناء الجيش منذ البداية قد تحدد بجيش محدود القدرات مخصص لعمليات أمن داخلي وليس كجيش لحماية حدود العراق ومصالحه الوطنية في منطقة نفوذه الحيوية ، وهذه مشكلة اساسية يعاني منها جيشنا لحد الان .
2. حل الجيش السابق ، وبالتالي الاستغناء عن 81 سنة من التراكم التاريخي المؤسسي للخبرات القتالية والتنظيمية والادارية والفنية ، بل والاستشراس في ملاحقة وتصفية وتهجير الكثير من كوادره مما جعلهم اهدافا لمخابرات دول عديدة لا تريد ان ترى اية كفاءات علمية او عسكرية عراقية في المستقبل . وكان لهذا الامر انعكاساته الخطيرة على الوضع الامني ، فسياسة صنع الاعداء توازي سياسة من يزرع الريح يحصد العاصفة . ورب قائل يقول ان الجيش الحالي يضم في صفوفه ، خاصة في قياداته ، عناصر من الجيش السابق ؟
نرد على ذلك بقولنا : ان عودة البعض خاصة من الضباط الكبار كانت فردية وليس كمؤسسات تنقل معها تجربتها وتاريخها ، ثم ان هؤلاء عادوا يتزكية الاحزاب الحاكمة اي بشروطها حتى لو كانت هذه الشروط تتعارض مع قناعاتهم المهنية والعسكرية ، كما انهم ليسوا في موقع القرار. ونقول بكل امانة وليعترض من يعترض ان اغلب العائدين من كبار الضباط هم من كان لهم حظوة في النظام السابق وليسوا من الملاحقين او المتضررين ، وان بعضهم من ذوي الدرجات الحزبية الكبيرة ، وان عودتهم تمت وفق صفقة بين طرفين : السلطة الجديدة التي لا تمتلك كوادر عسكرية متقدمة في صفوفها فلا بد ان تستعين ببعض الضباط من ذوي الخبرة السابقين على ان ينزعوا جلودهم السابقة ويرتدوا زيا طائفيا وسياسيا يلائم المشهد الجديد . ومن الناحية الاخرى على هؤلاء الضباط وحتى ضباط الصف ان ينافقوا ويقبلوا نزع جلودهم وحتى تغيير القابهم ( واللبيب من الاشارة يفهم ) حتى ترضى السلطة بهم ويوافقوا على ان يقودهم انصاف اميين او هاربون سابقون من الخدمة العسكرية مقابل المناصب والمغانم التي يحصلون عليها . ولم تقصر السلطة في اطلاق يد هؤلاء بالفساد دون محاسبة مقابل تقديمهم الولاء التام لها حتى بت ترى امر اية وحدة عسكرية صغيرة يمتلك العقارات والارصدة في غضون فترة قصيرة من توليه المسؤولية، .
3. التدهور الامني السريع الذي حصل لم يحسب حسابه من تعصب لحل الجيش ووجد نفسه مرغما على تاسيس جيش اخذ يكبر ويكبر حتى بات عدديا اكبر من الجيش السابق وكأنهم لا يقرأون التاريخ ، فعندما جاء النظام الجديد في ايران الغى كل صفقات السلاح التي عقدها الشاه مع الغرب باعتبارها تبذيرا باموال الشعب وعادى الجيش القائم ، لكن سرعان ما وجد نفسه بعد فترة بحاجته للجيش و للسلاح فلم يتوانى عن التعامل حتى مع اسرائيل واميركا لتامين السلاح . لذا اخذت عملية التجنيد شكل سريع بعدة اتجاهات : تطويع محازبي وموالي احزاب السلطة ومن دفع الاموال لتزكيته ( وهذا باب جديد للفساد الخطير الذي يعاني منه الجيش الحالي ) فتم اغداق الرتب بدون حق على البعض ليتولى مناصب عليا وهو ليس اهل لهل حيث الاساس في المهنة العسكرية هي الشهادة المهنية والتدرج في الرتب حسب المناصب وما يعرف ب(بضباط الدمج ) افضل مثال للتندر بالحال الذي وصلنا اليه .
3 .اعتماد البناء الكمي على حساب النوع بسبب الفساد والرشوة في قبول المتطوعين الجدد وبالتالي التغاضي عن الشروط الصحية والبدنية والنفسية والعقلية وغيرها التي تحكم اجراءات اختيار وانتقاء الافراد للقبول في القوات المسلحة . وفي حين لو كان هناك تواصل بين تجربتنا في الجيش السابق مع الحالي لوصلنا الى قناعة بان البناء الجديد يجب اتن يتم حسب النوع لا الكم الذي لا فائدة منه في محيط تسوده التكنولوجيا والعلم . وهكذا توسعت تشكيلات الجيش افقيا وليس عموديا وكررنا اخطاء النظام السابق في تولية اهل الولاء على اهل الكفاءة ( علما ان اهل الكفاءة قد يكونوا اكثر ولاءا بحكم مهنيتهم ) . قصرت ترى آمر احد الوية الرد السريع ( سوات ) وهي قوات نخبة النخبة بامرة ضابط صنف كيمياوي لم تتعد تجربته امر كتيبة دخان…. وقائد فرقة لم تتعد تجربته امر فوج الا ان المحاصصة القومية والحزبية اتت به لهذا المنصب…وضابط اداري مسؤول عن مطبعة في احدى المؤسسات الاكاديمية يحمل رتبة فريق وتسند له وكالة اخطر مؤسسة استخباراتية في البلد …. هل تريدون امثلة اخرى لتتاكدوا اننا نعيد استساخ الماضي لكن بشكل خلاق نحو … الاسفل ؟
4. تكليف القوات المسلحة بواجبات امن داخلي منذ عشرة سنوات لحد الان من شأنه اضعاف الروح المعنوية والاستعداد القتالي بسبب انعدام التدريب . هناك قاعدة عسكرية تقول ان تكليف اية قطعة عسكرية بواجبات امن داخلي لمدة 6 شهور يفقدها الضبط والقدرة القتالية فكيف بربك ان هذه الوحدات منذ تاسيسها لحد الان مكلفة بمهام سيطرات في شوارع المدن او بواجبات مداهمات على مساكن المواطنين . ان تداعيات هذه المهام تتمثل بالانقطاع عن التدريب بشكل يفقدها اهم ميزاتها العسكرية وبالتالي يساعد على ظهور سلوكيات غير سوية نتيجة احتكاكها مع المدنيين ومن ثم انحطاط الضبط العسكري وتعرضها الى أزمة ثقة مع المواطنين . فواجبات الجندي هي غير واجبات الشرطي فلكل منهما مهامه الخاصة به ، والجيش الذي لا يكرس وجوده على الحدود لحماية الوطن كل الوطن ويتحمل قساوة الطبيعة والمناخ لايعتد به ويتحول الى ميليشيا تتحكم بها القوى الموجودة في راس السلطة .
5. ان من اكثر المخاطر المحدقة بمهنية القوات المسلحة وحياديتها هي قضية التسييس( لذا فالقوات امسلحة في الدول الدبمقراطية لا تتعامل بتاتا بالشان السياسي ، وما دمنا دولة اخذنا بذيول الديمقراطية ينبغي علينا الالتزام بذلك).
فلكي يكون الجيش جيش الوطن بكل فئاته يجب ان ينحى بعيدا عن السياسة وها نحن نعيد من جديد وبحلة كثر خطورة صورة الجيش المسيس السابق ، وياليته مسيس بفكر سياسي فقط وانما حتى مطيف ( بمعنى الطائفي ) بصورة معلنة او مقنعة . وبدلا من الحزب الواحد في السابق تتعدد انتماءات افراد الجيش اليوم بين مراكز قوى سياسية مختلفة – حسب الطائفة وضمن الطائفة الواحدة ، الامر الذي ينذر – لا سامح الله – بانقسام الجيش عند اي تحد جدي على غرار انقسام الجيش اللبناني غداة الحرب الاهلية عام 1975 . ان تدخل الاحزاب في بنية القوات المسلخة يعني تعدد الانتماءات والولاءات الفئوية على حساب الولاء الواحد للوطن والوطنية ، وهذه ثغرة خطيرة في البناء العسكري الجديد .
5. نعدام الرؤية الستراتيجية للبناء العسكري الجديد انعكس تخبطا في عملية التسليح والتجهيز ، ذلك في غياب وضوح العقيدة العسكرية للجيش الجديد لا يمكنك ان تحدد ما يلائمك وما لا يلائمك من اسلحة وتجهيزات وتنظيمات . فالجيوش تبنى على اساس توارث وتواصل الخبرات والانقطاع الحالي بين تجربة الجيش ” السابق ” والحالي لا يفضي الى نتيجة صحية وبالتالي فان الاسلحة الغربية المتعاقد عليها لا تصلح لجيشنا لانها معقدة من الناحية الفنية ، وان تسليمها لنا محدد بشروط لاستخدامها وتطول فترة استلام العقد من توقيعه حتى 5 – 7 سنوات ، كما ان شروط التدريب هي الاخرى معقدة ، ناهيك ان السلاح الاميركي اغلى من السلاح من اي منشا اخر ب 2-3 اضعاف . لا ادري ماهي مصلحة العراق في عقد اتفاقيات اسلحة اميركية ستنزع عنها اهم ميزاتها التكنولوجية ( لضمان ان لا تستخدم ضد العزيزة اسرائيل ) ، وهل صرنا مثل دول الخليج ندفع دية لاميركا نظير حمايتها لنا بمبالغ عالية كاسلحة لا نحتاج لها ؟.
ان جيشنا الحالي وطبقا للمستوى الفني المتواضع له لا تصلح له الا الاسلحة الروسية والصينية وهي جيدة قياسا لما موجود لدى دول الجوار لسهولة استيعابها وشروط التسليم والتدريب الميسرة بحيث يمكن تزويد الجيش بكافة متطلباته خلال فترة 5 – 10 سنة . اما لو بقينا اسيري العلاقة الاميركية فان ذلك سيلزمنا 15 – 20 سنة وبمبالغ 2-3 اضعاف التكلفة الشرقية .
يتبع الحلقة 3
*د . لواء مهندس ركن متقاعد باحث في الدراسات الستراتيجية العسكرية