في البدء لابد من التوضيح أن التخلف مرحلة في السير، أما مانحن فيه فهو إنكفاء وتقهقر، فبلدان العالم الأول يُطلقون على بلداننا مصطلح (البلدان النامية أو العالم الثالث) وهو تعبير دبلوماسي مهذب يعني البلدان المتخلفة أوالفاشلة ، وذلك حسب مؤشرات في مستويات التعليم والصحة والتنمية وحقوق الإنسان .
ولكن لابد من القول أن سكان وطننا المعذبون لم يُترك لهم الخيار ، لأنهم قضو الخمسين سنة الأخيرة في معمعة إنقلابات وحروب وحصار وإحتلال ولكثرة ما رأوا الموت عيانا،رضوا بأي شيء مقابل أن يبقوا أحياء حتى وإن لم يتوفر لهم الحد الأدنى من مستلزمات الحياة.
وبعد التغيير في 2003م سافر العراقيون ورأوا دول الجوار فأذهلتهم حين قارنوها مع بلدهم الذي تُرك نهبا للخراب على مدى العقود الأخيرة ، أما من تسنى له الذهاب أبعد من ذلك فتلك قصة أخرى.
أما من بقي ولم يسافر أو يهاجر لسبب أو لآخر ، فتأقلم مكرها مع الموجود غاضا النظر عن قبحه ، كافيا نفسه مؤونة السؤال عن أسباب غياب أشياء كثيرة لم يعتد أو لم يسمع أحدا يسأل عنها .
أما الذين يسافرون ويقضون أياما أو شهورا أو سنينا ثم يعودون الى داخل أسوار الوطن ، حاطين رحالهم فيه قادمين من دول الجوار القريب أو من العالم البعيد ، فهم يمتلكون أكثر من صورة، أعينهم أحد ، وألسنتهم أسلط ، يمتلكون مهارة المقارنة ويسألون يإلحاح لماذا تقدموا وتأخرنا ؟
أكوام القمامة التي تأقلم معها العراقي المقيم ، تلفت نظر العراقي المسافر فيشير بيده نحوها متسائلا لم هذا؟ وتستوقفه دوائرنا وروتينها القاتل والتعامل الفظ مع المراجعين ووجود الشباك الأزلي ككوة يطل منها المواطن لسؤال الموظف المخدوم وكذا الحال في مدارسنا / جامعاتنا / أسواقنا….الخ.
إذا أردنا تحليل الأسباب الكامنة خلف أزمة (التأقلم مع التخلف) سنجدها كثيرة منها سياسية ونفسية وفكرية وإجتماعية وثقافية ودينية ، فقد إعتاد المواطنون بل ترسب في لاوعيهم أن الوطن ملك للدولة والمواطن جزء من ديكور الحضيرة .
فلم يُسمح للمواطن المقهور أو لم يعط الفرصة أن يترقى و(يتأنسن) من خلال برنامج حكومي انتخبت الحكومة ومنحت الثقة على ضوئه سيوفر له المناخ السياسي والإقتصادي الذي سينمو من خلاله أو تتوفر له منظومة تعليمية تهذب غرائزه وتصقل إمكاناته من خلال بيئة تجعله يُخرج أفضل مافيه ، بل الكارثة أن أنظمة القهر حرصت على أن يبقى المواطن يرسف في أغلال جهله وأميته عبر مسخ إنسانيته وتشويهه وشيطنته بوسائل وأساليب متعددة ، وما الإنقلابات والحروب والحصار والإحتلال إلا بعض وجوهها .
مسخته الأنظمة المستبدة من إنسان مُكرم الى مقهور مُستلب ، وخير دليل على عمق مأساته ماتختزنه ذاكرته من محفوظات وأمثال تجذرت في لاوعيه وتناقلتها الأجيال مثل(الباب الذي تأتي منه الريح إغلقه وإستريح) تدريب على السلبية والخنوع وترك المبادرة والتحذير من المغامرة و(الشهر الذي ليس لك فيه ، لاتعد أيامه ) تعزيز الأنانية (الذي يتزوج أمي أناديه عمي) رق وعبودية إجتماعية وإنقياد أعمى للحكام.
والأدهى أن كتب التراث تعزز سلبيته من خلال ماتطرحه من التحذير والتخويف من الفتنة الداخلية ولاسيما حين يعلو صوت المطالبة بالحقوق والرقابة على الحكام وإسداء النصيحة والنقد لغرض التقويم ، فترفع مقاصل الخروج والضلال والعمالة وغيرها مع الذين يرفضون أن يكونوا أفرادا خانعين ضمن قطيع العبودية المختارة .
ومن المستهجن أن تلجأ النخبة المثقفة في محاولة إعطاء تفسير أو تبرير مقنع عن أسباب (التأقلم مع التخلف) وحين تعجز تفرّغ مخزون فشلها في جلد المواطن ، رامية إياه بأقذع الأوصاف وأردأ التهم في إتكاء معيب على التاريخ والتراث .
ومن أجل إدامة زخم التأقلم مع التخلف تلجأ الحكومات المستبدة الى إختراع العدو داخلي / خارجي ، كي يبقى المواطن المقهور محشورا بين عدم قدرته على بلع مخلفات واقعه والغول المخترع العدو الذي يوشك على إلتهامه دون رحمة ، فيضطر أن يركض صوب واقع التخلف الذي نشأ فيه وأعتاده ، مرددا في ذهول ، ما أحلى الرجوع إليه. معلنا توبته من محاولات البحث عن مخارج تنقذه من أزمته المزمنة (التأقلم مع التخلف).
ولكن عالم اليوم وإنفجاراته المعرفية وإنتشار شبكات التواصل الإجتماعي،كلها لاتصب في ترسيخ معالم التأقلم مع التخلف ، ففي كل يوم يصحو المواطن على ما يأخذ من جرف سكونه ويقلق قناعاته السلبية ، ويحرضه على التفكير ويضطره للمقارنة .
كما تعد تجارب الشعوب الناحجة التي إجتازت معوقات التخلف من خلال الحراك الإجتماعي يمكن الإستفادة منها ومحاكاتها ولاسيما أنها مرت بمخاضات مريرة اكتشفت من خلالها خطورة الإستسلام والخنوع لغول التخلف ، مما دفعها لتخرج من بين صفوفها بنخب ديمقراطية وقيادات ملهمة تمتلك رؤى سياسية واقعية عبرت بها من هاوية التخلف الى رحاب التنمية ، وودعت والى الأبد أزمة ( التأقلم مع التخلف)وأسدلت عليها الستار وأصبحت من الماضي .
إضاءة: إذا ظلت الشعوب ترنو الى الخلف ولاتتطلع الى الأمام ، فلن تتمكن أبدا من إصطياد عصافير التقدم ( د. أحمد زويل).