أنه لمن غير المعروف في ظل أحداث وأزمات خطيرة ومتراكمة، الى أين العراق بعد أزمة الإستفتاء يتجه؟. وعلى الرغم من إقرار المحكمة الدستورية العليا عدم شرعية الإستفتاء وعودة النواب الكرد الى حاضنة مجلس النواب، فالأوضاع على كافة الصعد، السياسية والمجتمعية والاقتصادية، متأزمة، ولا توجد آفاق موضوعية على المدى المتوسط على الأقل للحد منها وإنقاذ العراق وأهله من كارثة قد تلحق الأذى بالجميع. ومما لا شك فيه، أن الخطاب السياسي ومنذ وصول القوى الحاكمة بعد عام 2003 للسلطة بالصدفة، لازال بعيداً عن الموضوعية والتصدي للأزمات الخطيرة التي يتعرض لها البلد.. إن إسترخاء جميع الحكومات المتعاقبة وإصرارها على المحاصصة الطائفية والسياسية، هو الذي أدى إلى الانزلاق في صراعات أثنية وعرقية هددت وحدة العراق المجتمعية والجغرافية وعرضت استقلاله الوطني للخطر والهيمنة الأجنبية والفوضى السياسية والفساد الإداري والنهب المنظم للثروات، تحت مرأى من رموز السلطة والأحزاب وأدواتها من متعهدين وسياسيين وامنيين، ساهموا بشكل وآخر في خلق المشاكل الجيوسياسية للعراق وإنهاك اقتصاده وقدراته العسكرية والبشرية والصناعية بشكل دراماتيكي.
ففي سابقة خطيرة إتخذ برزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني قرار الاستفتاء في “إقليم كردستان العراق” تمهيداً للإنفصال عن الدولة العراقية، على الرغم من معارضة العديد من القوى الكردستانية والعراقية له. ولولا قصور الحكومة الإتحادية وعدم التزامها منذ عهد الحاكم بريمر بتطبيق الدستور لمحاربة المحاباة “التوافقية” القائمة على المصالح الفئوية والطائفية والإثنية، لما كان ذلك أن يحدث. أو أن تتجاوز حكومة الأقليم صلاحياتها وفك الارتباط بمؤسسات الدولة المركزية ويصبح الإقليم شبه دولة مستقلة خلافاً لنصوص الدستور. يمارس في شمال العراق سيطرته على الثروة النفطية الوطنية وتسويقها وتوقيع العقود التي هي من اختصاص الحكومة الإتحادية حصراً، أو بسط يده على المطارات والمعابر الحدودية وواردات الدولة الكمركية. وأن تكون البيشمركة قوة ضاربة تسيطر على أراض خارج حدود الأقليم ولا تخضع لصلاحياته الادارية، علاوة على منع قوات الجيش العراقي من الدخول الى أراضي الإقليم.
السؤال: لماذا لجأ الإقليم أصلاً، إذا ما كان جزءاً من المنظومة السياسية والجغرافية للتشاور مع الحكومة الإتحادية ومؤسسات الدولة قبل الاستفتاء؟. حيث أن الدعوة للإنفصال كما معروف لدى جميع الدول، هو مسألة سيادية غير قابلة للإبتزاز، والأهم، أن مباديء القانون الدولي بهذا الشأن غير قابلة للتأويل أو التصرف النسبي “الكيفي”، إذ يتطلب هكذا إجراء مكاشفة الحكومة المركزية بمؤسساتها الثلاث “التشريعية والتنفيذية والقضائية” للبت به، ومن ثم عرضه على الشعب بكافة مجتمعاته وأقاليمه للإستفتاء عليه بالموافقة أو الرفض. وليس كما حدث في شمال العراق، وفي محيط جغرافي لا يخلو من تجاوزات ديموغرافية وإنتهاكات سياسية وإدارية وفضائح مالية لا تعد ولا تحصى.
وعلى الرغم من اصرار الحكومة الاتحادية على تخلي “الغاء” حكومة الاقليم عن الاستفتاء، وإكتفاء الأخيرة بتجميده، إلا ان المواقف المتشنجة بين الطرفين لاتزال غاية في التعقيد والخطورة. وليس من الواضح الى أين ستؤدي؟. وما هو حجم النتائج السلبية التي ستترتب على العراق ومصيره؟. وكيف أو إلى أين ستنتهي؟.
واقع الحال أن الإستفتاء لم يأت خالياً من ضيق أفق قومي، وإسلوب غير واقعي يضع العراق أمام إشكاليات وطنية وأمنية خطيرة. قد تقوض مفهوم الشراكة لدى العراقيين وتشكل نوعاً من التحدي لمشاعرهم وسبباً لإثارة عدم الاستقرار وزعزعة السلم الأهلي. لكنه أوقع بالتأكيد الضرر بمكتسبات ومصالح الشعب الكردي التي لم يحصل على مثيلها أي جزء آخر من أجزاء العراق.. وتشير الوقائع إلى أن بعض الدوائر المشبوهة ومنها وسائل إعلام عربية وأجنبية وجهاز “الموساد” الإسرائيلي، لعبت دورا خطيراً في مخاطبة الرأي العام الكردي لتأجيج النزعة القومية “الشوفينية” وإقناعه أو تضليله للانفصال عن العراق وتصعيد الموقف ضد الحكومة الاتحادية ليكون شمال العراق، حاضنة “صهيونية” في خاصرة الدولة العراقية، وساحة للصراعات الاقليمية والدولية وشن عمليات عدوانية في المنطقة.
لإنتزاع المكاسب السياسية المتعددة الجوانب، مارست قيادات الاقليم مع الحكومة الإتحادية على مدى مشاركتها بالحكم على أسس طائفية ـ عرقية، سياسة “الإبتزاز والتهديد” حد التلويح بما يسمى بالمناطق “المتنازع عليها” والتي ربما تحدث بين دول متجاورة وليس داخل الدولة الواحدة ذات السيادة. أو تسويق سياسة ” الأمر الواقع” الذي كان من نتائج الاحتلال ووجود حكومة مركزية ضعيفة تفتقر المؤهلات الستراتيجية لطبيعة الحكم ومقوماته. وأكثرها خطورة، الدعوة وبدعم خارجي “أمريكي ـ إسرائيلي” للإنفصال تحت ذريعة “حق تقرير المصير” الذي لا ينطبق “تاريخيا وجغرافياً ومجتمعياً” وفقاً لقوانين ومباديء المنظمات الدولية ومنها هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة على العراق كدولة مستقلة ذات سيادة وقوميات متعددة كما هو حال العديد من بلدان العالم وأوربا على سبيل المثال لا الحصر. ولم يطبق هذا المبدأ التي تنص جزئيته منذ إقراره، حصراً، على شعوب وبلدان الدول المستعمرة، إلا مرتين كما حدث في السودان مثالاً. ثم أن الحكومة العراقية، أي حكومة، لا تستطيع أن تَعِد أو تتنازل أو تمنح ما لا يحق لها أن تقوم به، وإن قامت فإنها ستفقد إستقلال القرار الوطني العراقي وتقع في سياق شبهات غير محمودة.
إذن ينبغي على جميع الأطراف مراجعة مواقفها مراجعة مضبوطة الإيقاع تتناسب وطبيعة المتغيرات الجارية لتصويب مسار الدولة بما ينسجم والمصلحة العامة للمجتمع، وليس المصالح الحزبية والفئوية القائمة على التوافق والإبتزاز. إذ هناك ثمة مسؤولية أخلاقية ينبغي الإتكاء عليها لإيجاد مخرج لمشروع وطني ديمقراطي يحل جميع المشاكل العالقة وينهي الصراعات العرقية والطائفية كما يرسي العدالة المجتمعية ويؤمن حقوق جميع المحافظات وفرص الاصلاح فيها، إسوة بالمحافظات الشمالية. والأهم أن يصون الإستحقاقات الخاصة والعامة لكافة المواطنين والقوميات العراقية وفق مبدأ “دولة المواطنة” دون إجحاف أو تمييز أو إستثناء.