24 ديسمبر، 2024 3:29 م

من إشكاليات المسألة العراقية

من إشكاليات المسألة العراقية

من أيام جلجامش وأنكيدو ونبوخذ نصر، إلى كليوباترا وبروتس، وصولا إلى حامد قرضاي وأحمد الجلبي، كانت الإشكالية المثيرة للجدل تدور دائما حول سؤال: ماهي مواصفات خائن الوطن، وما هو جزاؤه.
ففي جميع تلك العصور المتعاقبة ظل المشرعون والفلاسفة والمؤرخون يتفقون ويختلفون في تعريف الخيانة وتحديد العقوبة.  ولم يوجد على وجه البسيطة خائن واحد قد اعترف بخيانته، إلا في حالات نادرة. كما لم تشهد البشرية من يرى نفسه كما يراه الآخرون. حتى الكافر كان، دائما، يرى نفسه، في عين نفسه، مؤمنا صادق الإيمان، ويرى غيره الكافرَ الأثيم.
فالاسكندر، مثلا، وقيصر وهولاكو وجنكيزخان والحجاج ومعاوية ويزيد وهارون وموسوليني وهتلر وجمال السفاح وجزار ليبيا كريستياني والخميني وحسن نصر الله وحافظ أسد وصدام حسين ومعمر القذافي وشارون ونتياهو وبشار، جميعُهم كانوا موقنين بأنهم ملائكة ومُصلحون عادلون يحامون عن شعوبهم، ويدافعون عن قيم الفضيلة والشرف والكرامة، ولا يقتلون سوى المارقين والفاسقين والكافرين.
فمن هو الخائن إذن؟ هل هو الحاكم الظالم (الوطني) الذي يخون السلطة التي ائتمنه عليها أهله، فيتخذ منها أداة لقمعهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، ويملأ بلادهم بالمقابر والمآتم، ويحيل صغارهم وكبارهم مشرردين أو أسرى ورهائن؟ أم هو فقط ذلك الذي يستدعي الجيوش الأجنبية لتسقط له خصمه الحاكم وتجُلسَه مكانه؟
وتبعا لهذه الإشكالية تبرز أشكالية أخرى. ماذا يعتبر الذي يستخدم الإعانة الأجنبية لتحرير وطنه، ولا يستبدل احتلالا باحتلال، كما فعل شارل ديغول في مواجهة الاحتلال النازي لفرنسا؟ ثم ماذا يكون الذي يستقوي بالمعين (الأجنبي) على خصمه (الداخلي)، حتى وهو عارف أنه إنما يسُقط الشيطان المحلي ليضع مكانه الشيطان القادم من وراء الحدود؟
وفي هذا الإطار ليس أفضل من جواب هتلرعندما سُئل: من تحتقر من الناس؟ فقال: مَن ساعدني على احتلال وطنه.
ومن تجربتنا المرة المعقدة في المعارضة العراقية السابقة كان الجدل يدور باستمرار حول مشروعية الاستعانة بالعامل الخارجي لمساعدتنا على إسقاط النظام، وتسليمنا السلطة. طبعا لم يكن قادرا على القيام بتلك المهمة سوى أمريكا وجبروتها العسكري والمالي والسياسي والإعلامي العظيم، ولكن لابد لها من موافقة إيران وسوريا، وعونهما لإنجاح الغزو والاحتلال. وذلك لأن جميع المعارضين، دون تمييز أو استثناء، كانوا قد تيقنوا، بما لايقبل الشك، من استحالة إسقاط نظام صدام بقواهم الذاتية كلها، لعوامل وأسباب عديدة، أهمها وأولها قدرات النظام المخابراتية والأمنية والعسكرية المتفوقة، ووحشيته في قمع المعارضين وعوائلهم وأقاربهم حتى الدرجة الثالثة، وضآلة قوى المعارضة في الداخل، وصعوبة مرور السلاح والمقاتلين من الخارج عبر دول الجوار، بل استحالة ذلك.
فكان منا ثلاثة فرق متعارضة، الأول مندفع بقوة، بل ضالع ومنغمس بالكامل في جهود استدراج أمريكا لغزو العراق وإسقاط النظام بأية وسيلة وبأي ثمن، وأخذ السلطة من بعده، دون العناية بما يأتي بعد ذلك. وكان زعماء هذا الفريق، وهم معروفون،  يجتهدون في تفسير الوطنية والخيانة، وفق ما يشتهون، لإقناع أنفسهم وغيرهم بأن ما يفعلونه عمل مشروع.
أما الفريق الآخر فكان يخاف مما سوف يأتي بعد ذلك الغزو من تبعات وعواقب وتقاطعات. فهو يعتقد بأن سيادة الوطن واستقلاله وحرية شعبه وكرامته أهم من إسقاط نظام ظالم وفاسد، مهما كانت مظالمه ومهما كان فساده. ونظام صدام فاشل ومحاصر ومنهك، وسقوطه مسألة وقت، وبذا يكون انتظار سقوطه أسهل وأفضل وأسلم من إسقاطه بغزو خارجي قد يتحول إلى احتلال.
وفريق ثالث آمن بضرورة إسقاط النظام، حتى ولو بقوة خارجية، لتخليص الملايين المعذبة في الداخل، والملايين المشردة في الخارج، من الظلم والفساد والاغتراب، بأمل بناء دولة جديدة تعيد لأهلها الأمن والحرية والكرامة ولقمة العيش. وكانت أقوى حجج هذا الفريق تقول إن الاحتلال، مهما كانت وطأته ثقيلة ومؤلمة وباهضة التكاليف، فهو راحل لا محالة، مهما طال الزمن، وتاريخ العراق نفسُه شاهد على ذلك. أما نظام صدام  فمقيم  ودائم، وقد يورثه لأحفاده وربما لأحفاد أحفاده، ما دام هو الأقوى والأكثر سلاحا وثروة، وما دامت المعارضة مشردة في المنافي، وما دام أشقاؤنا وجيراننا يساندونه على معارضيه، ويتاجرون معه، ويمدونه بالماء والهواء والغذاء.
ولابد هنا من التذكر بأن أبرز حزبين مهمين عارضا فكرة الاستعانة بالغزو الخارجي لإسقاط النظام، هما الحزب الشيوعي وحزب الدعوة. فقيادة الحزب الشيوعي كانت متمسكة بالدعوة إلى الاعتماد على قدرات الشعب العراقي الذاتية وحدها، حتى لو استغرق ذلك زمنا أطول من المنتظر.  لكن الحزب الشيوعي سرعان ما أذعن للأمر الواقع، وانضم لمجلس الجلبي، وصار أحد أركان التشكيلة التي تسلمت الحكم بعد غزو العراق. ولكن لأنه لم يكن عضوا فاعلا في حلقة القادة الكبار، سرعان ما فقد حظوته بينهم، فأخرجوه من دائرة المحاصصة، فعاد إلى أحضان الجماهير من جديد.
أما حزب الدعوة فعارض الانضمام لمجلس الجلبي الأمريكي الإيراني السوري، ولكن بحسابات أخرى لا علاقة لها بالوطنية العراقية، لا من قريب ولا من بعيد. فقد كانت علاقته بإيران،  في تلك الفترة، تعاني من برود شديد، حيث كانت القيادة الإيرانية تعمل على تكبير جسد المجلس الأعلى وفيلق بدر على حساب الأحزاب والتجمعات الشيعية الأخرى.
فالحزب الذي ارتضى أن يقاتل، طيلة الحرب العراقية الإيرانية، مع الجنود الإيرانيين، وأن يحتل قرى وأراضي عراقية، ويقتل جنودا وضباطا عراقيين، أغلبهُم من طائفته الشيعية ذاتها، ولم يعتبر ذلك خروجا على الوطنية، لايمكن أن يكون وطنيا ونزيها في رفضه القبول بالاستعانة بأمريكا وإيران وسوريا لإسقاط نظام صدام حسين.
إن هذا الكلام ليس من اخترع أحد. بل هو حقيقة واقعة يباهي بها قادة الحزب، على الدوام. ومؤخرا وقبل أيام أطلقها، دون خوف ولا حياء، نائب رئيس جمهورية العراق، وأحد كبار قادة حزب الدعوة ودولة القانون المدعو خضير الخزاعي حين أجاب على سؤال لصحيفة (الصباح) الحكومية الناطقة بلسان حزب الدعوة حول العلاقة مع إيران، في ضوء تفتيش طائرات إيرانية في العراق قبل توجهها إلى سوريا، فقال: “ليس من مصلحة العراق معاداة إيران، يكفي أننا خضنا معها حرباً على مدى ثمانية أعوام”.
طبعا إن الخزاعي لم يقصد أنه قاتل معها في الجولان، ولا ضد احتلال أمريكا لأفغانستان، ولا غزو إسرائيل للبنان وغزة، بل هو يعني بوضوح أنه قاتل معها جيش العراق وليس فدائيي صدام، وحارب الوطن العراقي وليس العوجة، واستهدف الشعب العراقي وليس قيادة حزب البعث ولا مخابرات النظام.
على العموم. لم يطل غياب حزب الدعوة كثيرا عن مجلس أحمد الجلبي، خصوصا بعد أن تأكد له أن الغزو الأمريكي أصبح على الأبواب، فانضم إلى الركب في مؤتمر لندن الأخير، 14 كانون الثاني/ يناير 2002  وصار أحد السبعة الكبار.
وفي هذا المؤتمر بالذات، أيضا، ثبت الشكل النهائي للسلطة العراقية المُجَّهزة لتَسلـُّم الحكم فور سقوط النظام. فقد تم فيه اعتماد نظام المحاصصة الطائفية، ووُضعت قواعدُها وأحكامها التي التزم بها الجميع بعد ذلك، أكثر من أي شيء آخر. وأصبح القادة السبعة الكبار هم السادة الذين لهم وحدهم كتابة القرارات، في الغرف العلوية من الفنادق، لكي تهبط، بعد ذلك، من فوق إلى أسفل، إلى باقي أفراد القطيع، غير عابئين بالتظاهرات الاحتجاجية الجماهيرة الواسعة التي قام بها عراقون منتمون لتيارات مختلفة، متهمين القادة الكبار بتغييب شريحة واسعة من الشعب العراقي. كما قاطعت المؤتمر ورفضت الدعوة لحضوره تنظيمات وشخصيات معارضة عراقية عديدة مهمة محذرة من عواقب المحاصصة والتسلط والاحتكار. 
ومن طريف المصادفات أن حزب الدعوة الذي كان أشد المعارضين للحل الأمريكي في العراق، أصبح عميدُه إبراهيم الجعفري أولَ رئيس ٍ لمجلس الحكم (الأمريكي)، ثم تسلم الحزب رئاسة الوزارة، بعد أياد علاوي، بإصرار أمريكي شديد، ثم انتزعت من أياد علاوي الفائز بأكثر الأصوات، ووضعت في يده مرة ثانية، وربما تبقى سنوات أخرى قادمة، بمباركة أمريكية أيضا.
ليس هذا وحسب. فقد صمم السبعة الكبار، وحدهم شكل طاولة اجتماعات مجلس الحكم، بنا يتناسب  ونزعتهم التسلطية، فجعلوها بيضاوية مغطاة بقماش أخضر غامق، (لا أدري من اختاره، ولماذا) يجلس على طرفها الأقرب إلى المدخل الرئيسي أعضاء الدرجة الأولى،  جلال الطالباني- الاتحاد الوطني الكردستاني، مسعود البرزاني – الحزب الديمقراطي الكردستاني، عبد العزيز الحكيم – المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، أحمد الجلبي- المؤتمر الوطني الموحد، أياد علاوي – الوفاق الوطني، إبراهيم الجعفري- حزب الدعوة، ثم محمد بحر العلوم- المستقلون.  ومن بعدهم يجلس الأعضاء الهامشيون الآخرون.
أما ما يحدث اليوم بين الشركاء من مشاحنات وتقاطعات ، ومناوشات عسكرية استعراضية ربما تصبح حقيقية، أمر كان متوقعا وغير عجيب. فالقسمة التي تقوم على المناصب والمكاسب، وبدوافع طائفية أو عنصرية أو حزبية أو شخصية، في غياب الوطن ومصالح أهله، لابد أن ينفرط عقدُها ذات يوم.  إذ إن من طبيعة الأشياء أن يتسلل الطمع إلى قلب أحد منهم، ويصيبه غرور القوة فيسعى لقضم ما يمكن قضمه من حصص الآخرين، وفرض سطوته على الجميع، بنفس حجج من سبق من حكام عراقيين، وهي الدفاع عن سيادة الوطن، وحماية أمنه واستقراره من المتمردين والمتطاولين.
الخلاصة هو هذا السؤال، ماذا سيقول التاريخ عن السبعة الكبار، هل كانوا أبطالا وطنيين تمكنوا من استدراج أمريكا وحملها على غزو الوطن، فاستخدموا آلتها الحربية الهائلة، ودماء جنودها وأموالها الطائلة، ليُسقطوا نظاما فاسدا ويقيموا دولة الحرية والعدالة والديمقراطية، لتعويض شعبهم عن مرارة السنين السود الثلاثين الماضية، فحاولوا وفشلوا، أم هم حفنة من الشطار الجشعين والانتهازيين، لم يكن همهُم سوى إسقاط النظام السابق والسطو على الوطن واقتسامه، واحتكار خيراته، واستعباد أهله، وفِعل ِما لم يفعله قبلهم أحد ٌمن السالفين؟.  أم إن هناك تفسيرا آخر لا يعلمه إلا الله ورسوله والمؤمنون؟