كان الجو غائما عندما التقيته في مقهى ستاربكس ، التي لاتبعد كثيرا عن ساحة ديبون سيركل حيث يقع المركز الثقافي العراقي. عند وصولي الى المقهى وجدته قد سبقني الى الموعد كعادته دقيقا ، حريصا على الالتزام بالمواعيد ، حيث استقبلني مرحبا بلهجته البغدادية المعتادة. بدأت حواري مع الدكتور لؤي بحري كما خططت له. والدكتور لؤي هو احد ابناء يونس بحري ، المذيع والصحفي المشهور في ثلاينيات القرن الماضي ، وهو من مواليد بغداد ، حصل على شهادة البكالوريوس في القانون من جامعة بغداد عام 1957، ثم الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة مونبلييه بفرنسا في عام 1962. درس العلوم السياسية في جامعة بغداد للفترة من 1962 حتي 1977 ثم غادر العراق للتدريس في عدد من جامعات الدول العربية والعالمية كجامعة الملك عبد العزيز في السعودية وجامعة الجزائر وجامعة كولونيا في المانيا وجامعتي اوهايو وتنسي في الولايات المتحدة الامريكية. عمِلَ دكتور بحري كأستاذ متخصص في دراسات الشرق الأوسط والخليج العربي ، و خبير مشارك في معهد الشرق الأوسط في العاصمة الامريكية واشنطن ومستشارا للحكومة الامريكية.
كتب العديد من البحوث والدراسات والمقالات حول العراق والخليج العربي ومنطقة الشرق الاوسط ونُشرت له اول دراسة حول سكة حديد بغداد عام 1967. وهو احد الكتاب المساهمين في موسوعة دائرة المعارف البريطانية لما يزيد على ثمانية عشر عاما من خلال كتابة المقالات حول البحرين والكويت وقطر والعراق. وقد شارك الدكتور بحري في عدد من المقابلات الصحفية التي اجرتها معه صحف كبرى مثل نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال وصحيفة ازفستيا، وظهر على شبكات التلفزيون الرئيسية، مثل CNN، BBC، قناة الجزيرة ومحطات التلفزيون العراقية.
في سؤالي الاول له طلبت منه ان يصف لي الوضع الجديد في العراق وما هو تقييمه له فأجاب: نتيجة التغيير الجذري الذي حصل في العراق والانقلاب على النمط السياسي والحياة العامة التي كانت سائدة قبل 2003 ، من الطبيعي ان يمر العراق او اية دولة اخرى بمرحلة اللااستقرار ولكن من الضروري على الفئة الحاكمة الجديدة ان تعمل على وضع مشروع او خارطة طريق للوصول الى الاهداف التي تعمل على تحقيقها ، لكني ارى لحد الان لم تتمكن الحكومة من رسم ملامح العراق الجديد- لاتوجد هناك خريطة للمنزل السياسي العراقي الجديد ليتسنى لنا معرفة موقع كل غرفة في هذا المخطط ، وابعادها وما تتطلبه من مواد للبناء وهذا التخطيط الجديد برأيي يجب ان يبدأ بوضع الاسس الرصينة للتعليم من اجل ضمان المستقبل وهذا يتم من خلال وضع مناهج تدريسية واضحة الابعاد. وقد اطلعت على المناهج المدرسية ، في العلوم الانسانية للدراسة المتوسطة والثانوية فوجدتها سطحية بدون فحوى وهي عبارة عن كتيبات من صفحات معدودة وليس كتب ومناهج مدرسية تبين الاهداف العليا التي تعمل الحكومة على ايصالها الى اذهان الطلاب بحيث يكون لديهم تفسير عقلاني في علم الاجتماع والتاريخ والجغرافية والاقتصاد ، بالاضافة الى فهم الحقوق والواجبات المدنية التي تقع على عاتق الشباب العراقي الذين سيساهمون في بناء العراق الجديد . أن الاهتمام الشديد بالدروس الانسانية ، والعمل على تحفيز روح المبادرة والمعرفة لدى الطلاب و محاولة ابعادهم عن اسلوب الحفظ واعتماد اسلوب الفهم والتحليل يعتبر من الامور التي يجب الاهتمام بها كما هو معمول به في عدد من الدول العربية.
من جهة اخرى ان التغيير يتطلب وضع دستور جديد وهذا يعني اعادة النظر بكل محتوياته ، وهذا ليس مستحيلا حيث هناك الكثير من رجال القانون الاكفاء و العلماء والمفكرين الذين يستطيعون وضع دستور واضح المعالم لعراق فدرالي ، واقامت توازن حقيقي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع ايجاد ضوابط لهذا التوازن. وعلى سبيل المثال ، قانون الانتخابات يجب ان ينظم بشكل واضح حيث يتم الغاء نظام القوائم والدعوة الى الترشيح الفردي. وهناك مشكلة كبيرة اخرى يواجهها العراق وهي استشراء الفساد المالي والاداري والمحسوبية في التعينات والوظائف. ان كل البيانات التي تصدرها المنظمات الدولية المعنية بالشؤون الاقصادية والشفافية والفساد الاداري والمالي تضع العراق في اخر سلسلة الدول التي يستشري فيها الفساد.ان سن القوانين لايكفي وحده لمكافحة الفساد بل يجب ان تكون هناك ارادة قوية من قبل المسؤولين للاستئصال هذه الافة المستشرية.
وقلت للدكتور ماهو الحل برأيك: ان الحل يكمن ،كما اسلفت، بتغيير الدستور بشكل جذري واصدار قانون جديد للانتخابات ، وقانون للاحزاب ، وقانون لضمان حقوق الدولة العراقية ، وعدم ترك العراق لان يكون دولة فاشلة تصبح نهبا للشركات النفطية كما هو الحال في نايجيريا. الدول عبارة عن مؤسسات والحكام بمثابة مدراء يديرون هذه المؤسسات وان مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ينطبق على الوضع في العراق تماما ، حيث يجب اختيار الافراد بشكل دقيق وان يكون لهؤلاء خبرة وكفاءة وتفان في العمل والابتعاد عن الطائفية والحزبية الضيقة، والانتماءات القبلية. ونلاحظ على سبيل المثال ان الرئيس اليمني الجديد اصدر قرارا يمنع الوزراء او الاشخاص الذين لديهم سلطة التعيين من تعيين الاقارب في وزاراتهم.
هناك مسألة اخرى وهي حسب رأيي وجوب تحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد السوق وضرورة الابتعاد عن جعل الدولة المُوَظِف الاول في البلاد وهذا يترتب عليه تشجيع الاستثمار وفسح المجال لرؤوس الاموال الصغيرة عن طريق الحوافز المادية والاعفاءات الضريبية ودعم المدارس المهنية الموجودة وتطوير، عملها كثانويات الصناعة والتجارة من اجل اعداد وتأهيل كادر وسطي يكون له دور فعال في المجال الصناعي والتجاري ، وكذلك تنظيم دورات قصيرة الامد تسغرق 6 الى 9 اشهر من اجل تأهيل ارباب الحرف ورفد السوق بهم ،وهناك دولة يمكن الاقتداء بها في هذا المجال ، وهي المانيا الاتحادية التي ركزت على هذا الجانب بشكل كبير حيث فتحت عدد كبير من المدارس المهنية المتخصصة التي لعبت دورا كبيرا برفد سوق العمل بالكادر الواسط المؤهل.
وسألته:
– انت من الرعيل الاول في كلية العلوم السياسية حيث درست الدورة الاولى في الكلية عام 1963 ،هل هناك برأيك فرق من ناحية السلوك والاداء العلمي بين طلاب الامس واليوم؟
– سمعت ان هناك فضائح كبيرة بشأن انجاح الطلبة بدون استحقاق او بالواسطة ، تسريب الاسئلة والاعتداء على الاساتذة والطلبة من اجل تخويف الاساتذة وزج الاحزاب السياسية في الكليات والمعاهد العلمية …هذه ظواهر سلبية يجب التخلص منها.
عندما كنا طلاب في كلية الحقوق في بغداد عام 1957 كانت للاستاذ هيبة، ومكانة واهمية كبيرة واحترام كبير للاساتذة وقلما يجرأ احد على الوقوف بوجه استاذ ، وعدم التطاول او مجرد المنافسة في موضوع الدرجات التي يحصلون عليها ، وعدم التأخر بالدخول للقاعة الدراسية وبالمقابل كان هناك اساتذة أكفاء ، جديرين بالاحترام من خريجي الجامعات المصرية والفرنسية والبريطانية.
– في احدى مقالاتك اقترحت تدريس مبادئ مادة العلوم السياسية في جميع المدارس الثانوية في البلاد العربية. ترى لماذا ؟
– لكي يدرس الطلاب مبادئ تطور الفكر السياسي العالمي والعربي، علاوة عن دراسة معنى الاحزاب وكيفية عملها، كما يدّرس أيضاً مفهوم الدولة واركانها وأنواع الدول وأنواع الإتحادات التي تقوم بين الدول. ان تدريس العلوم السياسية في المدارس الثانوية يعطي الفرصة للشباب والمطالبين بالاصلاح في البلدان العربية ان يتبنوا في مطالبهم مواقف فكرية وسياسية تدل على علم ومعرفة بالامور التي يمكن تحقيقها في إصلاح الانظمة السياسية في الدول التي يعيشون فيها وأفضل السبل للوصول إليها.
– سألت الدكتور لؤي فيما اذا كانت هناك نصيحة يقدمها الى ساسة العراق الجدد ، باعتباره احد الاساتذه المخضرمين الذين عاصروا معظم الحكومات التي توالت على حكم العراق منذ العهد الملكي حتى العهد الجمهوري بقيادة البعثيين فقال:
– نصيحتي لهم بدراسة كل موضوع دراسة معمقة ، وعدم اتخاذ القرارات الانفعالية المستعجلة والاستعانة بالمختصين والمستشارين ، واتخاذ القرارات بشكل افقي وليس فقط بشكل عمودي وجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
وقبل ان أنهي الجزء الاول من مقابلتي معه سألته: لو طلب منك ان تذهب الى العراق لتقديم الاستشارة ، ماذا تقول؟ فأجابني
– بالتأكيد ساذهب. انا من العراق واليه ويبقى عقلي وفكري مشغولين بهمومه.
تلبدت السماء بالغيوم ، وبدأ المطر ينهمر فقررنا الانصراف على امل ان نلتقي في موعد اخر.