تأليف : د. حازم العكيدي
لا يولد التطرف مع الانسان ، ولا يكتسبه بالفطرة ، فالتطرف بأنواعه السياسية أو العقائدية أو الثقافية يأتي عندما تتوفر الاسباب الخارجية المحفزة لنموه من الداخل ، فالضغوط النفسية والمادية التي يتعرض لها الانسان تشكل معظم الاسباب ، فضلاً عن عمليات التثقيف المباشرة أو غير المباشرة التي تتولاها الماكنة الاعلامية الهائلة للقوى المسيطرة ، لتقوم بالتلاعب بالعقول بأساليب الترغيب والترهيب ، وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم مصالح النخب المستفيدة من نشر الفوضى في المجتمعات ، وبالتالي اخضاع الشعوب وإضعاف قدراتها على الصمود بوجه المخططات الرهيبة المعدة لتحطيم ارادتها، وذلك من خلال خلق سلسلة من الازمات المتعاقبة ، سياسية واجتماعية وثقافية ، في اجواء من الفساد والتوتر والعنف والشحن الطائفي الحاد ، بهدف تهديم القيم الانسانية ، ما يؤدي في النهاية الى ازمة في الهوية الوطنية ، تمهيداً لظهور انواع من السلوك المتطرف والتطرف المقابل ، وبروز اشكال غير مألوفة من السلوك المصحوب بالعنف الممنهج ، والذي يبدو ، من حيث السمة الظاهرية فوضوياً وعشوائياً ، يصعب على البعض تفسيره وتقدير نتائجه النهائية .
وتعد هذه الدراسة “كيفية صناعة التطرف.. التنشئة السياسية ودورها” للباحث العراقي د. حازم العقيدي أول دراسة ميدانية عراقية في حقل التنشئة السياسية وعلم النفس السياسي داخل العراق في ظل الاحتلال الأميركي. واعتمد الباحث على عينة من الشباب العراقيين في محافظة نينوى ممن تتراوح أعمارهم ما بين 17 و25 سـنة، الذين نشأوا خلال فترى حرب الخليج الأولى، ثم أجواء حرب الخليج الثانية، ثم أطبق عليهم ليل الحصار الطويل الذي تسبب في موت المئات من الألوف منهم. وتبع الحصار عدوان شرس شنته الولايات المتحدة الأميركية وقضى على ما أنجزه آباؤهم وأجدادهم، ثم أفضى هذا العدوان إلى احتلال وطنهم. وفي ظل هذا الاحتلال تعرض أولئك الشباب إلى انتهاكات جسدية ونفسية مروعة، وممارسات لاأخلاقية بشعة من قبل المحتل وأعوانه، ثم وجدوا أنفسهم ووطنهم وشعبهم في قبضة سياسيين يسكنهم الحقد الطائفي والمذهبية المقيتة والفساد المستشري، حيث عمد المحتل إلى توزيع الأدوار بين الكتل والشخصيات السياسية التي ترعرعت في أحضان أميركا وأعداء العراق، ليتم عرضها كواجهات ضرورية للمشهد السياسي المصطنع. تبعات الاحتلال الأميركي يرى العقيدي في دراسته : أن الاحتلال الأميركي نجح في خلق أزمة هوية بين الشباب العراقي من خلال الأزمات السياسية بين الأطياف السياسية العراقية وزرع الفتنة الطائفية. وعمد الاحتلال إلى تخريب العقول وتدمير القيم الوطنية والقومية، عبر تغيير مناهج التعليم الابتدائي والثانوي وإلغاء كل ما له صلة بالوحدة القومية والعروبة والعالم العربي والتضامن العربي، وفسح المجال للدعوات الانفصالية والانهزامية والخضوع والاستسلام. وأوجد الاحتلال أحزابا هامشية بهدف تمزيق النسيج الوطني، وتحويل طاقة العمل الحزبي الإيجابية إلى مسارب طائفية فئوية ضيقة تشغل الجماهير عن المطلب الرئيسي وهو إخراج قوات الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية، فتلك الأحزاب لا تملك العقيدة والتجربة وليس في أجندتها سوى التهويل والاتكاء على مفردة “الديمقراطية” وإشغال الساحة السياسية بصراعات بعيدة عن الأهداف الوطنية. ولم تفلح الأحزاب السياسية العراقية الحالية في إثبات نواياها الوطنية في قيادة العملية السياسية، فضلا عن فقدانها للكفاءة السياسية والأيديولوجية الفكرية، القادرة على إحداث تحول جذري في التوجهات والميول لدى الشباب باتجاه قبول طروحاتها السياسية والانتماء إلى صفوفها وتبني قيمها واتجاهاتها السياسية المتمثلة بالدستور الجديد الذي يكرس الطائفية ويمهد لتقسيم العراق