23 ديسمبر، 2024 9:28 م

تولستوي في رأي الاديب الفرنسي اندريه موروا

تولستوي في رأي الاديب الفرنسي اندريه موروا

مقال مترجم
يقال, ان ابداعات شكسبير وبلزاك وتولستوي هي ثلاثة نصب في غاية العظمة,شيدتها الانسانية من اجل الانسانية كلها, وهذا قول صحيح. في نتاجات هؤلاء العمالقة الثلاث (والذين اضيف اليهم هوميروس) يوجد كل شئ – الميلاد والموت, الحب والكراهية,العظمة والتفاهة,السادة والعبيد, الحرب والسلم, لكن تولستوي يرسم الناس ببساطة وطبيعية لم يستطع الوصول اليها اي روائي آخر.ان بلزاك ودستويفسكي كانا يمسخان الناس دائما , اما تولستوي فانه مثل مرآة صافية تماما تعكس عمق الوجود كله, انه تيار متحرك لنهر ملئ بالماء الرقراق, انه الحياة نفسها في حركة انسيابها.
من اجل استهواء القراء والتأثير في قلوبهم يجب على الروائي ان يكون متعاطفا معهم باخلاص, ويجب عليه  ايضا ان يخلق نظاما للتقييم, ومع ذلك كله, فان رواياته يجب ان لا تكون اخلاقية – تعليمية.ان الادب – مثل البحث العلمي تماما –يجب عليه ان يرى العالم كما هو موجود في الواقع,ولكن الصفات الطيبة والخيرة تشكل جزءا (لا غير) من هذا العالم الكبير.ان عدم المحاباة لا تعني ابدا عدم الاحساس, ولا يمكن ان تعتبر قسوة. وفي الواقع, فان نجاح كل الادباء العظام, ابتداء من سرفانتس والى تولستوي, يمكن توضيحه بامكانيتهم خلق ابطال يحبهم القراء,لكل ما يحملون من صفات ايجابية وسلبية, بكل ما فيهم من جدارة ونواقص معا, وحتى اضعف الضعفاء بين هؤلاء الابطال لا يستسلمون كما هو حال الابطال المهزومين في ادبنا هذه الايام. بروست نفسه حافظ على الايمان ببعض تلك القيم- في فهمه لتطور الفن, وفي الفضيلة المتواضعة والرفيعة التي جسمتها جدته.
روايات تولستوي- هي اكبر  من كونها روايات, اذ توجد على الارضية الخلفية ل (آنا كارينينا) ,كما في (الحرب والسلم) و(موت ايفان ايليتش ) ايضا – دراما فلسفية,كونستنتين ليفين والامير اندريه بولكونسكي واخرون يعبرون عن حياة تولستوي الروحية, اذ انه كان يتقاسم مع ابطاله خيبة الامل, وتأنيب الضمير وكل الامال. لقد كان مثلهم يتعلم الحكمة من بلاتون كاراتايف في (الحرب والسلم) , اما في (موت ايفان ايليتش) فكان يتعلم من غيراسيم الرائع, هذا الانسان الطيب والبسيط. هؤلاء هم الذين يستحقون ان نحذوا حذوهم, ولكن كيف؟ الجواب – ان نحب الناس مثلما كانوا يحبونهم هم, وهذا يكفي. ان ليفين يعرف مقدما, كما هو حال تولستوي, بانه سيغضب نتيجة نقاشاته مع ايفان, ومع ذلك فانه يقول – ( …لكن حياتي الان, كل حياتي, بغض النظر عن كلما يمكن ان يحدث معي, كل دقيقة منها, تمتلك معنى اكيدا يكمن في الطيبة ).كثيرون سيقولون, ان هذه مسألة غير واضحة بما فيه الكفاية, ولكن لا داعي بتاتا لان تكون واضحة, المهم هو انه قرر الاختيار.
ما هي الاشياء التي يدين بها تولستوي لبلزاك وفلوبير؟ لقد كان يقرأ نتاجاتهم, ولكن الا يبدو لنا انه اقتبس منهما تكنيك الكتابة؟ . معاصرو تولستوي في روسيا كانوا يسمونه واقعيا, ولكن واقعية تولستوي لا تشبه واقعية ( الطبيعيين) في فرنسا. ان الوصف التفصيلي للوضعية ولزينة النساء, والتي كان بلزاك مولعا بها,تبدو لتولستوي مسائل مملة, اما اناقة فلوبير الادبية فقد كانت قضية غريبة بالنسبة له. ان تولستوي يسير في طريق خاص به, طريق ملئ باحاسيس وافكار ابطاله فقط, هؤلاء الابطال الذين لا يدينهم. بلزاك يدين يولو, ويدين اكثر فيردنيا دي مييه… فلوبير يكره البرجوازيين الذين يخلقهم في نتاجاته… تولستوي وحده يضئ الجميع بضياء واحد فريد.
عندما نترك هذا العالم الحي الواسع الذي خلقه تولستوي , يبرز سؤال يطرح نفسه دون ارادتنا, وهو – كيف استطاع هؤلاء النقاد الابالسة ان يؤكدوا ان الرواية اصبحت شيئا عتيقا في الادب؟ لا توجد اشياء اكثر روعة واكثر انسانية واكثر ضرورة من روايات    تولستوي(الحرب والسلم),و( آنا كارينينا) و….
اعتقد ,انه من الضروري جدا ان يبحث الروائيون الجدد عن اشكال جديدة, وتوجد عندهم فعلا-بعض الاحيان- اكتشافات شيقة,ولكنهم لن يستطيعوا ابدا ان يخلقوا اي شئ افضل من هذا العملاق البدائي,والذي لم يهتم حتى في اكثر فترات عطائه خصبا باية قواعد ادبية. اننا نجد عنده كل ما يسمونه في ايامنا هذه تجريدا-الاحساس بالتغرب, والوحدة, والقلق الروحي…الخ . من الذي كان يعاني ذلك الاحساس بشكل اعمق من ليفين الذي كان يتساءل( وهو يعمل لعدة ايام مع الفلاحين) –(اين انا؟ماذا انا؟ ولماذا انا هنا؟) اما فرويد ونظريته عن (الوعي الباطن) ,فهاكم هذه الفقرة من تولستوي- (ستيبان اركاديفتش اخذ القبعة وتوقف متذكرا,هل نسي شيئا ما, وتبين بانه لم ينس اي شئ ما عدا الشئ الذي اراد ان ينساه- زوجته)…
في الواقع , ان كل شئ نحبه في الادب كان موجودا عند تولستوي.