على الرغم من الأهمية العظمى والحاجة القصوى لمفهومي (السلم والتنمية) إلا أنهما غائبان عن ساحة التداول المجتمعي مع أننا نقرأ قوله تعالى (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) هكذا أوجز التنزيل الحكيم جناحي التنمية فهما أمن بلا خوف وكفاية غذائية ، هما آمال الشعوب، وماذا تريد المجتمعات أكثر من سلم أهلي تقر به عيون المواطنين لاسيما من عاش سنوات رعب لا زالت تداعياتها تضرب في عمق الإستقرار المأمول وتجعل من المستقبل صورة ضبابية بعيدة المنال.
وتنمية مرتجاة لطالما داعبت مخيلة الحالمين بغد أفضل في بلد لاتنقصه الموارد المادية والخامات البشرية، ومازال ينتظر منذ عقود القلة المبدعة من المفكرين والساسة التي سترسو به على بر الأمان ومحطات الإزدهار.
ولكن هل السلم المجتمعي والتنمية المستدامة يتحققان بالأمنيات، بينما أرقام الأمية وشيوع الجهل وتدني مستوى التعليم وتدهور القيم والجاهزية للإستبداد وتجذر الخرافة وغيرها من المعوقات الحضارية تقف مانعا صلدا أمام إرساء السلم وبدء مشروع التنمية.
مع يقيننا أن الشعوب لا تتعلم بالكلمات بل باللكمات ، فأوربا صنعتها الحروب،وأميركا صنعتها الفلسفة كما تقول(مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا) معللة إستقرار أوربا بقناعة إضطرارية بالسلم بعد الصراع الدامي الذي إستمر مئات السنين بينهم ، بينما أثر المؤسسسون الفلاسفة (واشنطن ، ادامز ، فرانكلين وغيرهم ) في إستقرار الولايات المتحدة الأمريكية ، فهما طريقان لاثالث لهما(الحرب الطويلة وفق النموذج الانكليزي أو السلم والعقل والحكمة وفق النموذج الأمريكي).
ولكن هل حقا(عقلنا الجمعي العراقي) لايمتلك الجاهزية لفهم السّلم والترقي في مدارج التنمية ويحتاج أن نصبر ثلاثة عقود أخرى أو أكثر كي يكون جاهزا للتعامل مع مفردات النهوض والإنعتاق من أسر مناخات الرعب الإجتماعي والبدء بالعمل وفق معادلات ثقافة مشاريع التنمية.
ومن جهة أخرى ألا يمكن أن نستشرف المستقبل مستندين إلى أن تراكم المعاناة وتناسل المآسي سيكون في النهاية مناعة مجتمعية ضد تكرار الكوارث من خلال تجذير المضادات الحيوية السلمية أمام شيوع ثقافة الكراهية وإرساء منظومة إدارية تنتج إقتصادا منفتحا تضع حدا لعشوائية إدارة الموارد.
الإنسان السلمي هو مُنتج لثقافة مجتمعه، لأنه يولد وعينه لاترى إلا بحدود مسافة قدمين ، ثم يكبر فيرى بمسافة 13 درجة عمقا وسعة من مجموع 380 درجة ، فهو بالخيار إذ يمكنه أن يوسع درجة رؤيته حسب بيئته وإختلاطه حتى يصبح سلميا مدنيا إنسانيا مدركا لأهمية مشروع السلم والتنمية ، فإذا كان في بيئة صحية تنموية واستثمر حواسه ومرن عضلات مخه ستتسع مساحات رؤيته، أما إذا كان في بيئة منغلقة وعطل حواسه وتبلدت عضلات مخه ستنكمش رؤيته لتكون أضيق من 13 درجة ، وحينها سيكون عضوا فاعلا في هدم السلم المجتمعي ومعوقا لعجلة التنمية.
خلو مجتمعنا من هذه الأفكار البناءة هو السبب في تضخم مساحات مجتمعية الى درجة التخمة بالأسماء المتشابهة، وفقر فكري مدقع في مساحات أخرى يتضح ذلك حين تستعرض أسماء وعناوين خريطة الحركات والأحزاب السياسية الفاعلة أو من لم يتبق منها سوى الإسم، ستتفاجىء بالتشابه الكبير بين الأسماء بين (اسلامية ، وطنية و………) بينما بقيت مساحات واسعة لم تملأ،فالحديث عن حركة سلمية لاعنفية،أومؤسسة سياسية بدل(مركزية الشخص/ العائلة و…….) يعد ترفا لاتجد له من يحاول تفهمه ويدرك أبعاده الإيجابية في الحاضر والمستقبل.
موانع جسيمة وعقبات كثيرة تعترض وجه دعاة السلم منها أفهام تراثية وتراتبيات سياسية وأمراض وعلل إجتماعية بالية ونظم تعليمية ساذجة ومناهج ملغومة وإعلام هدام تموج في متاهة مجتمعية تضطرب فيها الأفكار السطحية وتطفو جثث البدائية فيهرب الإبداع ويتنحى البناة جانبا في إنتظار إحتضار ديدان الخراب وجينات الدمار.
إذا اردنا أن نعيش في ظلال السلم والتنمية فلا بد من دفع ثمنهما ، كما دفعت الشعوب الحرة الثمن منذ عصر النهضة والأنوار الأوروبي ، ترى هل ستصبح أوربا كما هي الآن لو لم يظهر فيها(روسو وكتابه العقد الإجتماعي)أو(مونتيسكيو وكتابه روح القوانين) أو( جان لوك وكتابه رسالتان في الحكم) أو لم تشهد كذلك مرحلة الإصلاح الديني على يد (لوثر) و(كالفن) أوتظهر فيها من خلال التدافع بين السلطات المتنازعة مواثيق (الماغنا كارتا / العهد الأعظم في انكلترا الذي قيد سلطان الملك) وغيرها .
السلم ثمرة للفكر البناء والثقافة الإستيعابية ، والتنمية نتاج الإدارة الفعالة والقيادة الرؤوم ، ومن المستحيل الحصول عليهما مادمنا نرزح تحت ركام الماضي تأسرنا العدوات الضيقة والأفكار البليدة ، سنحصل على السلم والتنمية بيسر حين يكون السياسي مفكرا مثقفا إنسانيا قبل أي شيء إخر.
الإيمان والقناعة الفكرية بالسلم طريقا وحيدا للتنمية لا يأتي عفوا أو مجانا، فمن لم يكن في سلم مع نفسه لايمكنه أن يكون في سلم مع محيطه أو مجتمعه ، لذا لابد من دفع ضريبة المعاناة من خلال الدعوة الدؤوبة الى إرساء أفكار السلم من خلال المقارنة بين غول العنف وآثار الكراهية وثمرات السلم وعوائده المجتمعية التي لاتعد ولاتحصى .
مهمتنا تعبيد الطريق ورسم المعالم الفكرية لمن سيأتي بعدنا ، وهي مهمة جليلة بلا شك ، ستذكرها الأجيال وسيقولون حينها ( مرّو ، وهذه آثارهم).
إضاءة : الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً…. وتتم مقاومتها غالباً… لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد (جون لوك ، 1632 – 1704 ، فيلسوف ومفكر سياسي إنجليزي).