إن الذين التقطوا بديلا لنوري المالكي، ومن حزب الدعوة أيضا، بشروا الشعب العراقي المحتج والمنتفض والمعتصم ضد الفساد والمفسدين بأن الآتي هذه المرة هو الفارس المنتظر الذي سيرفع الزير من البير، ويجتث الفساد، ويحرر الأرض، ويُخرج الوطن من غرفة الإنعاش إلى تمام الصحة والعافية والسلامة، في سبعة أيام.
ومن قبل أن يتم ترئيسه كان وراءَ ظهره المرجعية والوليُّ الفقيه وماما أمريكا وكل عراقي احترق قلبه وامتلأ نقمة وغيضا على المحاصصة وأصحابها. يعني أنه تسلم السلطة بكامل الصلاحية والحماية والدعم المطلوب، دينيا ودنيويا، عراقيا وإيرانيا وأمريكيا، وكان قادرا على قلب الطاولة، بضربة خاطفة، على المشعوذين والسماسرة المرتشين والمزورين، فيدخل التاريخ بطلا من أبطاله الخالدين.
لكنه أثبت أنه ليس بطلا ولا هم يحزنون، لا يملك الجرأة ولا الرغبة ولا القدرة على فعل شيء ذي قيمة. فقد كان كل الإصلاح الذي تجشم عناء الإقدام عليه هو إنهاء خدمات نواب رئيس الجمهورية، نوري المالكي وأياد علاوي وأسامة النجيفي، واعداً بمسلسلٍ طويلٍ قادم من الإصلاحات لا ينتهي.
ولكن قضاء مدحت المحمود قطع عليه مسلسل أمجاده البطولية، وكسر هيبته، وكشف ضعفه وكسله، حينما حكم ببطلان قراره، وأعاد الثلاثة المطرودين إلى كراسيّهم المذهبة، وكأن شيئا لم يكن، وأثبت أن رئيس وزرائنا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.
وثابتٌ ومعروفٌ أن الفساد والاختلاس والمحاصصة كانت أساسَ كل الكوارث التي حلت بالعراق، من أول أيام وزارة أياد علاوي، قصيرة العمر، وطيلة سنوات حكم نوري المالكي الثماني العجاف.
ولولاهما لما أفلست الخزينة، ولما انتعش الصراع المذهبي في العراق، ولما كانت الاعتقالات وحملات التطهير الطائفي والعنصري في مدن أو أحياء المدن العراقية المهمة، كبغداد والبصرة وكركوك، ولما استطاع مزور شهادة أن يحتل منصب وزير أو سفير أو نائب في البرلمان، ولما تسلط أصحاب العقول الدينية المتخلفة على نظام التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والعالي في العراق، ولم تُقتسم الوزارات، حصصا وإقطاعيات، فتصبح كل وزارة ملكا خالصا للحزب الذي قُيدت باسمه، ولما أصبح العراق مضرب المثل في العالم كله في فشل الدول، وفسادها، وخطورة العيش فيها.
وذات يوم طفح كيل رئيس الوزراء، وفقد أعصابه، فخطب على شاشات التلفزيون فاضحا رئيسه في حزب الدعوة، معلنا أن (القائد الضرورة) ترك له الخزينةَ خاوية، والدولةَ غارقة في ديونها. ولكن، حين هاتفه المالكي غاضبا، صحح أقواله مؤكدا أن الذي كان يعنيه بـ (القائد الضرورة) هو صدام حسين، وليس أي رئيس وزراء آخر.
وفي كل شهر، وأحيانا في كل أسبوع، يخاطب الراعي رعيته ويعدها بأنه سوف يعصف بكبار الفاسدين، فقط حين ينتهي من تحرير الأرض من الدواعش ويعود من (جهاده) الأصغر إلى (جهاده) الأكبر، عما قريب.
ثم تحقق الحلم، وتم سحقُ عصابات داعش (السنية) في العراق، وتحررت آخر مدينة وقرية احتلها الدواعش في زمن القائد الضرورة نوري المالكي، ولم يبق أمام الرئيس العبادي سوى داعش (الشيعية)، ومن يحمل سلاحها، وينشر عقائدها، ويرتكب موبقاتها التي لا تقل كثيرا عما كان فعله (الأشقاء) الدواعش، من دعوة إلى دولةِ خلافة، وإلى جهادٍ، وإلى قتلٍ للمرتد، وإلى تزويجٍ للقاصرات، والرضيعات أيضا، ومطالبةٍ بفرض الجزية على الذمّيين أصحاب الكتاب، وهم صاغرون.
وليس غريبا على قاريء ذكي لمّاح أجاد قراءة ما وراء السطور أن يوقن بأن القضاء على دولة الدواعش كان نتيجةً لتوافق مصالح، إيراني أمريكي، غير مكتوب.
والحق يقال، إن نظام الملالي الإيرانيين لم يُقصر في الجهاد من أجل تحرير المدن والقرى السنية من داعش، ولكنّ مليشياته سرقتها، ثم دمرتها، وأحرقتها، وجعلتها قاعا صفصفا، وهجَّرت أهلها، ومنعتهم من العودة إليها، حتى بعد تحريرها.
ولكن برغم أن النظام الإيراني زج بحرسه الثوري ومليشياته العراقية بقيادة قاسم سليماني لدحر الدواعش فإن الحقيقة هي أن هذا الانتصار الماحق على الدمية المُصنَّعة داعش لم يكن ليحدث لو لم تقرر أمريكا أن تنهي صلاحيتها، من أجل استثمار الحربَ عليها، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، بجعل العراق مدينا لها بمئات المليارات من الدولارات، وبنشر قواعد عسكرية متقدمة لها في مناطق حساسة من العراق.
تخيلوا الصورة بدون أقمارها الصناعية، وطائراتها، وأحدث أسلحتها المتطورة المدمرة، ومُخبريها وجواسيسها، والقناطير المقنطرة من الذخيرة الأمركية وقذائف المدافع والصواريخ التي كانت تهطل مثل المطر على مدن وقرى نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين.
والظاهر أن كل ما كان مرسوما لحيدر العبادي من دورٍ في فيلم التحرير الجميل، وصولا إلى آخر معاقل داعش في العراق، هو دورُ المبشر النذير، والمتحدث الرسمي باسم (التحالف العسكري والسياسي والإعلامي الإيراني الأمريكي) العتيد.
وها قد انتهينا من دولة الخلافة، وتحررنا من كوابيس لياليها المفزعة، بعد كل ما تحمله العراقيون من أثمان باهظة لوجودها، دما وأموالا وتهجيرا ودمارا وجرائمَ ضد الإنسانية والحضارة والتاريخ لن تُنسى في قرون، فهل يفي (الرئيس) حيدر العبادي بوعوده التي قطعها على نفسه، علنا وعلى شاشات التلفزيون، بالاقتصاص ممن كان هو السبب؟.
نعم. لقد عاهد العبادي العراقيين، في التاسع من الشهر الحالي، “بالانتصار في الحرب على الفساد، مثلما تحقق الانتصار ضد الارهاب”،
وسوف نتفاءل، ونصدق (الرئيس) هذه المرة، وننتظر، فلعل الله يَهديه سواء السبيل، ويزرع في قلبه العزيمة والشجاعة والحمية، فيلمُّ، في ليلة واحدة، مئتين من كبار الفاسدين المفسدين، شيعة وسنة ، عربا وكردا وتركمانا، مسلمين ومسيحيين، ويحتجزهم في فندق الرشيد ببغداد، ويُجمد حساباتهم، ويمنع أبناءهم وبناتهم ونساءهم وأصهارهم من السفر، ويبدأ التحقيق العادل المستقل، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتتحقق العدالة، وينام الشعب العراقي قرير العين.
ولكن إذا تبين لنا أن حملته ضد الفساد والمفسدين لم تمسَّ سوى (أولاد الخايبة) اللصوص الصغار المختلسين ألفا أو ألفين أو عشرة آلاف دولار، وأنها كانت بردا وسلاما على أصحاب الرؤوس الكبيرة، والكراسي الوثيرة، والقلاع المنيعة، والمقامات الرفيعة، المختلسين مليونا أو عشرات، أو مئات الملايين من الدولارات من أموال الدولة المفلسة، فسوف تكون خطاباته هواءً في شبك. ويومها سوف يتأكد للعراقيين أن توقعاتنا كانت في محلها، فهو ليس أكثر من قطٍ صغير ألبسه المغرضون اللؤماء ثيابَ أسد. ونحن لا نرضى له هذه الصورة، ولا نريد له كل هذا الهوان. وإن غدا لناظره قريب.