ليس غريبا ولا عجيبا أن تثير العودة الروسية إلى العراق بهذه الصفقة العسكرية الكبرى التي بلغت قيمتها 4,2 مليار دولار كل هذه الحيرة والاستغراب، لما لهذه العودة من معطيات وتأثيرات وانعكاسات على الوضع العراقي الداخلي، وعلى مجمل تطور الأوضاع في المنطقة كلها.
فلو تمت هذه الصفقة مع أية دولة أخرى غير روسيا، وفي زمن غير الزمن الحالي، لما استحقت كل هذه العواصف من الشكوك والمخاوف.
فللسلاح الروسي في الذاكرة العراقية ذكرياتٌ مؤلمة كثيرة. فقد كان دائما يباع أو يهدى، بلا قيود ولا شروط، لأنظمة حكم عسكرية ديكتاتورية لم تتورع عن استخدامه لقمع مواطنيها في الداخل، أو للعدوان على دول مجاورة، دون أي اعتراض روسي من أي نوع.
كما أن ما يدور اليوم في سوريا من حرب إبادة شاملة بالسلاح الروسي نفسه، وبتحالف روسيا العلمانية مع إيران الدينية الشمولية المتزمتة يثير الكثير من الاستهجان والسخرية بصدقية المباديء والأيدلوجيات والأخلاق، ويجعل لهذه الصفقة تأثيرا بالغ الخطورة على مستقبل التحالفات الدولية في الشرق الأوسط الجديد، لما بعد بشار، وربما لما بعد النظام الحالي في إيران، وحتى لما بعد امبراطورية نوري المالكي ذاتها.
ليس السلاح وحده. بل إن المالكي منح روسيا أبوابا أخرى في حقل الطاقة الكهربائية، وفي قطاعي النفط والغاز. خصوصاً بعد أن حصلت شركة “لوك أوبل” الروسية على عقد لاستثمار حقل “القرنة الغربية -2″، كما حصلت شركة “غاز بروم نفط” على عقد لاستثمار حقل “بدرة” النفطي. والمخفي كان أعظم.
ومقدما ينبغي الاعتراف بأن من غير المعقول وغير الممكن أن تكون خطوة المالكي هذه وطنية عراقية مستقلة خالصة ليس لإيران يدٌ فيها، خصوصا في ظل المأزق السياسي والاقتصادي الخانق الذي يمر به النظام الإيراني ذاته، بسبب برنامجه النووي، وبسبب وجوده المُحاصر في سوريا ولبنان والعراق واليمن ومصر ومناطق أخرى عديدة في المنطقة.
والسؤال المحير الآخر هنا هو هل إن خطوة نوري المالكي هذه بيان طلاق ٍنهائي لا رجعة عنه مع أمريكا، وانتقالٌ فعليٌ وعلني وقطعيٌ إلى أحضان الولي الفقيه، مع الاستعداد الكامل لتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج؟
ثم هل هو مدرك لخطورة ما قد يسببه قراره هذا للوطن العراقي وأهله من حروب وصراعات وتقاطعات جديدة مؤذية بين أطراف العملية السياسية المتخاصمة معه في الداخل، مع ما سوف يرافقها من تفجيرات ومفخخات واهتزازات وانتكاسات ملها العراقيون وذاقوا منها الكفاية، وما سوف تشعله من معارك ومماحكات ومشاكسات مع أمريكا ونفوذها في الداخل العراقي، وفي الإقليم، ومتاعب ومشاكل وتعقيدات مع دول جوار لا مصلحة للعراقيين، كشعب، في معاداتها والإضرار بأمنها ومصالحها الحيوية العليا؟
إن الأمر الذي لا يمكن تجاهله أو إنكاره أن المالكي، إن لم يكن الوكيل الأكثر ضمانا والأقل إزعاجا لأمريكا ومصالحها في العراق والمنطقة، على طول السنوات الماضية، فهو أحد أكثر حلفائها استفادة ً منها ومن أموالها وجنودها وإعلامها، وهو الأحق من الجميع بالشكر والعرفان بفضلها عليه وعلى حزبه، ليس بتوزيره فقط، بل بحماية كرسيه المذهب، وإبطال المحاولات المتكررة من قبل رفاقه الشيعة وخصومه السنة والكورد لإسقاطه سواء بنزع الثقة أو بأية وسيلة أخرى من داخل اللعبة السياسية ذاتها أو من خارجها.
ويقال إن واشنطن تلكأت في بيعه أسحلة هجومية من نوع الأسلحة الروسية الواردة في الصفقة الأخيرة، واشترطت عليه أن يتعهد لها بعدم استخدامها ضد حلفائها في المنطقة، أو ضد أطراف عراقية داخلية، أو بيعها أو إهدائها أو إعادة شحنها لإيران أو سوريا فانزعج منها ثم قرر الرد عليها من موسكو بإعلان سياسة (الاستقلال التام أو الموت الزؤام).
وإذا صحت الأنباء المُسربة من ديوان رئاسة كردستان والتي تقول إن الرئيس مسعود البرزاني استمع إلى تسجيل صوتي لجلسة سرية لكبار قادة الجيش العراقي حضرها المالكي باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة نوقش فيها الصدام العسكري المحتمل مع القوات الكردية، فإن ذلك قد يكون السبب الأول والحاسم في مماطلة أمريكا في الاستجابة لطلباته التسليحية الهجومية المتكررة.
يضاف إلى ذلك أن المالكي قال في موسكو أنه “يريد الحصول على أسلحة حديثة يمكن استعمالها ضد الارهابيين في ظروف الجبال والصحراء” وليس لهذا معنى آخر غير جبال كردستان وصحراء الأنبار المحاذية لسوريا.
هنا يحق لنا أن نتساءل، هل يريد أن يعيد إلينا زمان قعقعة السلاح، كما كان الحال في أيام الحكومات الديكتاتورية المتعاقبة؟ وهل يريد، فعلا لا قولا ولا دعاية ً ولا تهويشا وتخويفا وتلويحا، أن يستخدمه ضد شركائه في الوطن الذي ما زال موحدا لحد الآن؟ أم هو يريد لكردستان أن تبتعد عنه رويدا رويدا، وتضطر في النهاية إلى الانفصال ليتخذ من ذلك ذريعة لمقاتلة الجبال بالسلاح الروسي الجديد، فتصبح ديكتاتوريته مشروعة ظاهرُها الدفاع ُعن وحدة الوطن، وباطنهُا قمع ُ جميع الخصوم، داخل الائتلاف الشيعي نفسه، وفي جبهة المناوئين السنة، ومن ثم الاستحواذ على السلطة، دون شريك، معتقدا بأنه بذلك يُجبر أمريكا وحلفاءها، في الداخل والخارج، على الاعتراف به زعيما وحيدا للعراق، وربما لمجمل المنطقة، تماما كما كان سلفه أبو عدي يحلم بتحقيقه، فسقط من حيث لم يحتسب.
سؤال آخر، من هو المواطن العراقي الحقيقي؟ هل هو فقط ذلك المنتمي لحزب الرئيس، أو الذي يبايعه ويشايعه، ويبصم بالعشرة على كل سياسات الحزب القائد وقراراته، أم هو الذي يتمسك بحقه الكامل في الوطن والمواطنة، فيسأل ويحاسب، يحب ويكره، يوافق ويرفض، يعطي ويمنع، يحارب ويسالم، ويقاتل من أجل حقه في دولته وخيراتها وأموالها ووظائفها، والمشاركة في صياغتها وصناعة قراراتها، وكتابة دستورها وقوانينها، ورسم كل صغيرة وكبيرة من أمور مستقبلها الذي هو مستقبل أبنائه وأحفاده أجمعين؟
وهل يحق لكائن من كان، نوري المالكي أو غيره، أن يحتكر حق النيابة عن الشعب، دون استفتاء ولا استشارة، ويتخذ وحده قرار الحرب وقرار السلام؟ وهل من العدل والمنطق والوطنية أن يُجبر سياسيٌ واحد ملايين العراقيين على التحالف مع هذه الدولة، أو الخصام مع تلك، لخدمة أغراض ومصالح أخرى هي ليست مصالح الوطن وأهله، بأية حال ؟
وأخيرا، وعاجلا أم آجلا، سيتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فنعرف ما إذا كانت أمريكا ضالعة في هذا اللغز المحير، أم إن الصفقة من أساسها سكينُ خاصرة ٍ أغمدها في صدرها أكثرُ حلفائها العراقيين استفادة ً منها ومن أموالها وجنودها ونفوذها؟
وعاجلا أم آجلا، أيضا، سنعرف كم ستطول أيام الحاكم الذي يعادي الجميع، ويهين بالجميع، ويدوس على الجميع، ولا يصدق أن الزمن قد تغير، وأن البقاء للشعوب وليس لجلادها، من أيام أبينا آدم وأمنا حواء وإلى اليوم وإلى غد وبعد غد، وإلى أبد الآبدين
ومن أجل هذه المعرفة ليس لنا سوى قياس حرارة مواقف القيادة الكردستانية وسخونة تحركاتها الواضحة، في المستقبل العاجل القريب، باتجاه معارضة الصفقة ومحاولة إبطالها، أو السكوت عنها والقبول بها، على مضض، ثم، مع ذلك وبعد ذلك، علينا التأكد من جدية مواقف الأطراف السياسية العراقية الأخرى من هذه الصفقة، وبالأخص أطراف الائتلاف الوطني والقائمة العراقية وكل مواطن عراقي آخر غيور.