الحلقة التاسعة
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
مِنَ المعلومِ أنَّ الناسَ جميعاً ما انفكوا يبحثون عَنْ السعادةِ وَيُجِدُّون فِي طلبِها وَيكدَحُون فِي تحصيلِها، وَلعلَّ أكثر مَا يُدخل عَلَى اَنفُسِ أغلبهِمْ السعادة بعد إكمالِ إجراءات تسجيل صغارهم فِي المَدَارِسِ هو يوم ابتداء الدرَاسَة الَّذِي يفرض عَلَى الأهالي – الآباءِ أو مَنْ ينوب عَنهم – السعي بمختلفِ السُّبُلِ بقصدِ إشاعةِ الأمن وَالطمأنينة فِي نُفوسِ – قُلوبهم البريئة – الَّتِي تتحرك عَلَى الأَرْض؛ بغية ترغيبهم فِي المَدْرَسة وَجعلهم اكثر شوقاً وَحباً لبِيئَتِها، وهو الأمر الَّذِي يلزم الكثير مِنهم السعيَ فِي متابعتهم وَمدهم بالأملِ وَالمساعدة عَسَى أَنْ يحقِّقوا المؤمَّلَ منهم، فضلاً عَنْ حرصِ الأمهات اللائي يتقاسمن الحب وَالوجع عَلَى دسِ مَا تيسر مِنْ بقايا رغيف خبزٍ فِي حقائبِهم البسيطة الَّتِي يجري عملها فِي المنازلِ مِنْ بقايا الأقمشة أو الأكياس النسيجية؛ لأجلِ أَنْ لا يتقاسم الأطفال البكاء وَالتَضَوُّر مِنَ الجُوعِ. وَغنيٌّ عَنْ القول إنَّ سخاءَ الآباء والجهد فِي محاولةِ تلبية مَا يحتاجه أطفالهم المنتظمون فِي المدارس حديثاً، فضلاً عَنْ اسْتيطانِ ما زخر مِنَ الأدعيةِ قلوبهم، يَعكس السعي لتحقيقِ آمالهم فِي سلامةِ نشأةِ أولادهم، وَعزمهم عَلَى الاستمرارِ بمتابعة مسارهم فِي الحياةِ الدراسية، وَمَا يقتضي مِنَ التدابيرِ الَّتِي بمقدورِها المساهمة فِي حثّهم عَلَى التسلحِ بالعلمِ وَالمعرفة وَمَا مِنْ شأنه السير بهم صوب مستقبلٍ آمن.
لا رَيْبَ أَنَّ اكتواءَ المرحومِ عباس عبود بصعوباتِ الحياة، لَمْ يشغله عَنْ لهفةِ انتظار دخول ابنه يحيى المدرسة، حيث كان طموحه يجعل مِنه أشبه بِمَنْ يُسابق استيقاظ صباحات الأيام صوب تحقيق حلمه فِي رؤيةِ وليده منكبا عَلَى كتابةِ واجباته المدرسية؛ بغية ضمان تهذيبه بما ينسجم مع المعاييرِ الَّتِي تتبناها عائلته المحافظة فِي عمليةِ بناء شخصية الفرد والحيلولة دُون انزلاقه فِي مساراتٍ بعيدة عَما يتمسك به مجتمعنا مِنْ عاداتٍ وَتقاليدَ تمثّل رمز أصالته وامتداد جذوره فِي التأريخِ البعيد، فلا عَجَبَ ولا غَـرَرَ فِي اعتماده الشعر بلسماً لمعالجةِ مَا اِكْتَوَى قَلبهُ حُزْناً وَهو يشاهدُ وطنه محبطًاً يدبُّ عَلَى عَصاه كما في قوله :
( وطـنـي لـيـس هـنـدوســيَّـاً …
وهـو لـم يـمُـتْ بـعـد …
فـلـمـاذا يُـريـدون إحـراقَـهُ حـيّـا؟ )
يومَ كان شعبُ العراق يئنُ تحتَ سياطِ الإقطاع وَأذناب المستعمرين، ويرضخ تحت مثلث الجوع وَالفقر وَالمرض الَّذِي جثم عَلَى صدرِ الوطن الكبير وَخيَّم عَلَى جميعِ مجالاته الحَضارية، أدهشني وأثار إعجابي أَنَّ أبوَيْ السماويِّ يحيى كانا يعيشان حينئذ تحت ظلال توأم الإرادة والفقر؛ حيث أنَّ ضعفَ دخل والده قبالة مَا يتطلب مِنْ نفقاتٍ لإعالةِ أسرته، لَمْ يكن ذَّا زَخْمٍ كبير مِنْ شأنه التأثير عَلَى سلامةِ مسار تعليم ابنهما؛ إذ لَمْ يُعِيرَا أيَّ إهتمامٍ لِمَا وَاجههما مِنْ صّعوباتٍ بفعلِ ركونِهما إلى الصّبرِ المعجون بسعةِ الحُلُم عَلَى مشوارِ الحياة، وَالَّذِي ساهم فِي تخطّيِهما مَا تباين مِنَ المشاق :
( كـان أبـي مُـزارعـاً يـعـمـلُ فـي زراعـةِ الـحـنـطـةِ والـرزِّ …
وأمـي تـنـسـجُ الـشَّـرنـقـةْ
ثـوبـاً جـمـيـلاً مـثـلـمـا الـزّنـبـقـةْ
لـذا نـقـشـتُ مـنـجـلاً يُـعـانـقُ الـمـطـرقـةْ )
لعلَّ خيرَ مصداقٍ عَلَى مَا تقدم هو أَنَّ أبَا يحيى، لَمْ تفضِ به متاعبُ مهنةِ البقالةِ اليومية إلى العزوفِ عَنِ المطالعة؛ إذ كان مثقفاً وَقارئاً جيداً، يحفظُ عَنْ ظهرِ قلب الكثيرَ مِنَ الشعر، فضلاً عَنْ شَغفِه برواياتِ جرجي زيدان التاريخية، وَالَّذِي لا يعلو عَلَيه غير شغفه بكتابِ نهجِ البلاغة، إضافةً إلى أَنَّ حرصَهُ الشديد عَلَى المطالعةِ الدائمة، أفضى مِنْ دُونِ أدنى شك إلى تنميةِ قدرته عَلَى الفهمِ السريع، وَالَّذِي أثارَ فِيه رغبة المواظبة علَى قصِ حكاياتٍ شائقةٍ فِي كُلِّ عشيةٍ علَى عائلته. يُضافُ إلى ذلك إحتفاظه بكتبٍ عدة فِي حجرتِه، وَالَّتِي يتذكر منها يحيى فِي أيَامِ طفولته كتاب القرآن الكريم وَتفسير القرآن وَكتاب نهج البلاغة وَقصص ألف ليلة وَليلة وَبعض روايات جرجي زيدان وَرواية البؤساء، فضلاً عَنْ دواوينِ المتنبي وَعنترةَ بنَ شداد وَالشريفِ الرضي.
مِنْ المؤكّـدِ أنَّ اهتمامَ والده – طيب الله ثراه – بالمطالعةِ، فضلاً عَنْ حرصِه عَلَى اقتناءِ مَا مُتاح مِنَ الرواياتِ ودواوين الشعر وَغيرها مِنَ الإصداراتِ فِي ظروفِ معيشةٍ لَمْ يكنْ مِنْ الميسورِ لربِ الأسرةِ أَنْ يزاوج مَا بَيْنَ متطلبات الحياة – فِي ظلِ تسلط الجوع وَالحرمان عَلَى الأهالي – وَبَيْنَ ممارسة الهوايات الشخصية، كان ذا آثارٍ إيجابية فِي مسيرتِه الأدبية الَّتِي دلف فضاءاتها – فِي سنٍ مبكرة – مِنْ بوابةِ الشعر وَجنونه، وَالَّذِي أفضى إلى عشقِه نظم القصيد، وَارتهانه بِمَا يثمل الروح وَيُفجّر ينابيع الجمال – أشبه ما يكون بِمَنْ يستحيل عَلَيه الاستغناء عَنْ رغيفِ خبزه اليومي – بوصفِه أي الشّعر مرآة للفكرِ وَالحياة، وهو الأمر الَّذِي يجعل السير فِي دروبِ الشّعر سبيلاً للشعورِ بالحياة وَالتعاطي الإنساني الخلاّق مَعَ قضايا الإنسان.
في اعتقاله الأول
أخذوا له صورتين أمامية وجانبية
ثمّ اطلقوا سراحه
فخرج يتلفّت
في اعتقاله الثاني
صادروا أسنانه
ثمّ أطلقوا سراحه
فخرج ويده مُطبقة على فمه
في اعتقاله الثالث
صادروا قدميه
ثمّ أطلقوا سراحه
فخرج يتوكّأ على عكّاز
في اعتقاله الأخير
صادروا روحه
ثمّ أطلقوا سراحه
فخرج محمولا في تابوت
عَلَى الرغمِ مِنْ طغيانِ شيخوخة الزمن عَلَى أيامِ السَمَاويّ الخوالي، وَلاسيَّما مرحلة الدراسة الإبتدائية المفعمة بعفويةِ أحداثها وَبراءة شغب شخوصها الَّتِي عطرت بأريجِها مَا اندرس مِنْ الأزمنة، فضلاً عَمَا تهالك مِنْ الأمكنة، إلا إنَّ طُفُولةَ الروح مَا يزالُ عبقها وَعطر ذكرياتها المتمثل ببساطةِ الحياة وَطيبة الأهالي يفوحُ – حتى اللحظة – مِنْ جنباتِ أطلال مدرسته الأولى – المأمون الإبتدائية – وَمَا حولَها مِنْ مساحات، وَالَّتِي تحولت عَلَى مَرِّ الأيام إلى ورشٍ وَمخازنَ وَدكاكين وَمحلات تجارية وَخدمية وَأسواق، وَرُبَّما مطامر عشوائية للنُفَاياتِ فِي عراق الْيَوْمِ الَّذِي تراجعت فِيه جذوة الخدمات البَلَديَّة والاجْتِماعِيَّة؛ جراء الجهل بموجبات بلوغ الحَضارة، إلى جانبِ إصابةِ الجهاز الإداري بتكلسٍ عقلي، أفضى إلى تخلفِ إدراكه لقيمةِ البنايات التاريخية والتراثية، يَبْدُو واضحاً أنَّ السَمَاويّ مَا أَنْ وطأُت قدماه عَتَبةَ مَدْرَسته، حتى أصبحَ ذا أهمية فِي البيت؛ إذ وجد نفسه ذات مساء أمام وَالده العائد مِنْ حانوتِ بقالته وَهو يتأبط حقيبة مَدْرَسيَّة جديدة، كانت عَلَى بساطتِها وَتواضع ثمنها كافية لإدخالِ الفرحة وَالسرور إلى نفسِ وَليِّ عهده، وَالَّذِي مَا يَزال قلبه – فِي غربته – يخفق وَهو يحتضن أطراف تلك الحكاية الَّتِي تملأ صدره بحرقةِ الحنين وَسرعان مَا تنسج مآقيه غيومها. وَالمتوجبُ إدراكه هُنَا أنَّ سعيَ الآباء المربين لِغَرسِ حب القراءة – وَمجموعة قيم الفضيلة الَّتِي بوسعِها المُسَاهَمَة فِي تنمية قدراته وتعزيز معارفه – فِي القلوبِ الرقيقة للأبناءِ خلال مرحلة الطُفُولة، يبقى أثره ثابتاً كالوَشْمِ لا يُمْحى فِي بقيةِ مراحل العمر، بالإضافةِ إلى تأثيرِها بشكلٍ كبير فِي تحديدِ ملامح الإنْسَان وَطباعه وَأخلاقه، فالطُفُولة بحسبِ المُتَخَصِّصين تُعَدّ بوصفِها وجه الشعب المشرق بالأملِ وَروحه المتوثبة اليقظة؛ لأَنَّها المرحلةَ الَّتِي تستند عَلَيها جميع مراحل عمر الإنْسَان. وَلارَيْبَ أَنَّ تلكَ الحقيقة الصادمة تفرض عَلَى الباحثين والمُؤَسَّسات الثقافيَّة وَالتَرْبَوِيَّة وَمُنَظَّمَات المُجْتَمَع المَدَنيّ وَغيرها مِن المفاصل الإدارية الشروع بدقِ جرس الإنذار فِي بلادِنا؛ لأجلِ مواجهةِ مُشْكِلة الطُفُولة المهمّشة المتأتية مِن ضعفِ الوعي بأهميةِ التَّرْبِيَة السليمة للطُفُولة عَلَى الصعد كافة، وَالَّتِي تُشكلُ خطرا عَلَى الاستقرارِ الاجْتِمَاعِيّ.
جـئـتُ عـريـانـاً الـى الـدنـيـا
وحـيـداً
بـدمِ الـطَّـلْـقِ مُـعَـفَّـرْ
ألـبـسـونـي بُـردةً بـيـضـاءَ لا أكـثـرَ مـن مـتـرِ قـمـاشٍ
وغـداً أمـضـي كـمـا جـئـتُ وحـيـداً
أرتـدي بـضـعـةَ أمـتـارِ قـمـاشٍ لـيـس أكـثـرْ
فـكـأنـي عـشـتُ كـلَّ الـعـمـرِ
كـي أربـحَ مـتـريـنِ قـمـاشـاً قَـدْرَ مِـئْـزَرْ
فـلـمـاذا كـلـمـا أذكـرُ ” نـذلاً ” بـاعَ بـسـتـانـيَ غـدراً
أتـحـسَّــرْ ؟
ولـمـاذا أتـذمَّـرْ
مـن خـريـفٍ
بـعـدمـا كـنـتُ ربـيـعـاً
ضـاحـكَ الأعـشـابِ أخـضـرْ ؟
أنـا لـمْ أعـثـرْ
ولـكـنَّ طـريـقـي بـيْ تَـعَـثَّـرْ
فـأنـا مَـنْ أبـدلَ الأشـواكَ بـالـوردِ
وأحـجـاراً بـجـوهَـرْ
وأنـا مَـنْ أغـمَـضَ الأسـمـاعَ عـن مِــئـذنـةِ الـحـيِّ
ولـكـنْ
عـنـدمـا عـانـقَ ” بـنـتَ الـحَـيِّ ” كــبَّــرْ
هـرَبَـتْ مـن عـطـرِهـا الـوردةُ
والـمـاءُ عـلـى الـجُـرفِ تـحَـجَّـرْ
والـنـدى فـوق مـرايـايَ
تـخَـثَّـرْ
هـا أنـا أبـحـثُ فـي الـيـقـظـةِ عـنـي الانَ
فـي صـدريَ أزهـارٌ
وفـي ظـهــريَ خـنـجـرْ
فـأغِـثـنـي يـاحـبـيـبـي
لـيـس لـيْ غـيـرُكَ مَـنْ يــســتـرُ عُـرْيَ الـروحِ
لـو جـئـتـكَ بـالإثـمِ مُـعـفَّـرْ