24 نوفمبر، 2024 10:44 م
Search
Close this search box.

دراسة ذرائعية لنص ( أفعى وحمامة ) للكاتبة السورية فيحاء نابلسي

دراسة ذرائعية لنص ( أفعى وحمامة ) للكاتبة السورية فيحاء نابلسي

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

فلسفة الغرائز وجدلية الديمومة في نص الأديبة السورية فيحاء نابلسي/ أفعى وحمامة / دراسة نقدية حسب آلية السقل وإعادة البناء الذرائعي للنص السردي للناقدة الذرائعية السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

أولاً- المقدمة :

تتميز نصوص الروائية الأديبة السورية فيحاء نابلسي بأنها نصوص واقعية موقفية، فهي بارعة في اقتناص الموقف والمشهد من الواقع، وأبرز ما تقوم به في تلك النصوص هو ( التدوير ) أي أن القص عندها يبدأ ويسير دائرياً لينتهي في نقطة البداية، جارّاً معه كل المتغيرات التي رافقته في مسيره الدائري، لينتهي متخماً بنهاية مباغتة تجعل من البداية محطة فارغة تنتظر الامتلاء.

بارعة جدّاً هي في هذا الاتجاه، ولا تغفل عن صبغ قصّها بالصور البلاغية والبيانية التي تجيد اللعب بألفاظها ورسمها، كما أن نصوصها يتجاوز الانزياح الرمزي فيها نسبة مئوية عالية، تضعها في مصاف النصوص الرمزية بامتياز..

ثانيًا-التجنيس الدقيق:

النص قص قصير رمزي بأحداث واقعية وبمسحة فلسفية مثيرة للجدل، ينضوي تحت نظرية الفن للمجتمع.

ثالثًا- البناء الفني:

وهو المدلول الأول للنص, فدلالة النص بناؤه الفني الذي يتمفصل باتجاه مدلولات ذرائعية عديدة تتعاون فيما بينها لتكوين هيكلية هذا البناء بمفاهيم مختلفة, تتحد فيما بينها لتعطينا بناءً متماسكاً كما سيوضح في المدلولات المفصلية الذرائعية التالية:

أ-العنوان:

أفعى وحمامة :

اسما جنس لنوعين من الحيوانات، الأول أفعى : اسم جنس من الزواحف السامة . الثاني : حمامة اسم جنس من الطيور .

المعنى الرمزي :الأفعى في المعتقد القديم تعني أنها باقية ولا تموت أبدًا وأن حياتها تتجدد مع تجدد جلدها كل عام, وكان هنالك ربط بين معتقد الأفعى ومعتقد القمر الذي يجدد حياته أبديًا في دورة شهرية دائمة…

الحمامة :رمز السلام هو تمثيل أو كيان يرمز للسلام. أخذت هذه الفكرة من حضارة ما بين النهرين الحمامة، أو حمامة تحمل غصن الزيتون في منقارها، هي رموز قديمة للسلام.

ولعلنا نفهم من العنوان أن هناك صراعاً من أجل البقاء تفرضه الفطرة التي فطر الله عليها مخلوقاته.

ب-المقدمة أو الاستهلال :

هي عبارة عن مفهوم زمكاني, يقدم الكاتب تعريفاً بسيطاً بمكان و زمان القص, كما قدّم تعريفاً بشخصيات الرواية, بعض ملامحهم وصفاتهم, بطريقة فنية تثير الاهتمام, يستحضر المكان بكل مؤثراته بطريقة تدريجية, الكاتب البارع هو الذي يحشد في المقدمة كل عناصر التشويق التي تشد القارئ ليتابع القراءة إلى النهاية, يقدم شخصياته بالتدريج ويعرّف ببعض صفاتهم وملامحهم :

“يدرك تمامًا أنه ليس وحده, لا بد أن كثيرين يشاركونه المكان, تلك الحمامة الراقدة على بيضها في مدخل المغارة, يراها ويسمع هديلها الخافت, وهناك آخرون, لا يراهم عيانًا, يشعر بوجودهم, ربما يرونه من حيث لا يراهم فليس كل من يراك تراه.”

ج- الزمكانية:

الزمان: فترة حرب معاصرة حالية يشهدها بلد الكاتبة..

“قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية, عاد حاملًا جراحًا نازفة وساقًا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته”.

المكان : مغارة (مقديس) اختبأ فيه البطل هارباً من السوق للخدمة العسكرية.

“نعم إنها مغارة “مقديس” الموغلة في جوف الجبل, لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك”

د- التشابك السردي:

هو أوسع المفاهيم لمدلولات البناء الفني.

تنظر النظرية البراغماتية للتشابك السردي بخريطة منتظمة الأبعاد والحدود, بثلاثة محاور أساسية تنطلق من قاعدة النص أو العمل السردي ( العنوان)كقاعدة سفلى ومنها يتجه المحور الأوسط ( محور التوليد وهو هنا اللجوء إلى المغارة) عمودياً على القاعدتين ( المقدمة والنهاية ) ماراً بالعقدة, وهو المحور الذي يرسم مسار الأحداث من المقدمة فالزمكانية حتى العقدة, ومنها ينقلب الأداء فيه نحو الانحسار, ويسمى جزؤه العلوي ب (المحور الانحساري) حتى يدرك النهاية لمجريات الحل.

يساعد هذا المحور, المحور الثاني ( محور التكوين _ الحمامة والعش والبيوض) المنطلق من الزاوية اليسرى لقاعدة النص, ويحمل فوق تياره جميع الشخصيات المتولدة والمساندة للبطل (الشخصية الرئيسية الشاب), ومشاركة كل شخصية من تلك الشخصيات للبطل هو ظهور مشهد جديد أو حادثة جديدة أو قصة جديدة, حتى يتقاطع هذا المحور مع المحور التوليدي في العقدة, ليبدأ بانحسار تلك الأحداث متجهاً إلى أقصى الجهة اليمنى من النهاية .

وينطلق المحور الثالث ( محور المعارض الأفعى ) من الجهة اليمنى لقاعدة النص متجهاً نحو الأعلى ليتقاطع مع المحورين السابقين في العقدة, ويكمل بانحسار جميع الشخصيات المعارضة التي شاركت في الصراع الدرامي في المثلث الأول.وبذلك يُرسَل مثلثان ملتقيان بالرأس في نقطة الوسط (العقدة تساؤل عن ذنب الأفعى) ليشكل لدينا تشابكاً سردياً منتظماً وحلاً راقياً.وتطابق المثلثان يعطي عملاً درامياً متوازناً.

إن الصراع الدرامي هو عبارة عن صراع بين الخير والشر بالمجمل, تقوم به الشخصيات التي يتوالد بتواجدها وحضورها تباعًا أحداث جديدة تلتقي خيوطها بنقطة واحدة, ينقلب بعدها الصراع إيجابيًا نحو الانفراج والنهاية ….

مهارة الكاتب هي في بناء الحدث الدرامي, اختيار طريقة البناء بعيدًا عن الإخبار المباشر أو ما يسمى بالطريقة التقليدية التي تمتاز بالتطور السببي المنطقي المتدرج بالحدث من المقدمة حتى العقدة ثم النهاية.

إن الكاتبة فيحاء نابلسي تمتاز بأنها تكتب قصصها بحبكتين وعقدتين, مخبوءة رمزية, وظاهرة واقعية. إن تحدثنا عن التشابك السردي الظاهر سنجد أنها استخدمت الطريقة التقليدية, شاب لجأ إلى مغارة هاربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية في بلد فيه حرب شبه أهلية يجد على باب المغارة أفعى تحاول أن تهاجم بيوضًا في عش لحمامة تقف خائفة على فراخها, يبادر الشاب إلى قتل الأفعى الجائعة, يجد الحمامة تحاول أن تنقر الأفعى الميتة, يصل لنتيجة مفادها ( إما أن تأكل أو تؤكل), يقرصه الجوع فيقتل الحمامة بنفس السكين, يأكل من لحمها ويطعم فراخها….هذا ما كان من أمر سرد الأحداث …

أما عندما نتحدث عن التشابك السردي الداخلي الذي ثار في داخل النفس البشرية, وهو في الحقيقة التشابك الحقيقي فإننا أمام الطريقة الحديثة في السرد التي تبدأ من لحظة التأزم ( اللجوء إلى المغارة هربًا من موت محتم ) يخبر الكاتب أحداثه السابقة بالعودة إلى الماضي Flashback لنجد الكاتبة تستعين بأساليب وتقنيات تمثلت بتدفق سيل الوعي Stream of consciousness والذكريات Memories.

أما ما يختص بسردية الحدث فقد استخدمت الكاتبة طريقة السرد المباشر, قدمت فيها الأحداث بصيغة الضمير الغائب ( هو), هي طريقة فيها مجال كبير من الحرية للكاتب ليقوم بتحليل شخصياته من ناحية السلوك والأفعال المشاهدة, ومن ناحية الشعور والانفعالات الداخلية الخفية, وهي طريقة تبعد عن ذهن القارئ أن الكاتب يكتب تجربة ذاتية, وإنما هي من صميم الإنشاء الفني….

عناصر التشابك السردي:

· الموضوع:

وهو الفكرة التي تتحرك الحوادث والشخصيات لخدمتها, فإن لم يتحقق ذلك, صار الموضوع دخيلاً على الحدث, وكانت القصة أو الرواية مختلّة ومختلفة في البناء…

(إما أن تَأكُل أو تُؤكل)، (إما أن تَقتُل أو تُقتَل)، جدلية (الديمومة والاستمرارية والصراع من أجل البقاء) موضوعة أمام ظروف متغيرة، وبأحكام غير ثابتة، في نفس المكان والزمان، وكيف للكاتبة أن تعالج هذه الجدلية وتقنعنا أو لا تقنعنا؟ بل تبقي الموضوع مفتوحًا لنا كمتلقين, نضع عليه أحكامنا التي لن تكون واحدة بحال من الأحوال، لاختلاف مشاربنا واعتقاداتنا بالمجمل…

· الحبكة الاخبارية:

شاب لجأ هاربًا إلى مغارة رطبة( محور التوليد) تظهر فيها الصواعد والنوازل في جوف الجبل، معروف أنها ملاذ آمن للفرارية وقطاع الطرق، هجرها هؤلاء بعد أن أصبح الوطن برمّته مغارة كبيرة حَوَت كل المرتزقة من كل الأصقاع ( الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليها كل من هبّ ودبّ, الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات, عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدًا) رمزية عالية جدّاً، هذه المغارة أصبحت تلائمه وتلائم أمثاله ممن رفضوا أن يكونوا حطباً في محرقة تحرق الأخضر واليابس دونما وجه حق… وأمام جدلية إما أن (تَقتُل أخاك أو يَقتُلك أخوك) اختار الشاب الهروب…. فإلى متى ؟ هذا السؤال هو المحور الأساسي الذي دار حوله النص، متى نكون مجبرين على تجاوز وتخطي معتقداتنا؟ والطعن فيها؟

“يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام. لكنه لا يريد أن يَقتل, لا يريد أن يزهق أرواحًا لا يعرفها ولا تعرفه, ليس خائفًا من الموت, يعرف أن لكل أجل كتاب, ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء.”

إن الحرب في داخل الوطن لم تكن بأي حال من الأحوال شريفة, هي في أحسن الأحوال سوقًا ينشط فيها تجار الموت وأعوانه من الواشين و الخونة, عملاء مأجورين لمن يدفع :

“العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار”

على باب المغارة انتصبت ساحة معركة لم يجد أمامها بد من القتال الذي فرّ منه كعقيدة، أفعى( محور المعارضة) تهاجم عشاً فيه بيوض الحمامة( محور تكوين) تحاول أن تذود عن حماها و عشها، وأمام شعوره بضرورة نصرة وإغاثة الحمامة الضعيفة و عشها، يتناول موسه الكباس من جيبه يتهيأ لفعل آخر بعد أن نجح آنفًا بإبعادها برميها بجحر، ولكن جوعها جعلها تحاول الاقتراب مرة أخرى لتسكته، فطرة الله التي فطر عليها الحيوانات، الافتراس من أجل الاستمرار بالحياة، فلا معاوضة ولا طعام بديل مما تنبت الأرض، مضى أكثر في تفكيره, دار في داخله صراع آخر, بأن نجدته تلك قد تعوق سير حياة أفعى…

“من شق في إحدى الصخور يلمح ظلًا أسود يزحف على مهل, تجلّت أمامه أفعى, ها هي تمدّ رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب, شغله المشهد عن هواجسه, ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه, لا مناص من القتال !!

تأهب مستشرفًا الحدث, البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت, لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر, تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس, تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه, هل يرشقها بضربة عاجلة, حدّث نفسه وهو يتأمّل الأفعى تزحف على مهل.”

· العقدة :

ما ذنب الأفعى إن كانت لا تبتغي سوى أن تعيش؟ لا تبتغي شرّاً محضاً وإنما تكافح من أجل البقاء، أليست فطرة الله فيها أن تحافظ على أمانته فيها ( النفس) وقد جعل الله سبيل بقائها وديمومتها في القنص والافتراس ؟ هي فقط تتناول لقمتها، وما ذنبها إن كان القدر قد جعل لقمتها تلك الحمامة وبيوضها؟ تفكير خطير جدّاً لو أسقطناه على جنس البشر لتحوّل إلى غابة يفترس قويّها الضعيف بحكم شريعة الغاب التي لا تحاسب مفترساً ولا ترحم فريسة، وقد تهرب الحمامة تاركة بيوضها، ترى هل تتغلب عاطفة الأمومة على غريزة البقاء؟

“لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!”

· الانفراج:

بحكم الطبع الآدمي، يصدر العقل أوامره لجوارحه، فتعمل بردة فعل مباغتة، تعالج يدَهُ مقبض الموس وتفتحه، وتطلقه باتجاه الأفعى مستقرًا في عنقها, تثبتها في مكانها قبل أن تصل إلى العش، والحمامة تعلو وتهبط أمام العش مضطربة تحاول بقوة الأمومة أن تدافع عن فراخها، إذًن ماتت الأفعى وبقيت الحمامة مضطربة لم تتأكد من موتها بالبداية، وبقيت بعيدة إلى أن همدت الأفعى عندها اقتربت الحمامة من عشها, و تأكد البطل أن غريزة البقاء هي الأقوى:

“اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس, قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة, هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق, مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها, لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة, لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها, يبدو أن غريزة البقاء أقوى”

وخطر بباله أن يسجل هذه الملحمة على جدران الكهف كما فعل الأجداد أهل الكهوف أمام العصور الحجرية الذين كانت انتصاراتهم تشبه انتصاره هذا، ثم استدرك، لم يسجل هكذا انتصارات سخيفة ومخيفة، لمَ يخبر الأجيال القادمة عن الأشياء المريعة التي حصلت وما زالت تحصل في هذا العصر المخيف، الرؤوس التي تقطع بعيداً عن الأجساد، والأطراف التي تطير فرادى؟ لم لا يخبرهم أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش؟ وذهب خياله بعيدًا إلى الحقول والسنابل الخضراء والصفراء ، إلى الطبيعة الأمّ وجمالها وجمال الحياة الدافئة الآمنة التي توافدت صورها إلى ذاكرته:

“هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدًا عن أجسادها, صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .

ولم عساه يخبر أولئك القادمون عما جرى في هذا الزمن الغريب, لعلّه يترك لهم شيئًا أبهى, شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على إنسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش”…….

أخرجه من ذلك مرأى الحمامة وهي تنقر الأفعى بعد أن تأكدت من موتها, تبتغي بعض اللحم منها, لتسد جوعها وجوع فراخها التي خرجت من البيوض التي فَقَسَت لتوّها” وهذا تغيّر في اتجاه تفاؤلي وإيجابي أراح البطل كثيراً: وأوصله إلى نتيجة, أخاف أن أقول أنها حقيقة إلا في عالم الحيوان : (إما أن تأكل أو تؤكل)

“يمّم وجهه شطر الحمامة, إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها, لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها, صوت زقزقة خافتة في العش, ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة, الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, “إما أن تأكلَ أو تؤكل”.

· النهاية:

أطلقها البطل مجلجلة، ضحكةُ ترافقت مع يد وضعها على معدته الخائرة، ويد أخرى تفتح الموس، تَقَلُّب الجمرات وتغمد النصل في اللحم الطري ( لحم الحمامة) ، وتنقله إلى فم ما استساغ لحم الحمام يوماً، لكن الفكر يقول: ( طعام سيء خير من جوع قاتل )، مزقة لحم أخرى وضعها في أفواه الفراخ الجائعة التي أكلت دون أن تدري أنه لحم أمّها التي كانت تستميت للدفاع عنها منذ قليل..

وعلى جدرار الكهف كتب بعود يحمل عناب الفحم ( قصة حياة):

“اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها للطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد, ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودًا غمسه بهباب الجمر المتفحم, رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة, سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود

” قصة الحياة ” .

تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض”.

نهاية فلسفية على درجة رفيعة جدّاً من الرقي والفكر النيّر والقناعات السوية، فيها جواب لسؤال المركزي في النص متى نكون مجبرين على تخطي اعتقاداتنا؟ عندما يتعرض بقاؤنا (حياتنا ) لخطر الفقد.

تحليل الشخصيات ضمن الحبكة والتشابك السردي والزمكانية المزدوجة:

الشخصية القصصية هي أحد الأفراد الخياليين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القص أو الروي, ولا يجوز الفصل بينها وبين الحدث, لأن الشخصية هي التي تقوم بالحدث, وقد أجرت الكاتبة أحداث قصتها على أفراد واقعين باختلاف الأجناس, إنسان وحيوان ( طير وزاحف), التفاعل بينهم ليس بالحوار كعملية تواصل معروفة, وإنما بأفعال وردود أفعال:

الشخصية الرئيسية :

الشاب الإنسان:

شاب محكوم بالصراعات النفسية, والتساؤلات الفلسفية, والإسقاطات المباشرة التي تناوشت عقله ومشاعره, وهي التي دفعت بالأحداث نحو التطور والتصاعد ما أوصلها إلى العقدة, رد فعل الحمامة كانت محفزًا وجوابًا عن سؤال هام طرحه ( أيهما أقوى غريزة الأمومة أم غريزة البقاء) وعندما وجد عندها غريزة البقاء هي الأقوى, وجد أنه أولى بهذه الغريزة منها وهو الذي لم يجرب غريزة الأمومة والتي من المفترض أن تكون هي الأقوى! لكنها حيوان .. والحيوان محكوم بغرائزه, أما الإنسان فعقله هو القائد, وإن فقد القيادة وانساق لغرائزه فلا اختلاف بينه وبين الحيوان …

الشاب بالواقع الذي يعيشه هو إنسان مسالم لا يريد أن يقتل أحدًا من بني جنسه ولا يريد أن يُقتَل, لذلك آثر الهرب في وطن صار سجنًا كبيرًا في أحسن أحواله, و غابة شريعتها القتل والفتك والبقاء للأقوى في أسوء الأحوال…

بالسجايا النفسية هو شاب يحب الحياة ويبتهج بجمالها ونعمها, ولكن الحياة ليست جميلة بالمطلق, وليست بريئة بالمطلق… أكبر توصيف لها أنها ( قصة حياة).

الأفعى، الحمامة: شخصيات ذات دلالات رمزية تتعلق بالديمومة والبقاء.

الأفعى: تهاجم لتأكل, بغريزة البقاء .

الحمامة: تهرب لتنجو بنفسها بغريزة البقاء.

§ استراتيجية السقل وإعادة البناء

ونخص بالتفصيل استراتيجية السقل وإعادة البناء، فهي مستثناة من التشابك السردي لكونها نختص بعناصر الجمال المكملة لعملية التشابك السردي، فتشير استراتيجية السقالة وإعادة البناء كبند تعليمي إلى مجموعة متنوعة من التقنيات التوجيهية المستخدمة لتزيين وتجميل جدران العمل الأدبي لجعله متفوقاً جمالياً, فالرؤية الذرائعية المنبثقة منها تلك الاستراتيجيات تنظر للعمل الأدبي السردي كأنه منزلٌ، أرست دعائمه الأولية واكتملت هيكليته, ويحتاج العوامل الجمالية السقل والصباغة والأثاث و التي ستسبغها عليه تلك الاستراتيجية لتجعله مناسباً للسكن, والعوامل الجمالية تتلخص ب:

1- الأسلوب وهو النسيج السردي الذي يشير نحو درجة الأدب وعمقه

السردي وذلك بدرجة انزياحه نحو الخيال والرمز..

2- السرد وهو الطريقة التي تتوالى الأحداث فيها في النص حتى

تصل المتلقي باهتمام وهذا مؤشر مهم في جمالية النص يعكس حرفنة ومهارة وإبداع النصاص….

3-الحوار وهو ما يزيد من أهمية الشخصيات ويبرز خلجاتهم الإنسانية و

النفسية والاجتماعية والشخصية…

4 -الصور اللغوية وهي تساهم بجمالية النص في الوصف وتأخذ الأديب

نحو السلوك الفني لتجعله بمقارنة مع الموسيقي والرسام….

5-البلاغة وهي عناصر التصوير السردي من طباق وجناس وتورية وتشابه واختلاف وتشخيص….

6- الجمال : علم يقتضي حضوره في النص ليعكس الجمال الفني فيه

رابعًا– البناء الجمالي:

· الأسلوب Style:

فالأسلوب هو : طريقة الكاتب في التعبير, واستخدام المفردات والجمل الأدبية, والبراعة في صياغتها و تطعيمها بشذرات الجمال الأدبي والبلاغي لتكون جاذبة للمتلقي, تزيده شغفاً وتعلقاً بالرواية حتى النهاية, وهو يحتوي أيضا ً على العمق السردي والخيال ودرجة الانزياح.

أسلوب الكاتبة كان واقعيًا بانزياح رمزي بنسبة مئوية عالية، تميّز بطرح فلسفي ونفسي على درجة عالية من الأهمية، الكاتبة اعتمدت التنصيص وهي سمة مميزة لها نجدها في معظم نصوصها ويمكن اعتباره تكنيك يميزها, عنصر التشويق كان حاضرًا منذ البداية وحتى النهاية الباغتة:

(لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك, الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ)

استخدم الأسلوب المباشر في سرد الحدث الفعلي:

(البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار, لم يجد وقتًا لحمل زاد كافٍ, وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته.)

استخدمت الكاتبة الأسلوب العميق عندما تحدثت عن فلسفة البقاء والديمومة:

(لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ! )

وكذلك استخدمت أسلوب السهل الممتنع :

“. لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته. ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا ؟ الجميع يعرفونه, يعرفون أباه وجده وجد جده, يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه, والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة, لمَ يريد هوية في قريته, يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالًا ويعبّ حتى الارتواء .

· السردNarration :

السرد لغويًا: توالي أشياء كثيرة يتصل بعضها ببعض,

السرد اصطلاحًا: التتابع وإجادة السياق.

السرد أدبيًا: ما يشتمل على قص حدث أو أحداث أو خبر أو إخبار, سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال.

إخبار جرى على لسان الكاتبة ( راوي عليم) حوى جميع الأدوات الجمالية ، وبعض العلوم مثل علم البيان والبديع والمعاني وعلم الجمال .

· الحوار Dialogue :

كله مونولوج داخلي للبطل بصيغة الغائب. وهناك حوار بسيط على لسان صديقه.

وقد جاء مركزًا وموجزًا ومعبرًا عن الأفكار الحيوية للشخصية,عرفنا من خلاله أن الشخصية تتمتع بأرضية فلسفية ومحاكاة عقلية عالية, المونولوج كان قاصمًا لرتابة السرد الطويل.

· الصور الجمالية:

حفل النص بالعديد من الصور الجمالية المرسومة بريشة رسّام محترف، ألوانه عديدة، علم بيان، وبديع وجناس وطباق وتورية وأسابيع واختلافات، نعدد بعضها دون حصر:

-سقفها الذي يتدلى منه عشرات الأثداء = استعارة

-يقطر منها الماء نقاطًا تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتًا بإيقاع مخيف.

-يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام

-قذيفة قدمت للطيور وليمة دسمة = كناية

-أصبح الوطن كله مغارة كبيرة= تورية

-يلفظ دواخله كما يزفر الهواء = تشبيه

-اشتعل رأسه رهباً

-هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق= كناية

-وسيول حمراء تلوّن الطرقات.

-ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .

-وتسيل البركات سيولًا وأنهار.

-سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟

-برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟

-ربما لا تتسع الجدران أيضًا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .

-يمّم وجهه شطر الحمامة ( اقتباس)

تأكل ، تؤكل : جناس

موت # حياة طباق

خامسًا- التكنيك واستراتيجيات الكاتب:

تمركز النص حول محور الصراع من أجل البقاء والاستمرارية والديمومة، وأن الموت هو حكم الله على كل المخلوقات، فلا بقاء يستمر، وهو نهاية حتمية حتى لمن نجا من صراع, كما أن فكرة الكاتبة عن الحرب أنها لا انتصارات فيها أبدًا, المنتصر فيها هو القتل ( إما أن تقتُل أو تُقتَل ) فالمحصلة موت … وخصوصًا إن كانت الحرب بين أبناء الوطن الواحد.

هذا ما يخص استراتيجية الكاتبة , أما ما يخص تكنيكها فهي كاتبة تكنيكها التدوير والتنصيص.

سادسًا-المتغيرات الرمزية في النص:

هذا الصراع يفتك به القوي بالضعيف في عالم الحيوان، وتقرّه شريعة الغاب من دون أن تجرّم المفترس ومن دون أن تتعاطف مع الضحية، هي فطرة الله فيهم من أجل البقاء.

الإنسان هو الغالب في صراعه مع باقي المخلوقات بحكم تميزه بالعقل و الدقة وذكاءالتدبير.

أما الحسم بصراع إنسان مع إنسان : يكون حتماً صراعاً بين خير وشر، ولا بد من ضحايا ودم يُراق، لإعادة الموازين إلى اتزانها في وطن اعتُدي فيه على كل شيء، وخلت فيه الأماكن من سكانها الأصليين، بل وتبدّلت الأدوار فيها فغدا الوطن مرتع

أحدث المقالات

أحدث المقالات