خاص : كتب – سعد عبد العزيز :
حتى لو كان التفسير الرسمي لاستقالة رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” لا يزال غامضاً، إلا أن القيادة السعودية باتت لا ترى أن بقاء “الحريري” في منصبه لم تعُد تجدي نفعاً، لأن الرجل لم ينجح في تقليص نفوذ إيران و”حزب الله” في لبنان، بل إن هذا النفوذ تعاظم كثيراً في عهده.
استقالة “الحريري” دليل على تنامي الدور الروسي..
تثير التطورات الأخيرة في المشهد اللبناني, بعد الاستقالة المفاجئة لـ”سعد الحريري”, اهتمام المسؤولين الإسرائيليين, حيث يقول المحلل “يفغاني كلاوب” إن تلك الاستقالة تشير، من بين ما تشير، إلى تنامي نفوذ “روسيا” في الشرق الأوسط، الأمر الذي يُزعج “المملكة العربية السعودية” وباقي الممالك السنية الأخرى. ومن بين فوضى الربيع العربي وتداعياته, تشهد المنطقة خلال السنوات الأخيرة قيام تحالف جديد يمكنه الصمود في وجه المشروع الغربي الذي يستهدف نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. ويتكون ذلك التحالف من “روسيا وتركيا وإيران والعراق”.
ويمثل دخول روسيا إلى الساحة الشرق أوسطية أحد الأحداث الجيوسياسية الفارقة، التي أفرزها الربيع العربي. ولقد لعب تنظيم “حزب الله” دوراً رئيساً في ذلك التحالف، حيث ساعد الدول الأعضاء – وخاصة روسيا وإيران – في تحقيق أهدافها السياسية في سوريا، ولكنه من ناحية أخرى يُشكل بؤرة الخلاف بين روسيا من جهة وكل من إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى.
“حزب الله” شريك استراتيجي لروسيا..
لقد قدم “حزب الله” المساعدة للروس لتحقيق أهدافهم داخل سوريا، وهناك تقارب ملحوظ في الفترة الأخيرة بين الجانبين. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا عملت من وراء الكواليس للدفاع عن “حزب الله” خلال المناقشات التي أجراها مجلس الأمن الدولي في أيلول/سبتمبر الماضي، بشأن تجديد مهمة قوة الـ”يونيفيل” التابعة للأمم المتحدة, المكلفة بحفظ السلام في جنوب لبنان.
وقالت عضوة الكنيست الإسرائيلي، “كسينيا سفيتلوفا”، (من المعسكر الصهيوني)، إن “قرار روسيا باستخدام الفيتو، عندما كان يتطلب الأمر استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لإدانة إرهاب حزب الله، يدل بشكل لا لبس فيه على الخلافات الشديدة بين تل أبيب وموسكو بشأن القضايا الأمنية”.
إن الروس بحاجة إلى “حزب الله” كشريك استراتيجي يساعد في بسط السيطرة على المناطق التي حررها جيش النظام السوري من قبضة تنظيم “داعش”. ويرى البعض أنه بسبب تضارب مصالح روسيا والمملكة العربية السعودية في لبنان، فإن روسيا ستعزز قوة “حزب الله” في لبنان مثلما قامت المملكة العربية السعودية بتعزيز قوة “جبهة النصرة” في سوريا.
إشكالية نظام الحكم في لبنان..
في 31 تشرين أول/أكتوبر 2016، انتخب البرلمان اللبناني الجنرال “ميشال عون” رئيساً للبلاد، وانتهت بذلك أزمة سياسية استمرت عامين ونصف العام، وكادت أن تؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة. وحصل “عون” – وهو مسيحي ماروني يبلغ من العمر 81 عاماً – على (83) من أصل (127) صوتاً، ليُصبح الرئيس الـ 13 للبنان.
ويختلف النظام الانتخابي في لبنان عن النظام المتبع سواء في إسرائيلي أو الدول العربية. فلبنان دولة ديمقراطية تنقسم فيها السلطات بين ممثلي الطوائف العرقية المختلفة. وينبغي هنا أن نشير إلى أن الانقسام بين التيارات والطوائف العرقية المختلفة هو ما أدى، قبل أربعة عقود، إلى نشوب حرب أهلية. ويرجع الفضل في إنهاء تلك الحرب إلى “اتفاق الطائف” (عام 1989)، لكنه أدى إلى تغيير بعض قواعد اللعبة السياسية التي وُضعت عام 1943، (حيث نص الاتفاق على تقليص بعض صلاحيات الرئيس). ومع ذلك، فقد ظلت المبادئ الأساسية لنظام الحكم في لبنان دون تغيير: ففي كل الاحوال، يأتي رئيس لبنان – وكذلك رئيس هيئة الأركان – من الطائفة المسيحية المارونية. وفي المقابل، فإن رئيس الوزراء ينبغي أن يكون مسلماً سنياً، فيما يكون رئيس البرلمان مسلماً شيعاً.
ويبلغ عدد مقاعد البرلمان اللبناني 128 مقعداً، ويجب أن يحصل المرشح الرئاسي على تأييد ثلثي النواب على الأقل حتى يُنتخب رئيساً, أي ما لا يقل عن (86) صوتاً. وهذه الطريقة في تشكيل مؤسسات الدولة تجعل النظام اللبناني يواجه مأزقاً في بعض الأحيان، وهو الآن يواجه بالفعل أزمة سياسية خطيرة.
وكان “سعد الحريري” – الذي يبغضه نظام “الأسد” و”حزب الله” – قد قام قبل قرابة عام، بإنقاذ النظام من مأزقه بعدما اقترح تعيين “ميشال عون” رئيساً للجمهورية، وهو شخصية تحظى بإجماع كل الأطراف. ولقد أعرب “الحريري” عن أمله في أن يكلفه “عون” بمهمة تشكيل الحكومة ويساعده في توزيع الحقائب الوزارية.
وباعتباره شخصاً مقرباً من العائلة المالكة السعودية، حصل “الحريري” على الضوء الأخضر من الرياض لاتخاذ تلك الخطوة. ثم بعد ذلك، في أيلول/سبتمبر 2016، توجه “الحريري” إلى موسكو وحصل منها على “الضوء الأخضر” لجلب “عون” إلى قصر الرئاسة. كما حاول “الحريري” في العاصمة الروسية بناء جسور جديدة وإبرام صفقات مهمة لدعم التعاون بين روسيا ولبنان.
روسيا: مزيد من النشاط في الشرق الأوسط..
إن روسيا, في حقيقة الأمر, أعربت عن مساندتها لتنظيم “حزب الله” في المناقشات التي أجرتها قبل عام مع “الحريري”, كما أكدت دعمها للرئيس “عون”، الذي يحظى بالقبول من ذلك التنظيم الشيعي. ومع ذلك ظل “الحريري” على علاقات جيدة مع موسكو، حيث طالب في أيلول/سبتمبر 2017، خلال زيارته إلى روسيا، بزيادة حجم التعاون المشترك بين روسيا ولبنان. كما التقى “الحريرى” بالرئيس الروسى “فلاديمير بوتين”، الذى أشار إلى أن الاجتماع كان مهماً، وأنه تناول سُبل دعم العلاقات الثنائية بين البلدين.
إن روسيا تريد لبنان بلداً مستقراً, ولذا فقد قامت، اعتباراً من أيلول/سبتمبر 2015 – في إطار حربها على الإرهاب – بقصفت قواعد التنظيمات الجهادية في لبنان. واستهدفت قاعدة “داعش” في بلدة “عرسال”، وكذلك في منطقة “بعلبك”.
علماً بأن “عرسال” قريبة من الحدود السورية، ومعظم سكانها من المسلمين السُنة, ويثير انتشار المتطرفين في لبنان قلق الروس، لأن القاعدة الروسية في سوريا المتواجدة في “طرطوس”، تقع على بعد 25 كيلومتر فقط من الحدود اللبنانية. وينطبق الأمر نفسه على مطار “حميميم”، الذي تقلع منه القاذفات الروسية لتنفيذ هجماتها.
إن مجرد انتخاب “ميشال عون” رئيساً للبنان جعل الروس يعتبرون أنفسهم قادرين على الوساطة بين كثير من الفرقاء في بلدان الشرق الأوسط. وهذه المكانة تحمل كثيراً من الأهمية بالنسبة لروسيا, التي تحاول باستمرار تقديم نفسها باعتبارها الكيان الأكثر فعالية في عملية الوساطة بين مختلف القوى في سوريا. كما أن روسيا هي الوحيدة القادرة على جمع الإيرانيين والسعوديين جنباً إلى جنب مع الأتراك على طاولة المفاوضات المشتركة في “الأستانا” عاصمة كازاخستان. كما عرضت روسيا أن تلعب دور الوسيط في الأزمة القطرية وفي الحرب الأهلية باليمن. لكن الاستقالة المفاجئة للحريري تثير الشكوك حول قدرة الروس في لعب هذا الدور.
مخاوف إسرائيلية..
إن استقالة “الحريري” تثير من جديد السؤال عما إذا كانت روسيا لها أي تأثير على “حزب الله” ؟.. وعما إذا كانت جميع الاتفاقات السابقة التي توصلت إليها إسرائيل مع الروس، بشأن احتواء “حزب الله”، لا تزال سارية المفعول ؟.. وعقب إعلان استقالة “الحريري” مباشرة، كانت هناك مزاعم بأن تلك الاستقالة كانت خطوة نحو شن حرب ضد إسرائيل. ورغم أن زعيم حزب الله “حسن نصرالله”، قال إن تلك المزاعم لا أساس لها من الصحة؛ إلا أن إسرائيل يجب أن تشعر القلق.
غير أن إسرائيل لا يمكنها أن تتدخل مباشرة. فعندما حاولت ذلك في عام 1982، انجرت إلى الوحل اللبناني. ولكن إسرائيل ستسعى لإقناع الدول الغربية بانتهاج سياسة حازمة في لبنان. وستوضح بأنه طالما كان رئيس الحكومة والجيش اللبناني يفضلان خدمة إيران، فسيكون لذلك تداعيات خطيرة قد تؤدي لنشوب “حرب لبنان الثالثة”، وحينئذ ستضطر إسرائيل، ليس لمقاتلة “حزب الله” وحده، بل لمقاتلة دولة لبنان التي تمنحه الرعاية.
استدعاء “محمود عباس” لزيارة الرياض..
يرى بعض المحللين أن استقالة “الحريري” ربما تكون قد أتت كرد فعل من المملكة العربية السعودية تجاه الروس، في إشارة إلى أن من سيأتي خلفاً له سيكون في نظر السعودية أكثر فعالية, من أجل مواجهة “حزب الله” في لبنان.
وليس من قبيل الصدفة، أنه بعد أيام قلائل من الاستقالة، توجه “محمود عباس” في زيارة خاطفة إلى المملكة العربية السعودية والتقى بالملك “سلمان”, حيث ناقش الزعيمان المساعي الدولية لدفع عملية السلام، ولكن من المُفترض أن الملك “سلمان” أراد التأكد من أن “عباس” سوف يدعم المبادرة السعودية لإضعاف “حزب الله”، لاسيما أن هناك قرابة 300 ألف فلسطيني يقيمون في لبنان.
إن السعوديين عازمون الرأي فيما يخص الشأن اللبناني, حيث أشارت الرياض بأصبع الاتهام نحو “حزب الله” وإيران، اللذين يعملان ضدها. ووفقاً للتقارير، فإن المملكة العربية السعودية اتهمت لبنان بإعلان الحرب عليها بسبب نشاط “حزب الله”، في إحداث مزيد من التصعيد في الأزمة التي تهدد الاستقرار في بيروت والمنطقة بأسرها.
البحث عن بديل لـ”الحريري”..
على أية حال، فإن السعودية تسعى الآن إلى إيجاد بديل للحريري كي يتعامل بقوة ضد “حزب الله”، ولكن ليس من الواضح بعد ما إذا كانت السعودية ستستأنف مساعداتها المالية للبنان. إن الإنجازات التي حققها الإيرانيون على الجبهات السورية واليمنية والعراقية، دفعت السعوديين لمراجعة سياساتهم في لبنان، وتوصلوا إلى قرار لا لبس فيه؛ وهو وجوب رحيل “سعد الحريري”.